حالة من الصخب والضوضاء والعنف اللفظي والخطابي السياسي والديني, تعتري المجال العام السياسي الواقعي, والافتراضي المصري. بيئة التوتر والعنف والخوف. تبدو جلية من فيضان الشعارات وخطاب الكلام الكبير الذي يقدم وصفات جاهزة صالحة لحل كل مشكلاتنا وأزماتنا دفعة واحدة, ويتقدم ساحة الكلام السياسي حاملا تفسيرا جاهزا لكافة الظواهر السياسية والاجتماعية والدستورية والدينية.. إلخ, بينما لا يمتلك منتجي هذا النمط الخطابي الشائع أية مقاربة جادة وموضوعية وعلمية لوصف وتفكيك وتحليل الظواهر والأزمات والمشكلات التي يتحدثون عنها. حالة مرضية يعاني منها الفكر السياسي والاجتماعي والديني المصري ذو النزعة الرغائبية التي تعلي من شأن أمنياتها وأحلامها, بل وعجزها علي واقع التردي في الواقع الموضوعي ومنطوق وبنية غالب أكلاشيهات الخطابات السياسية والحزبية التي تقوم علي العفوية واللغة الإنشائية والشعاراتية الأقرب إلي اللغة الخشبية, أو رغاوي الصابون وفق الوصف الذائع لخطاب اللغو المكتوب والمنطوق والمرئي. خطابات سياسية لم يبذل منتجوها من الجهد إلا قليلا في تقصي معرفة عميقة بالظواهر وجذورها وفروعها, والمشكلات المجتمعية الممتدة والمتفاقمة والحلول المطلوبة للخروج من دائرة التخلف البنيوي التاريخي التي نحياها, بينما دول صغيرة ومتخلفة سابقا في آسيا- الصاعدة بالصناعة والإنتاج والمعرفة التقنية-, كسرت طوق التخلف التاريخي, وانطلقت في مجال التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي, بل والسياسي, بينما لا نزال نعيد إنتاج شعاراتنا الجوفاء, وفكرنا السياسي الذي يعيد استنساخ تخلفه, بينما غالب أطراف اللعبة السياسية المقيدة يلهون باللغو حول القضايا والأفكار القديمة البالية. نحن نعيش مسرحية سياسية واجتماعية قديمة تعود إلي مسارح النصف الثاني من القرن الماضي, من كثرة الضوضاء وتفكك النص والحوار والممثلين, والفوضي, تحول النص الدرامي والتراجيدي حول مصائر مصر وأدوارها وتقدمها, إلي نص كوميدي أقرب إلي الكوميديا السوداء! من فرط التكرار لم نعد ندري أنضحك أم نبكي, نلهو أم نأخذ أنفسنا بالجدية والصرامة الواجبة لمن يريدون التطور؟! من كثرة ضوضاء اللاعبين في السياسة وبها, بدي وكأننا أمام' لعبة', وتمثيل, ولغو وتهريج سياسي لا يليق بأمة عريقة كالأمة المصرية.. واأسفاه! ثمة عديد المقترحات المطروحة حول تطوير هيكلنا الدستوري الذي لم يعد ملائما لتطورات الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي المصري, ولكن لا يزال بعض' السياسيين' يري أن بعض التعديلات الجزئية التي تم إجراءها, كافية في حين أن تحليل غالب التعديلات تكشف عن هيمنة نمط من التفكير التعبوي علي واضعوا التعديلات الدستورية في دوراتها الثلاث, ناهيك عن استمرارية بل وتدهور الفن والصياغة القانونية للقواعد القديمة والمعدلة من حيث الغموض والعمومية المجنحة, أو انطواء بعض النصوص علي تفصيلات أقرب إلي اللوائح, وليست للصياغات القانونية والدستورية الدقيقة والناصعة الدلالة والبيان. ثمة عدم ضبط للنصوص ووضوح في دلالاتها علي نحو ما كانت عليه غالب المواثيق الدستورية المصرية ذات التاريخ الطويل في إنتاج الدساتير والتشريعات واللوائح, وفق أرفع مستويات الفن واللغة والبلاغة القانونية المنضبطة! ثمة فجوة تطال الفلسفة السياسية والإيديولوجية للدستور, وما بين الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في بلادنا التي انتقلت من إيديولوجيا التعبئة السياسية والحزب الواحد إلي التعددية السياسية والحزبية المقيدة من ناحية, ومن الاقتصاد المخطط في إطار رأسمالية الدولة الوطنية إلي اقتصاد السوق من ناحية أخري. جوهر التناقض السياسي الراهن يتمثل في سبق تحرير السوق الاقتصادي وآلياته ولا يزال, واستمرارية انغلاق السوق السياسي في إطار ميراث الدولة التسلطية منذ23 يوليو1952, والمؤسس علي ثقافة سياسية تسلطيةautoriterian. منظومة من القيم وأنماط السلوك الامتثالية الخانعة التي تقوم علي الإجماع الإكراهي المفروض من قمة النظام إلي وسطه وقاعدته, وبتفويض قام علي مصادر للشرعية السياسية_ تحت راية تسيس الدين- تآكلت وتلاشت, مع التغير في إيديولوجيا النظام. يركز بعضهم علي بعض التعديلات الجزئية علي أهميتها وكأنها مفتاح سحري للفردوس الدستوري والسياسي المأمول, بينما تجربتنا التاريخية تشير إلي أن الفجوات بين بنية النصوص الدستورية والواقع, كانت واسعة دائما لأن تقاليد الدولة المركزية النهرية وسطوتها لا تزال هي الحاكمة للممارسة الدستورية والقانونية, حيث السطوة لمركز الحكم/ الحاكم أيا كان, ولاسيما في ظل نظام يوليو. ثمة حاجة موضوعية لتفكير مغاير يقوم علي إعادة النظر في أوضاع الدولة المصرية, لا التركيز فقط علي النظام التسلطي وسياساته التشريعية والاقتصادية والأمنية والدينية علي أهمية هذه القضايا وخطورتها وانعكاساتها. النظام السياسي التسلطي في الدوائر المقارنة يختزل الدولة وأجهزتها, بل ساهم ولا يزال في اختصار الجميع في محور الحاكم/ مؤسسة الحكم, في كافة مراحل النظام الجمهوري. ومن ثم نحتاج إلي ضرورة إعادة النظر في شكل العلاقة بين السلطات من الخلل في توزيع القوة إلي التوازن والتمايز الوظيفي بينهم, وفي إطار استقلال كامل لكل سلطة في إطار من التعاون والتفاعل الخلاق, بحيث لا تهيمن السلطة التنفيذية علي غيرها, وتغدو هي محور الدولة والنظام. من ناحية ثانية تحييد أجهزة الدولة البيروقراطية والأمنية في إطار عمليات التنافس السياسي, بحيث لا تنحاز سوي لسيادة القانون. ونحتاج إلي تصور تجديدي وفلسفي للنظام القانوني الكلي ومنظوماته الفرعية يدور حول تحرير قوانين العقوبات من القيود الضاغطة علي حريات الرأي والتعبير والنشر والاجتماع والتظاهر السلمي ومنظمات المجتمع المدني. نحتاج إلي إبراز التمايز الهيكلي بين الدولة والحكومة, حيث الاستمرارية التاريخية_ إلي أجل لا نعرفه حول مصائر الدولة القومية كونيا_ للدولة الأمة المصرية الحديثة. غالب التفكير السياسي النمطي السائد أيا كانت مدارسه وخطاباته يركز علي الجزئيات وعوارض المشكلات البنيوية لا جواهر الألباب المصرية. نحتاج إلي إصلاح وتجديد بنيات وهياكل الدولة المصرية النهرية الطغيانية, وأرثها التاريخي القمعي الذي همش التعدديات والتنوع المناطقي والعرقي والثقافي الذي لم يعد ملاءما لتطورات عصرنا الهادرة. لم تعد الدولة المصرية_ ونظائرها وأشباهها- تستطيع أن تمارس عمليات القمع' المشروع' علي واقع وحيوية أنماط التعددية علي اختلافها والحريات العامة والشخصية لصالح تقاليد الدولة المركزية النهرية التاريخي. ثمة حاجة لإصلاح الدولة وهياكلها ووظائفها حتي يمكن لها أن تؤسس لعمليات تمثيل المصالح والثقافات والأديان والمذاهب والأعراق داخل بوتقة من التفاعلات الحرة تحت حكم القانون الحديث ومبادئ المواطنة والمساواة. إصلاح الدولة هو جزء من عمليات تاريخية لتجديد الأمة المصرية_ أعرق الأمم في دائرة شرق أوسطية وعربية من الشظايا العرقية والقومية والدينية واللغوية_ في إطار المواطنة ومضاء الإرادة السياسية الحديدية الصارمة في مواجهة محاولات إعادة المرأة والمجتمع إلي عالم الحريم الشرقي ومخاوفه واستيهاماته وأخيلته المريضة وراء الحجب, وإنما الحزم السياسي والقانوني والأمني في تحرير المجال العام من كافة استراتيجيات الهيمنة الرمزية أو الدينية أو المذهبية أو العرقية.. إلخ, علي الحضور الحر والفاعل في إطاره. تمدد المجتمع وبات أقوي من الدولة المصرية الواهنة. مجتمع القوة الهشة التي ترتكز علي التفكك وغياب الخبرات التنظيمية, وضعف المبادرات والأخيلة' الفردية' أو' شبه الجماعية' في إطار' مجتمع مدني'! في طور التشكيل مجتمع الفوضي, و(التوهان) النخبوي بتعبير أنور عبد الملك وشيوع ظواهر اللاانتماء والتحذر الجماهيري والغياب عن زمن العالم الكوني. لابد من إعادة التوازن في علاقات القوة بين الدولة_ لا الحكومة_ وبين المجتمع وفئاته وشرائحه الاجتماعية علي صعيد عمليات التوزيع. نحن في حاجة إلي تفعيل المنظومات القانونية بعد إصلاحها لضبط أشكال الفوضي ومواجهة الخروج علي القانون عبر آليات الفساد في الوظيفة العامة وغيرها, أو عبر قانون القوة أو المكانة بكل آثارهما الخطيرة علي الاستقرار السياسي والاجتماعي في بلادنا. ثمة ضرورة نكررها قبل فوات الأوان لإصلاحات شاملة, وصرامة دولة القانون القائم علي توازن المصالح بين القوي الاجتماعية المتصارعة. من هنا نبدأ!