* صحفية منخرطة فى أنشطة وزارة الثقافة سألتنى: هل باع صلاح نفسه لفاروق حسنى؟ * ونائب فى البرلمان: عايزين صلاح بتاع زمان! * أحد المثقفين اعتبر صدور صحيفة عن وزارة الثقافة "تهديدا" للأمن القومى.. بينما تساءل آخر: كيف تسمج الدولة ل"شيوعى" أن يتقلد منصبا رسميا
العنوان أعلاه، كان هو تهمة من بين التهم التى تم إلصاقها برئيس تحرير جريدة القاهرة، ومؤسسها «صلاح عيسى». أما بقية التهم فهى أنه تخلى عن يساريته وكف عن النضال، وغير مبادئه، لمجرد قبوله برئاسة تحرير جريدة تصدرها وزارة الثقافة، روجها منافسون له وللجريدة وللوزير فاروق حسنى، فى الصحف والمجلات الثقافية والبرامج الحوارية، كما روجها محبطون من ثوار المقاهى والحانات، ومناضلو الأرصفة، ومروجو الشائعات ومحترفو النميمة،ممن لا يعملون ولا يريدون لغيرهم أن يعمل، فما بالك أن يعمل وينجح كذلك. مع أن كثيرين من قادة تلك الحملة كانوا ممن يعملون فى مؤسسات حكومية مماثلة، ولم يكن يعرف لهم أى نوع من التاريخ، ناهيك عن أن يكون نضاليا أو سياسيا . ............................ محررة ثقافية معروفة من مرتادى كل أنشطة وزارة الثقافة، وجهت لى مرة سؤالا صادما:هو صلاح باع نفسه ليه لفاروق حسنى؟ وحين أجبت مندهشة، وهل إقدامك على المشاركة الدائمة فى مؤتمرات الوزارة ولجانها المتنوعة، وسفرك ضمن وفود فى مهام تابعة لها،تعد بيعا وشراء كذلك؟ تجاهلت إجابتى ولاذت بالصمت. وقال لى نائب ممن منحه التزوير مقعده فى مجلس الشعب: عايزين صلاح المناضل بتاع زمان يرجع بقى. هؤلاء وغيرهم ممن تفرغوا لقيادة الحملة على القاهرة ورئيس تحريرها، لم يكن يهدأ لهم بال سوى بطرح من دخلوا معه فى حلبة هذه المنافسة الشريرة أرضا وتحطيمه، وشل قدرته لمنعه من مزاولة ما يظنون أنه يسحب البساط من تحت أقدامهم بما ينافسهم عليه، لكن خطأ كل هؤلاء أنهم لم يكونوا يعرفون شخصية «صلاح عيسى». قبل أن ينتهى عام 1999 بنحو ثلاثة أشهر، اتصل الأستاذان فتحى عبدالفتاح رحمه الله ورياض سيف النصر أمد الله فى عمره،بالأستاذ سمير رجب الذى كان رئيسا لمجلس إدارة وتحرير مؤسسة دار التحرير، ليلفتا نظره أن صلاح عيسى الذى يعمل بصحيفة الجمهورية سوف يبلغ سن المعاش فى اكتوبر من نفس العام.إذ كانت القاعدة المعمول بها آنذاك، ولعلها مازالت سارية حتى الآن، أن الصحفى الذى يبلغ سن المعاش فى المؤسسات الصحفية القومية، يمد له فى العمل عاما بعد آخر،ليس وفقا لقواعد ثابتة، بل طبقا لرغبة رئيس التحرير، التى يغلب عليها فى معظم الأحيان طابع الانتقاء. وكان صلاح عيسى قد عاد للعمل بالجهمورية عقب اعتصامه وإضرابه عن الطعام فى نقابة الصحفيين، والتدخل المحمود للنقيب إبراهيم نافع لمساندة حقه فى تلك العودة، بعد أن ظل مفصولا منها عشرة أعوام، عقب اتهامه بالمشاركة فى «انتفاضة الخبز» عام 1977 ، والتى برأ القضاء فيما بعد كل السياسيين المتهمين فيها. أوصل الزميلان الرسالة إلى سمير رجب، فطلب منهما أن يدعو صلاح للاتصال به. وحين استجاب صلاح لطلب زميليه، اتصل بمكتب سمير رجب، فلم يجده،لكنه ترك اسمه وطرق الاتصال به، والرسالة التى يريد إيصالها إليه مع سكرتارية مكتبه، وكانت الرسالة أنه يود أن يلتقيه حين يسمح وقته بذلك. لكن ماجرى، أن وقت سمير رجب لم يسمح له بذلك أبدا، ولم يتصل به نهائيا، ورفض صلاح كل المحايلات التى أبداها الصديق رياض سيف النصر لكى يعاود الاتصال برئيس التحرير، الذى أبدى اندهاشه وتعجبه لأن صلاح لم يتصل به سوى مرة واحدة فقط ! فى هذه الأثناء اتصل الاستاذ نبيل أباظة وكان مديرا لتحرير أخبار اليوم بصلاح طالبا منه أن يكتب عمودا أسبوعيا فى أخبار اليوم، وحين وافق على ذلك وبدأ النشر، عاود الزميلان الاتصال به ليخبراه أن سمير رجب غاضب، وأنه كان بصدد أن يمدد له لولا كتابته فى أخبار اليوم! ولأن صلاح كان من ذوى الإرادة الصلبة التى لا تهزمها الكبائر، فما بالنا بالصغائر، فقد مكنه ذلك من مواجهة كل أشكال الحصار والتهميش والمنع من العمل، فجلس فى البيت أكثر من عشر سنوات، بعد أن ترك فى ظروف مشابهة عمله بجريدة الأهالى، ليستكمل عددا من أهم كتبه، ويلبى طلب من يستدعيه للكتابة فى الصحف والمجلات العربية ، ويشرف بجانب ذلك على واحدة من أهم سلاسل الإصدارات فى تلك الفترة، وهو كتاب الأهالى الذى أسسه واختار عناوين إصداراته بعناية فائقة، إلى أن تغيرت الأحوال، وسادت الأهواء وتوقفت السلسلة عن الصدور! صدر العدد الأول لجريدة القاهرة الثقافية الأسبوعية يوم الثلاثاء 18 إبريل 2000، وفى صدره البيان التأسيسى، الذى يصف هويتها بأنها ليست جريدة للنخبة أو المتخصصين، ولكنها جريدة ثقافية عامة، تخاطب قارئ الصحيفة اليومية والأسبوعية بمختلف مستوياته. وحدد البيان التقاليد المهنية المتفق عليها بين وزارة الثقافة ناشرة الجريدة، وبين أسرة تحريرها التى تمثلت فى تحقيق عدم الخلط بين الإدارة والتحرير، وضمان استقلالية التحرير فى تحديد الشخصية المهنية للجريدة والرؤية الفكرية لها. حمل البيان التأسيسى الذى كتبه صلاح عيسى عنوان «دع مائة زهرة تتفتح ولو أدمتك أشواكها»، فضلا عن مقولة قاسم أمين التى تم اتخاذها شعارا دائما للجريدة: الحرية الحقيقية تحتمل إبداء كل رأى ونشر كل فكر وترويج كل مذهب. فى أثناء فترة الإعداد لإصدار «القاهرة» سألت أسرة تحريرها الوزير فاروق حسنى عن تصوره للجريدة فأجاب: أريد مطبوعة يصدرها المثقفون ليقرأها الشعب، لا مطبوعة يصدرها مثقفون فلا يقرأها إلا المثقفون.وبهذا المفهوم الاجتماعى الشامل للثقافة صدرت «القاهرة»، وحددت رسالتها فى أنها منبر للحوار الديمقراطى بين تيارات وأجيال الأدب والفن والثقافة، وساحة لإدارة الحوار بين المثقفين المصريين والعرب، تشجعهم على الاعتراف المتبادل بحق الاختلاف، الذى يؤمن أن التوصل لمشتركات وطنية وقومية فيما بينهم لا يتحقق سوى بالتنوع. فضلا عن أنها جريدة تسعى لإحياء روح الانتماء بالدفاع عن الذاكرة الوطنية والقومية، ومقاومة روح التعصب والجمود والإرهاب الفكرى، بسعيها لتخليص التراث الوطنى والقومى والدينى من الشوائب التى علقت به فى فترات التدهور، بالإضافة لرفض كل أشكال التطبيع الثقافى مع إسرائيل، وهى القاعدة التى سبق أن أرساها فاروق حسنى فى وزارته، وتمسك بها، وظل يقاوم أى ضغط للتخلى عنها، وكانت تلك واحدة من الأسباب الرئيسية التى لم تمكنه من الفوز فى معركة اليونسكو. ما إن صدر العدد الأول من «القاهرة» حتى قامت الدنيا ولم تقعد. ولعل أهم الأسباب وراء ذلك، أن من قاموا بالحملة على القاهرة قبل أن تصدر، تصوروا أنهم بالإسفاف وحملات التشهير السوقية والابتزاز سوف ينجحون فى منع صدورها نهائيا. أحد الأدباء المنتشرين فى أجهزة الدولة الثقافية والإعلامية وغيرها من الأجهزة، قال بثقة يحسد عليها فى أحد برامج التليفزيون المصرى: إن صدور صحيفة عن وزارة الثقافة خطر يهدد الأمن القومى المصرى. وتساءل آخر كيف يسمح من مسئول فى الدولة أن يقلد «شيوعيا» منصبا بها؟ دون أن يعد ذلك فضيلة تحسب للدولة ولمسئوليها. والملاحظ هنا أن الهجوم على «القاهرة» قد اتخذ هذه المرة منحى التحريض على الوزير فاروق حسنى، وشارك فيه مسئولون فى دوائر السلطة من بين منافسيه، ممن ظنوا أن صدور «القاهرة» سوف يعزز نفوذ وزير الثقافة لدى مؤسسة الرئاسة، وهو ما لا يقدرون على تحمله أو السكوت عليه. وطبعا لم يتخلف عن المشاركة فى الحملة من مشوهى مبدأ «استقلال المثقف» ودعاته، ممن يدعون لمقاطعة مؤسسات الدولة الثقافية، ويرفضون جوائزها، ويتكالبون على نيلها من دول عربية ومؤسسات أجنبية، فضلا عن نشر كتبهم فى دور النشر المملوكة للدولة! قبل سنوات، كنت أراجع بعض صفحات جريدة «الأهالى» تمهيدا لإرسالها للمطبعة، ففوجئت بمقال لم أكن قد اطلعت عليه، بحكم مسئوليتى كمدير للتحرير؛ منشورا بعناوين مثيرة، يتضمن سبا وقذفا وتشهيرا، وتاريخا ملفقا بشأن تولى صلاح عيسى رئاسة تحرير القاهرة. وبين تلك الترهات أنه حولها من مجلة إلى صحيفة، وأنه استولى على رئاسة تحريرها بعد «أن صك مؤامرة لإبعاد نسيبه رجاء النقاش عنها» وهى جملة نصية من المقال المذكور. اتصلت بالأستاذ خالد محيى الدين» ودار ما دار من حديث بيننا، وفى اليوم التالى صدرت «الأهالى» بدون نشر المقال المذكور! فى حوار معه وردا على أسئلتى قال لى الفنان فاروق حسنى، إنه هو من اختار اسم «القاهرة» للجريدة، وأن لا علاقة لها بالمجلة التى كان يصدرها «غالى شكرى»، وأنه لم يجد أفضل من ناقد وكاتب فى حجم رجاء النقاش لكى يتولى رئاسة تحريرها. وأضاف الوزير أنه طلب من رجاء النقاش العمل على إصدار صحيفة يقرؤها كل الناس حتى المهتمين بكرة القدم، وبعد شهور أصدر رجاء عددا بديعا من مجلة القاهرة، لكنه لم يكن تنفيذا للفكرة التى أنشدها، وهى صحيفة ثقافية عامة، بسعر زهيد ترتقى بذائقة الجمهور العادى الثقافية، وتمتعه فى آن واحد، وتقرب إليه ما يظن أن لن يكون بين اهتماماته من فنون متباينة، لكن رجاء تمسك بأن تكون القاهرة مجلة، واعتذر عن مواصلة العمل بها. يواصل فاروق حسنى شهادته بأنه عرض الأمر على صلاح عيسى فقبل. ومن عندى أقول إن صلاح حين اشتد الخلاف بين الوزير ورجاء النقاش حول طبيعة «القاهرة» قدم إلى رجاء مشروعا لتحويلها إلى صحيفة، لكنه تمسك بوجهة نظره بأن تكون مجلة، ربما استنادا إلى خبرته الناجحة فى تأسيس مجلة الدوحة. ولعل رجاء تصور أن الموضوع قد انتهى بانسحابه من المشروع، وأن صلاح عيسى سوف يرفض بدوره مواصلة العمل بها تضامنا مع رؤيته، وغضب حين قبل بغيرها، وتولى «أولاد الحلال» فيما بعد ذلك إذكاء النار فى معركة متوهمة بينهما، كان وقودها فسادا أخلاقيا لا مثيل له، ومنافسة شريرة لاحدود لتدنى أدواتها. امتشق قادة الحملة على جريدة «القاهرة» ثوب الأخلاق والفضيلة، و يضيق المقام هنا عن استعراض بعض تفاصيلها، وحين تصدى صلاح عيسى للإنفاق السفيه، وغير المشروع لأموال «القاهرة» التى جاءت من صندوق خصصه فاروق حسنى لتمويلها يتبع صندوق التنمية الثقافية، تورات الاستقامة ليجد من يقول له: هو أنت بتدفع من جيبك، دى فلوس الحكومة اللى زى الرز! كان صلاح عيسى مؤمنا من قبل توليه رئاسة تحرير «القاهرة» أن الوزير «فاروق حسنى» واحد من البنائين الكبار فى مجال الثقافة المصرية، وأنه امتداد لمدرسة الدكتور ثروت عكاشة التى نشأ وتربى وعمل بها، وأنه حين تخمد معارك الغبار التى يثيرها منافسوه، وتنكسر موجات الهجوم التى لاحقته منذ اليوم الأول لتوليه مسئوليته، سوف ينصفه التاريخ ويضعه فى مكان يليق بإنجازاته. وكان هذا أحد العوامل المهمة التى رحب بسببها صلاح لتولى رئاسة تحرير «القاهرة». ولأنه لا يصح إلا الصحيح فى نهاية المطاف، فقد نجحت القاهرة كمطبوعة ثقافية عامة وغير مسبوقة، وقدمت أجيالا جديدة من الكتاب والمحررين الثقافيين، وسلطت عليهم الضوء، كما قدمت مدرسة جديدة مميزة فى الإخراج الصحفى، وصارت منبرا مستقلا بحق لحوار فكرى خلاق حول قضايا الوطن والأمة. ومن الإنصاف القول إنه لولا الرؤية المستنيرة للوزير الفنان فاروق حسنى، التى ساندت فكرة أن تكون «القاهرة» جريدة تصدرها وزارة الثقافة، لكنها ليست بوقا متحدثا باسمها، وكان ذلك أحد أوجه المتاعب التى تحملتها الجريدة وهيئة تحريرها بصبر، بعد أن غرست زهورا فى حقول من الأشواك، وحركت مياها فى أنهار ساكنة، وحق عليها أن تدفع الثمن!