بعد إغلاق مجلتى «الرسالة» و«الثقافة» فى عام 1953، انتهت مرحلة ثرية وغنية كانت المجلتان تلعبان أدوارا ثقافية وفكرية كبيرة فيها، وكانت المجلتان تغطيان المساحة الثقافية المصرية، وكذلك العربية بجدارة. كان أحمد حسن الزيات، وحوله ومعه حشد من الكتاب والمفكرين والنقاد والشعراء والقصاصين ينفخون فى نار الثقافة بقوة، لتشتعل وتضىء. وكانت مجلة «الرسالة» وقد صدر عددها الأول فى 15 يناير 1933، وكتب الزيات فى مقدمة هذا العدد عن العزيمة التى تغلبت على أى تردد، لذلك صدرت المجلة، لأن الواقع هو الذى فرضها، وكان هناك من يقدرون على تلبية احتياجات هذا الواقع الثقافية، وجاءت أقلام طه حسين وعبد الوهاب عزام والعراقى جميل صدقى الزهاوى، وتوالى الصدور، ليحمل فى كل عدد اسما جديدا، وموضوعات جديدة. كذلك كانت مجلة الثقافة، التى صدر عددها الأول فى 3 يناير عام 1939، لتسهم بوجهة نظر أخرى، ربما لم تحمل وجهة النظر هذه فكرا نقيضا، ولكنه بالتأكيد كان مختلفا، وكانت أكثر حدة، تبعا لرئيس تحريرها وصاحب امتيازها الدكتور أحمد أمين، الذى كتب عن ضرورة صدور مثل هذه المجلة، وجاء العدد حاملا درر طه حسين وتوفيق الحكيم وإبراهيم عبد القادر المازنى. إذن بعد زوال المجلتين، أو بعد زوال المرحلة، وبعد الابتعاد الاختيارى للزيات وأحمد أمين عن مجالات إدارة الصحافة الثقافية، كان لا بد من أن تفرز المرحلة قادتها وفرسانها ونجومها، وكان الشاب والطالب فى كلية الآداب رجاء النقاش هو النجم الصاعد لهذه المرحلة، رغم الظروف الاقتصادية والاجتماعية التى كانت تحيط به، وكان حتما عليه بصفته الأخ الأكبر لعائلة كبيرة، أن يرعاها، ويجلب لها الخير من كدِّه. فى عام 1953 كان رجاء الطالب فى كلية الآداب، الذى يسكن فى مدينة شبرا، أحد المترددين على مقاهى المثقفين الكبار، وهناك تعرّف على عدد منهم، وكان رجاء ابنا لعبد المؤمن النقاش، مدرس اللغة العربية، الذى كان يعشق الثقافة، وكان حريصا على شراء المجلات والكتب والدواوين، وكان رجاء ينهل من هذه المكتبة أجمل وأهم ما فيها. كان رجاء قريبا من العم زكريا الحجاوى، الذى كان قريبا بدوره من القائمقام أنور السادات عضو مجلس قيادة ثورة 23 يوليو، وفى ذلك العام قرر جمال عبد الناصر إنشاء جريدة للثورة، فكانت جريدة «الجمهورية»، وقرر أن يكون أنور السادات هو القائم عليها، واستدعى السادات زكريا الحجاوى لكى يكون مساعده الأول، واستدعى الحجاوى الشاب رجاء النقاش لكى يعمل معه فى الجريدة بمرتب قدره عشرة جنيهات، وكان مبلغا محترما فى ذلك الوقت، والتحق رجاء بالجريدة على الفور، وكان طالبا فى الجامعة. ولكن يحكى رجاء أنه صدم قبل أن يصدر العدد الأول، تم الاستغناء عن زكريا الحجاوى، ورفيق السادات الأول، الذى كانت له أفضال عليه كثيرة، وهو الذى أخفاه عندما كان هاربا، ووفر له مأوى فى بلدته، ولكن ما حدث، أن أحد القريبين من أنور السادات، أبلغه بأن الحجاوى يتآمر عليه، فكان جزاء الأخير الاستبعاد عن الجريدة، دون أى مناقشة، وبالطبع تم التخلص من كل الذين أتى بهم الحجاوى تباعا، وعلى رأسهم رجاء النقاش. بعدها تقلب النقاش فى عدة صحف ومجلات، منها مجلة «روز اليوسف»، التى كان يكتب فيها موضوعات ثقافية واجتماعية مثل موضوع «بنات بدون روج» المنشور فى 13 يونيو عام 1961، وكان فى ذلك الوقت يراسل مجلة «الآداب» اللبنانية، التى أصبحت البديل والامتداد العربى الأول لمجلتى «الرسالة» و«الثقافة»، وتجلّت مواهب النقاش الثقافية والصحفية فى مجلة «الآداب»، وكان يعمل عملية تغطية النشاط الثقافى فى مصر بامتياز. ورغم أنه كان يراسل مجلة مرموقة ومهمة، راح يعمل فى بعض الإصدارات الصحفية المصرية، من بينها مجلة «البوليس»، التى كان يرأس تحريرها الكاتب سعد الدين وهبة، وكانت المجلة تقدم مادة صحفية وثقافية وسياسية ممتازة، وكان رجاء يقدم مقالاته ودراساته فى المجلة، ولكنه كان ينتابه الحرج من اسمها «البوليس»، وسرعان ما تغير اسم المجلة إلى «الشهر»، وظل رجاء يعمل بها، حتى انتقل إلى صحيفة «أخبار اليوم»، ثم مجلة «الكواكب»، ثم مجلة «الهلال»، وفى كل هذه المجلات كان رجاء أستاذا كبيرا فى إثارة القضايا الثقافية، والكشف عن أسرارها ولآلئها. ويكفى أنه قدم لنا الكاتب السودانى الطيب صالح فى رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال»، ونشرها فى سلسلة روايات الهلال، وكذلك هو أول من قدّم شعراء الأرض المحتلة، ونشر ديوانى «آخر الليل» للشاعر محمود درويش، و«ادفنوا موتاكم وانهضوا» للشاعر توفيق زياد، وذلك فى مجلة «الهلال»، ودأب على اكتشاف المواهب الشعرية والقصصية الجديدة. وظل النقاش يقدم المادة الثقافية الفريدة طوال حياته، ولا ترتبط هذه المادة بمجلة أو جريدة، ولكن رجاء كان حريصًا على تقديم مادته الفريدة أينما وجد، إذ راح يعانى فى مجلة «الهلال»، التى لم يصبح رئيسًا لتحريرها، بسبب يوسف السباعى، فعندما قررت الكاتبة أمينة السعيد وهى فى منصب رئيس مجلس إدارة «الهلال» تعيين رجاء النقاش رئيسًا لتحرير المجلة، كبديل عن التنويه الذى ينشر فى صدر كل عدد «هذا العدد تحت إشراف رجاء النقاش»، ولكن السباعى ذهب إلى أنور السادات، وقال له: لو رجاء النقاش أصبح رئيسا لتحرير المجلة سوف أترك منصبى»، وقد حدث بالفعل إبعاد النقاش عن رئاسة تحرير المجلة، فيغادر رجاء القاهرة فى 1979 ليشارك فى إنشاء جريدة «الراية» القطرية، وبعدها يؤسس مجلة «الدوحة»، التى جعل منها منبرا ثقافيا ثقيلا، وقبل وبعد كل هذا قدّم النقاش باقة من الكتب والإصدارات الثقافية، تعدّ علامة على تفوقه العالى فى مجال الصحافة الثقافية فى القرن العشرين.