هناك مقولة بأن في مصر نهرين: أحدهما النيل يمدها بالماء, والثاني يمدها بمدد لا ينضب من المنشدين والمقرئين, مثلما يمكننا القول بأنها بلد النيل هبته فهي أيضا دولة التلاوة والانشاد والابتهالات والتواشيح. هل يمكن الحديث عن المداحين الشعبيين دون الحديث عن زكريا الحجاوي؟ نعتقد أنه لا يجوز, فهذا أمر لا يرضي الفن ولا محبيه, فزكريا صاحب أفضال جليلة وجمائل أغرقت فن المديح المصري, ليس فقط لأنه قرر أن يلف مصر كلها بحثا عن المداحين, وإنما لأنه قدم مثلا في كيفية التفاني, والتضحية, من أجل ما تحب, فعاش فقيرا ومات وحيدا, رحمه الله وأطال في عمر إبداعه. ولد زكريا الحجاوي14 يونيو1915 في مدينة المطرية بمحافظة الدقهلية, وهي مدينة ضاربة في أعماق التاريخ, وكثير من أهلها يعملون بالصيد إذ أنها تطل علي بحيرة المنزلة حصل علي الشهادة الابتدائية القديمة, وبلغ من تفوقه أن يمنحه الملك فؤاد الأول والأخير ساعة يد ثمينة وأربعين من الجنيهات الذهبية. بعد تخرجه انضم لمدرسة الصنايع والفنون, وهي مدرسة تؤهل لمهنة المهندس المساعد أو ما أشبه, وفي المدرسة يقود الحجاوي إضرابا عنيفا علي رأس طلاب المدارس عام1937 م احتجاجا علي اتجاه وزارة المعارف التربية والتعليم فيما بعد بتعيين هؤلاء الخريجين علي الدرجة الثامنة, وانتهي الإضراب بفصل قائد الإضراب ومجموعته التي ضمت16 طالبا, ولكن زكريا الحجاوي ورفاقه سرعان ما عادوا لمقاعد الدراسة فحصلوا علي شهادة الدبلوم. ويذكر أن أحد رفاق زكريا في الإضراب كان الطالب محمود ذو الفقار المخرج فيما بعد لم يكن العمل صبي مهندس من طموحات زكريا, فقد ندهته نداهة الفن والأدب فاتجه إلي الرسم, وبعدها تحول لدراسة الأدب اليوناني والأدب العربي, ثم درس الموسيقي علي يد رجل موسيقي يدعي عبد الحميد الألفي. وهكذا حصل الحجاوي علي زهرة من كل بستان, وأصبح يجيد الرسم والعزف والكتابة, وإن لم يستقر في مراحله المبكرة علي مجال معين يعمل من خلاله. وفي1942 يقرر الحجاوي احتراف الكتابة, فيعمل بالصحافة من خلال جريدة المصري. طوال هذا الوقت كان الحجاوي مضروبا بالمديح والفن الشعبي كان يري ويردد ويقول دائما إن هذا الفن موجود في مصر منذ بناة الأهرام, وفي التراتيل الدينية والاحتفالات المصرية القديمة, وكان أول ارتباط للحجاوي بالفن الشعبي من خلال الكتابة, وبحسب الكاتب سامي كمال الدين في كتابه أحزان الساخرين فإن الحجاوي قرر مع مجموعة من أصدقائه هم أحمد رشدي صالح وحسن فؤاد مؤلف فيلم الأرض وأحمد شوقي الخطيب المحامي إنشاء مجلة خاصة بالفن الشعبي, فاقتطع رشدي صالح من راتبه الشهري جزءا, وكذلك فعل حسن فؤاد, أما زكريا فلم يكن يستطيع هذا لضآلة راتبه فقرروا أن يهدي عائدات كتابه سيد درويش حياته وفنه للمشروع, لا تندهش عزيزي القاريء ففي هذا الوقت كانت الكتب لها عائدات المهم ذهب الحجاوي إلي الدكتور سليم حسن أستاذ الآثار العالمي, وصاحب الموسوعة الشهيرة, وأجري معه حديثا عن الفن الشعبي في مصر القديمة, وذهب إلي بيرم التونسي ليتحدث عن الزجل, وذهب رشدي إلي الدكتور الأهواني والدكتور عبد الحميد يونس, وللدكتور محمد كامل سليم, لكن الموضوع فشل, وفي تقديرنا الشخصي المتواضع فإن فشل المجلة لم يكن بسبب البوليس السياسي, كما ينسب إلي الحجاوي وإن كنا نشك في ذلك وإنما كان هذا الفشل يرجع إلي أن الحديث عن الفن الشعبي كان نظريا ففنون المديح, وما إلي ذلك كانت تحتاج أولا إلي اعادة تعريف وتقديم, وليس إلي تنظير, وهو ما أدركه الحجاوي في وقت قصير لاحق, فقام بجولته التي نعتبرها الأهم في مسيرة الفنون الشعبية في مصر. ولكن قبل أن نتحدث عن جولات الحجاوي, وتفرغه للفن الشعبي علينا أن نشير إلي أن الحجاوي لم يكن, كما يقال ويتردد صعلوكا, وليس أدل علي هذه النظرة من حكاية عائشة الريس التي ترويها عن علاقة زكريا بالرئيس الراحل أنور السادات. فكلنا نعرف أن الرئيس السادات كان متهما في مقتل أمين عثمان, وأنه قرر الهرب إلي مكان أكثر أمانا, وفي الوقت نفسه أقرب إلي مدن القناة لمواصلة الكفاح ضد الاحتلال البريطاني في مصر, لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن الذي قام بتهريب الرئيس الراحل كان فنان الشعب زكريا الحجاوي, الذي كان معتادا علي استضافة أصدقائه من الفنانين والأدباء, وغيرهم في مدينة المطرية مسقط رأسه لقضاء وقت الإجازات في بحيرة المنزلة ين الصيادين والمراكب وشباك الصيد, وهناك رواية ترويها الحاجة عائشة السوداني داود الريس الشهيرة ب عائشة الريس والطريف أن رواية السيدة عائشة نشرتها مجلة إقليمية تصدر داخل نطاق الدقهلية, وتقول فيها: كان زكريا يأتي دائما ومعه بعض أصحابه من مصر القاهرة ينزلون عندنا في بيت والدي علي أنهم معجبون بالبحيرة والصيادين مثل الصحفي محمود السعدني والممثل محمد رضا, وذات يوم جاء زكريا الحجاوي ومعه شاب أسمر يرتدي زيا فلاحيا وعلي رأسه عمة وقدمه إلي والدي وإخوتي علي أنه صديق, ومعجب ببحيرة المنزلة, وسيقيم عندنا بعض الوقت ضيفا عزيزا. كان زكريا يصطحبه إلي البحيرة, يركبان المركب مع الصيادين طوال النهار, يصطادان ويطبخان طبيخ الصيادين, وعند عودتهما في المساء كنا نعد لهما السمك بأنواعه, خاصة الصيادية التي كان يطلبها ثم يخرجان في المساء يسهران في قهوة علي شاطيء البحيرة مع الصيادين, وأستمر هذا الحال لمدة أشهر, وكان يذهب القاهرة أيضا إلي منزل زكريا الحجاوي في الجيزة, وبعد قيام ثورة23 يوليو1952 كشف زكريا الحجاوي لنا الحقيقة, وعرفنا بأن من ضايفناه هو البطل محمد أنور السادات الذي كان متهما بقتل أمين عثمان. كان زكريا إذن قريبا لمجلس قيادة الثورة, وكان صحفيا لامعا, وليس أدل علي نفوذه من تلك القصة التي يرويها الكاتب الكبير الراحل رجاء النقاش, فيقول: كنت أسكن في حارة مهدي الصغيرة الضيقة في شبرا, ولم يكن زكريا الحجاوي يعرف عنوان بيتي ولكنه كان يعرف اسم الشارع, وكنا في أواخر سنة1953 وكان يعرف أنني أعاني مع أسرتي من محنة صعبة, وكان الحل الوحيد هو أن أترك الجامعة, وألا أستكمل تعليمي, وأن أبحث عن أي عمل أخرج به أنا وعائلتي من المحنة! ذات صباح فوجئت بزكريا الحجاوي في بيتي سألته كيف وصلت إلي البيت يا أبي كان هذا هو اللقب الذي ينادي به رجاء أستاذه الحجاوي فقال: إنني أعرف اسم الشارع الذي تسكن فيه, جئت إلي الشارع وطرقت كل الأبواب, وسألت في كل الشقق عنك حتي عثرت عليك أخيرا إنني منذ ساعات أبحث عن شقتك. لماذا تعبت يا أبي كل هذا التعب في البحث؟ عندي لك خبر سعيد لقد عرضت مشكلتك علي أنور السادات المسئول عن جريدة الجمهورية, وقلت له إنك طالب جامعي مجتهد, وإنك مهدد بأن تتوقف عن تعليمك بسبب ظروفك, فقرر تعيينك في أرشيف جريدة الجمهورية بعشرة جنيهات في الشهر, وعليك أن تبدأ العمل منذ اليوم, وقبل صدور الجريدة, وسيكون العمل في المساء, فلن تتعطل عن دراستك. وكان هذا القرار طوق النجاة لي ولعائلتي في وقت كانت النجاة فيه صعبة, بل ومستحيلة. كما كان الحجاوي كاتبا للقصة القصيرة يعتبره يوسف إدريس, وكلنا نعلم من هو يوسف إدريس, رائدا من رواد القصة القصيرة, إذن لم يكن صاحبنا صعلوكا متجولا, أو مضطرا لأن يجوب قري مصر بحثا عن المديح والمداحين ونجوم الموالد الشعبية, لكنه فعل ذلك ففي عام1954 قرر زكريا الحجاوي أن يجوب القري والكفور والنجوع حتي يصل إلي كل موهبة في مصر تصلح لأداء الفن الشعبي مديحا كان أو سيرة أو موالا, فاكتشف خضرة محمد خضر وتزوجها, وطلقها في احتفال مهيب, وكنا قد نشرنا قصة خضرة كاملة, واكتشف فاطمة سرحان, واكتشف شوقي القناوي ومحمد طه وأبو دراع ومتقال قناوي, وهو صاحب فكرة مسرح السامر والثقافة الجماهيرية التي يفخر المنشدون بانتمائهم لها مهما وصلوا إلي نجاح خارجها ويعتبر كذلك من رواد الكتابة الإذاعية, ورائدا في تقديم السير الشعبية التي أصبحت بفضله من أشكال الفن الإذاعي, وقد بلغت أعماله الإذاعية60. كما قدم للتليفزيون العديد من الأعمال منها: سيد درويش, أدهم الشرقاوي, وقدم للسينما العديد من السيناريوهات وحوارات الأفلام منها: أحبك يا حسن. وله دراسات علمية نشرها في مجلة الرسالة الجديدة عن الفن الشعبي المصري, حيث تعتبر أولي الدراسات العلمية في هذا المجال. وما نسجله هنا في أسطر قليلة استغرق أعواما وفيضانا من العرق والدم, وقد قام الحجاوي بتأسيس عشرات الفرق, وإقامة عشرات السرادقات لمداحين شعبيين من أول فاطمة سرحان, وحتي شوقي القناوي, وهو صاحب أوبريت أيوب المصري, وصاحب ملحمة أمير المؤمنين عمر. كل هذا الجهد, ويرحل زكريا الحجاوي وحيدا غريبا, ففي عام1971 استدعته دولة قطر ليؤسس هناك مركزا للفنون الشعبية, ولم يمكث هناك سوي أربع سنوات ليرحل هناك في ديسمبر1975 في أزمة قلبية, بعد وفاة الحجاوي كرمته الدولة ومنحت أسمه شهادة تقدير من أكاديمية الفنون, كما غيرت أسم مسرح السامر إلي مسرح زكريا الحجاوي ومنحته وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي, وربنا يرحم الجميع.