هندسة عين شمس تنجح فى إنتاج أثاث وباركيه و20 صناعة مختلفة من جريد النخيل «القايات» تجربة حية لإقامة صناعات وإتاحة فرص العمل بالقرى الأكثر فقرا بصعيد مصر
مع إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي، إنشاء أكبر مزرعة للتمور فى العالم تضم مليونين و500 ألف نخلة لأفخر أنواع التمور وذلك فى إطار توجه الدولة لتعزيز الصناعات الغذائية ودعم قدرات مصر من صادرات التمور وإقامة نموذج زراعى صناعى متكامل، تطرح الأهرام اليوم تجربة بالغة الأهمية فى زراعة النخل حيث من الممكن حال الاستفادة من مخلفات النخل أن يتم تعزيز خفض الاستيراد من الأخشاب وتعزيز أكثر من 20 صناعة مختلفة مثل الأثاث وخشب الباركيه . تلك التجربة المهمة التى أجراها أجيال من الباحثين بكلية الهندسة جامعة عين شمس تحت إشراف د. حامد الموصلى للتعامل مع الموارد الطبيعية من الأخشاب حيث يتم الاستفادة من المخلفات الزراعية من سعف النخيل لإنتاج ألواح تماثل الخشب ومنتجات منزلية بما يسهم فى إحياء العديد من الصناعات التراثية بالقرى وإتاحة الفرص لإقامة صناعات متوسطة من المخلفات الزراعية وتحويل المخلفات من وقود لتلويث البيئة إلى خامات للصناعة. قبل بدء موسم الشتاء من كل عام، يحرص المزارعون فى مصر على تقليم النخيل لتجنب إصاباتها بالأمراض ولإعدادها للمحصول المقبل. عمل دءوب بالغ الخطورة يقوم به الفلاحون حيث يتسلقون النخيل بالحبال لتقليمها وتنظيف الشجر من الأشواك والسعف. وبعد أيام من عمليات التنظيف تبدأ مرحلة أخرى بجمع تلك المخلفات من أسفل النخيل وحرقها بعيدا. يعتاد الناس حرق المخلفات الزراعية للتخلص من أعباء النقل وتجنب إصابة الأشجار المثمرة بالأمراض. تلك العادة كثيرا ما تسببت فى تلوث هواء المدن برماد الحرائق أو السحابة السوداء. لماذا يتم تقليم النخيل ؟ يقول د. سامى القصرى أستاذ الفاكهة بكلية الزراعة جامعة القاهرة يسمى النخيل الشجرة المباركة وذلك لإمكانية الاستفادة من كل أجزاء النخيل دون أى فاقد أو إهدار. كما تعد مرحلة تقليم النخيل أولى المراحل فى عملية الاستعداد لموسم الزراعة، حيث تتم خلال شهر ديسمبر من كل عام بتنظيف وتهذيب النخيل من الجريد والالياف بما يسهم فى دخول أشعة الشمس إلى أجزاء النخل وتلقيح الشجر على أمل زيادة إنتاج المحصول من التمور. وتسهم عمليات التقليم السنوية فى زيادة نمو النخلة وازدياد حجم العراجين وإذا لم يتم الاعتناء باشجار النخيل فى هذه الفترة فإنها تضعف ولا تعطى إنتاجا جيدا كما يتسبب إهمال النخيل فى نشوب الحرائق وتلف الشجر لذلك يجب أن يلى عملية التنظيف جمع جريد النخيل والتخلص منه إما ببيعه أو حرقه. وكما هو معروف فالمزارع تنتج مئات الأطنان من مخلفات النخيل ويمكن أن تستغل بالاقتصاديات الوطنية ولكن للأسف لا يوجد تخطيط للاستفادة من مخلفات النخيل وإقامة صناعات على نطاق كبير فمعظم الصناعات الحالية على نطاق صغير وفى محافظات محدودة مثل الفيوم وسيوة والوادى الجديد. وتقول د. أمل النواوى المدرس بمعهد تكنولوجيا الأغذية بمركز البحوث الزراعية إنه طبقا لموروثات دول العالم العربى التى ينتشر بها النخيل منذ آلاف السنين، فإنه يتم الاستفادة من التمور فى صناعات غذائية عديدة مثل الخل، والدبس «العصائر»، كما يتم تحويل بذور التمور إلى قهوة، إضافة إلى طحن السعف واستخدامه كعلف حيوانى وتصنيع بعض العلب والمشنات من السعف. وتشير إلى أنه لا توجد أى إحصاءات أو تقديرات لحجم الإنتاج السنوى من مخلفات النخيل وهو أمر بالغ الأهمية إذا أردنا إقامة صناعات من الجريد والمخلفات الزراعية وأن تكون هناك آليات واضحة لتعزيز الاستفادة من كل المخلفات الزراعية بدلا من حرقها وتلويث البيئة. إحياء التراث التقنى تلك المشكلة ظلت سنوات محل دراسة العديد من المراكز البحثية، ومنها فريق بحثى بكلية الهندسة بجامعة عين شمس بالقاهرة بقيادة د. حامد الموصلى أستاذ الهندسة الميكانيكية حيث سعى لتحويل المخلفات من عبء إلى مواد خام لأكثر من 20 صناعة لدعم التنمية بالريف. يقول د.حامد الموصلي: «وجدت فى جريد النخيل وسيطاً رائعاً لتجسيد فكرة التنمية الذاتية للقرية المصرية والعربية من الناحية الحضارية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية». وفقا للأرقام فإن النخيل مورد طبيعى ومتجدد وموجود فى كل محافظات مصر، بإجمالى 12 مليون نخلة إناث. ويرتفع الاجمالى إلى 100 مليون نخلة فى كل الدول العربية. وللنخيل تاريخ طويل مع المصريين فقد استعان القدماء بجذوعه فى عمل سقوف منازلهم ومقابرهم المبنية بالطوب اللبن. كما صنعوا تيجان أعمدة معابدهم على شكل قمة النخلة بما تحمله من جريد نخيل. كذلك تثبت الأدلة التاريخية أنهم صنعوا الغرابيل مستخدمين فى صنعها خوص النخيل وليفه. كما كانوا يصنعون فخاخ الصيد والاقفاص الشائع استخدامها حتى الآن وكذلك الأسرة والكراسي. خشب من جريد النخيل نقطة أخرى ضاعفت من حجم الاهتمام بهذا المشروع البحثي، ففى مصر لا تتوافر الغابات، مما يعنى أن هناك حاجة مستمرة لاستيراد الأخشاب والمنتجات الخشبية لتلبية الاحتياجات المتزايدة لمجتمع ثلثاه لم يتعد الثلاثين عاما ويطمح فى تلبية متطلباته من الأجهزة والخدمات الاستهلاكية. لذلك سعى الفريق البحثى لدراسة المواصفات الميكانيكية لجريد النخل ومدى تشابهها بالأخشاب. لم تكن المهمة سهلة فالنخيل منتشر فى أرجاء مصر وهناك الكثير من الاختلافات الظاهرية للجريد مثل اللون والملمس وبسبب العديد من العوامل منها طبيعة التربة والمياه وأصول سلالات النخيل المنزرعة فى كل إقليم. على مدى شهور طويلة جمع الباحثون عينات جريد النخيل من مختلف المحافظات ثم تلى ذلك تجارب ومقارنات وفقا لخواص كثيرة للجريد. وأثبتت النتائج أن المواصفات الميكانيكية لسلالات جريد النخيل كافة تتوافق مع المواصفات الأمريكية للأخشاب الصلدة والطرية. كما تم إرسال العينات للتقييم إلى معهد ميونخ لبحوث الأخشاب وأثبتت نتائج الاختبارات أن ألواح كونتر الجريد تلبى المواصفات الألمانية وتضاهى فى مواصفاتها الميكانيكية الألواح المصنوعة من الأخشاب. «هذا المشروع فتح الباب للانتقال بثقة أكبر للمرحلة التالية وهى نقل العمل والتجارب التطبيقية من المعمل إلى القرية لاستخدام جريد النخيل بديلاً للأخشاب المستوردة» كما يوضح د. حامد الموصلى. تجارب على أرض المنيا كانت الخطوة التالية واضحة وجلية، إلا أن إختيار المكان تطلب بعض الجهد والبحث. وفقا للدراسات عن أفقر القرى فى مصر فإن 762 من 1000 قرية الأكثر فقراً تقع فى الصعيد بمحافظاتالمنياوأسيوط وسوهاج. 44% من هذه القرى تقع فى محافظة المنيا وحدها وذلك لقلة الخدمات وموارد التنمية وصعوبة إقامة الصناعات الكبيرة. لذلك قرر الفريق البحثى مكافحة الفقر فى محافظة المنيا بدراسة ال 11 قرية الأكثر فقراً. وأسفرت نتائج تحليل هذه الدراسة عن اختيار قرية القايات بالمنيا لإقامة المحطة الأولى لتدريب أهل القرية على حرف وصناعات صغيرة ومتوسطة من مخلفات النخيل. فى البداية واجه الباحثون بعض الصعوبات حيث احتاج أهل القرية لبعض التدريب للتعامل مع الخامات والحرف اليدوية التى اندثرت من القرية بمرور السنوات حيث تم الاستعانة بطلبة كلية الهندسة جامعة عين شمس ومدربين من محافظة الفيوم لإحياء وتطويرهذه الصناعات الحرفية بهدف توفيرمهن وفرص عمل. اللافت فى الأمر أن السيدات كن أكثر حماسة للتعلم والتجربة كما بدا واضحا أن هناك تقبلا وحبا للخامات. «الحماس للمشروع فاق توقعاتنا، والسيدات كن أكثر تحمسا للتعلم خاصة، وأن فرص العمل بالنسبة لهن أقل جدا إذا ما قورنت بالرجال».كما يوضح د. حامد الموصلي. «هذه الفرصة وفرت لهن فرصة لتحقيق الذات كما أن الأموال التى كان يجنينها من ساعات العمل كانت تذهب لدعم الأسرة والأطفال وليس لأغراض ترفيهية أو شخصية مثلما يفعل الرجال». وسيط للتنمية بالقرية مع نجاح التجربة توالت المشاريع الصغيرة والمتوسطة فى قرى أخرى بتحويل جريد النخيل إلى منتجات منزلية وأثاث وطاولات وباركيه يمكن الاستفادة منه سنوات وإعادة تدويره من جديد فى صناعات جديدة حيث تم إنشاء وحدة صناعية تجريبية فى محافظة الوادى الجديد بالصحراء الغربية لتصنيع ألواح الكونتر من جريد النخيل بماكينات تم تصميمها وتصنيعها محليا واستطاعت هذه الوحدة التجريبية توفير الطاولات والمقاعدل 150 مدرسة مجتمع فى محافظاتأسيوط وقنا وسوهاج بصعيد مصر. كذلك تم تنفيذ مشروعى نشر صناعات الخرط العربى (الأرابيسك) من جريد النخيل بديلاً لخشب الزان المستورد فى قرى الواحات والفيوم إضافة إلى صناعة الحقائب من خوص النخيل فى قرى شمال سيناء. وعن المعدات المستخدمة لتقطيع الأخشاب، فلقد تم تعديلها كى تكون مناسبة للاستخدام فى منازل الفلاحين دون أن تمثل خطورة على الأطفال. هذا المفهوم من التفكير والعمل الهندسى بدلالة وسياق مفردات المجتمع المحلى تم بعد نقاشات مطولة لضمان إمكان نجاح المشروع واستدامته. وبالفعل فبعد أكثر من 10 سنوات من التجارب والعمل ما بين الجامعة ومراكز التدريب فى المنيا تم توفير فرص عمل فى العديد من القرى وخفض معدلات البطالة، إضافة إلى إنتاج بدائل الأخشاب ومنتجاتها تستخدم فى تصنيع الأثاث وتجاليد الحوائط وصولاً لألواح ال MDF كما تقبل المستهلك المصرى المنتجات من جريد النخيل منذ طرحها باعتبارها جيدة وتتمتع بالجودة نفسها والكفاءة للمنتجات الخشبية. كما أجريت العديد من التجارب البحثية لتصنيع السماد العضوى من المنتجات الثانوية لنخيل البلح والدوم والمانجو فى أسوان. أظهرت نتائج البحوث التى تم إجراؤها بالتعاون مع كليتى الزراعة بجامعة الإسكندرية وجامعة عين شمس إمكان استخدام جريد وخوص النخيل فى تصنيع أعلاف الماشية والدواجن، حيث تم خلط أعلاف للدواجن بنسبة10% من جريد النخيل وأعلاف الأغنام بنسبة 60% جريد نخيل. د. حامد الموصلى عقبات فى الطريق وعلى الرغم من نجاح المشروعات على النطاق البحثى والتجريبى وصدور دراسات تؤكد الجدوى الاقتصادية لدورة رأس مال للمشروع بعد عام من التصنيع والإنتاج فإن الأمر لا يخلو من عدة صعوبات وتحديات لعل أهمها صعوبة توفير الدعم والموارد المالية للإنفاق على التجارب البحثية ومخاطر التجربة عند التحول لتكون مشروعات صناعية تجارية. «هناك تكاليف كثيرة يتم إنفاقها عند نقل التكنولوجيا من المركز البحثى لأرض الواقع ولايوجد من يرعى هذه المرحلة المكلفة فى مصر خاصة أن الأمر يحتاج الكثير من التجارب والتعلم من الأخطاء» كما يشير د.حامد الموصلي. إضافة إلى ذلك فإن نقل الخامات من المزرعة إلى مركز التدريب أمر مكلف ولا يوجد آلية منظمة ومستدامة لتوفيرها مما يزيد من تكلفة الخامات لذلك فإلى أن تتوافر آليات منظمة لتعزيز هذه الصناعات الصغيرة سيظل أهل القرية يعتمدون على الباحثين لتطبيق المشروع وتطويره.