شهور وأسابيع ممتدة وأهل الحكم يتقدمهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومن يدور في فلكهم لا يتوقفون عن إطلاق نعوت التجسس بحق القس الأمريكي أندرو برانسون، وبالتوازي كانت وسائل الإعلام, معظمها بات في كنف السلطة، يأتمر بأوامرها ويمتثل لتعليماتها ولا يحيد عنها قيد أنملة، يبث لقطات وفيها برانسون يصطف فرحا ومبتهجا بجانب من وصفوا بالإرهابيين في إشارة إلى عناصر منظمة حزب العمال الكردستاني الانفصالية، لا يلتقط فقط معهم الصور التذكارية بل يؤازرهم ويشد من عضدهم في مقاومة الدولة التركية. ولم تشفع له ديانته المسيحية في أن تبرأ ساحته من الانتماء إلى تنظيم الداعية الإسلامي فتح الله جولين الذي قاد محاولة الانقلاب الفاشل منتصف يوليو 2016، ومنذ ذلك التاريخ وضع القس خلف القضبان عقابا لدعمه الانقلابيين. لكل هذا لم يكن لدي القطاعات العريضة من مواطني البلاد بطول الأناضول وعرضه، أدني شك في أن عقابا مزلزلا سينزل على «العميل» المتمسح برداء الورع، جزاء على ما اقترفه بحق وطن احتضنه علي مدي عشرين عاما. وفجأة بدأت الصورة تتلون وتتغير وتضاف لها رتوش وتطمس منها زوايا وشبكات التلفاز بدورها صارت تروج لشئ ما قد يحدث، تهيأ الرأي العام لخبر ربما لا يسره. وطبيعي تساءل الناس: هل الحاصل ما هو إلا تمهيد لأمر جلل، حتي لا يصدم الشعب؟ وسرعان ما جاءت الإجابة الصادمة، فها هو القاضي بمحكمة علي أغا بمدينة إزمير يدبج حكمه ويطلق سراح القس الذي خرج من قاعة المحكمة لا إلى منزله كي يلتقط أنفاسه ويعد حقيبته عائدا لوطنه، بل توجه مباشرة إلى مطار عدنان مندريس بذات المدينة المطلة على بحر أيجة، ليستقل طائرة خاصة كانت رابضة بمدرج طوارئ ومحركاتها دائرة ، إلى ألمانيا في مشهد لا تفسير له سوى أنه أعد سلفا». صحف المعارضة بكاملها انتهزت الفرصة لتظهر للرأي العام, الذي تم إيهامه ب «أن القس جاسوس داعم الإرهاب والإرهابيين»، مدى نفاق حكومتهم إذ تصدر خبر الإفراج عن القس مانشيتات صفحاتها الأولي، في حين تواري «خجلا» بنظيراتها الموالية للرئيس رجب طيب أردوغان إذ جاء مقتضبا صغيرا تكاد لا تراه الأعين. وأجمعت «جمهوريت وسوزجو ويني جاغ وميللي جازيته ويورت وايدنليك»علي وجود ضغوط خارجية مورست على حكومة العدالة والتنمية لتغيير موقفها بصورة جذرية. وأشارت الصحف نفسها إلي أن «الأمر الرئاسي» بإطلاق سراح القس معلوما لدي الولاياتالمتحدة مسبقا ودللت على ذلك بما قاله وزير الخارجية الأمريكي قبل يوم من جلسة المحاكمة أن برانسون سيفرج عنه خلال 36 ساعة وهو ما تم. ولم يكن غريبا أن يعلن أيكوت أردوغدو النائب بحزب الشعب الجمهوري عن إسطنبول في تغريده له على تويتر أن «أنجيلا ميركل» ضغطت على الحكومة فتم إطلاق سراح الصحفي الألماني يوجيل التركي الأصل، وضغط ترامب فكان له ما أراد بإطلاق سراح القس. وبعلامات تعجب اختتم أروغدو تغريدته ساخرا.. ويقولون: تركيا دولة قانون!!. حزب السعادات الذي أسسه الراحل نجم الدين أربكان رغم أنه يصنف في المعارضة، إلا أن مواقفه لا تختلف كثيرا عن الحزب الحاكم ، غير أن موضوع القس وما تمخض عنه من تداعيات أستفزه بشدة، وقال رئيسه «قره مولا أوغلو» في تغريده على تويتر:«إذا كان هناك شهود يغيرون تصريحاتهم لأسباب واهية فهذا يعني أن القضاء ليس مستقلاً» وأضاف قائلاً: «كان أردوغان يذكر الرأي العام بين الفينة والأخرى على مدار شهور بواسطة إعلامه أن برانسون- هو العقل المدبر للانقلاب، بالإضافة إلى تقديمه على أنه هو السبب في تقلب الأوضاع الاقتصادية للبلاد، ثم موجها حديثه لأردوغان « لكنكم في نهاية المطاف أركبتم القس طائرته وشيعتموه إلى بلده»!! ووفقا لمحللين أتراك فأردوغان سلم «القس» دون أي مقابل، بعد أن فشل في استغلاله لإغلاق بعض الملفات بين البلدين.. وها هو ماكس هوفمان، المدير المساعد لشئون الأمن القومي والسياسة الدولية في «مركز التقدم» يقول في تصريحات أدلى بها للنسخة التركية لإذاعة «صوت أمريكا» إن إطلاق سراح القس الأمريكي أندرو برانسون حتى وأن كان مرضياً، ولكنه لن يحل المشاكل الرئيسية العالقة بين البلدين. وأوضح هوفمان, أن الشارع الأمريكي لا ينظر إلى قضية الإفراج عن القس على أنه حكم قضائي، إذ ترسخت لديه وللسلطات الأمريكية إجمالا قناعة بأن القضاء بات مسيسا للغاية وأن مفهوم العدل غائب في تركيا منذ زمن. ولفت إلى أن إدارة ترامب أدركت مدى تأثير ممارسة سياسة العصا والجزرة على أردوغان بحيث اضطر إلى إطلاق سراح القس على الرغم من كل تصريحاته وتحدياته الصارخة. وليس مستبعدا، إن لم تفرج أنقرة عن بقية الأمريكيين المعتقلين في سجونها، أن تقوم واشنطن بفرض عقوبات جديدة عليها قد تطول هذه المرة مسئولين بارزين آخرين في نظام الرئيس التركي. باختصار بدت شعارات الأخير وتصريحاته النارية ضد الولاياتالمتحدة فقط للاستهلاك المحلي وأنه لم يكن يعني حرفيا ما يصرح به بما فيها قضية القس برانسون نفسه .. وليثبت أن بلاده لا هي الدولة الديمقراطية ولا قضاؤها حياديا ومستقلا»..!!