كانت العادة السائدة فى قصور أغنياء مصر إلى وقت قريب، هى أن تقوم المرضعات بإرضاع الأطفال، وأن تقوم المربيات بتربيتهم تحت إشراف هوانم القصور. لذا فقد كان من الطبيعى أن تأمر الوالدة باشا، «خوشيار هانم» زوجة والى مصر «إبراهيم باشا»، فور ولادتها لابنها البكر «إسماعيل»، خدمها، بالبحث عن مرضعة لابنها، تكون نظيفة ومهذبة وبدينة وقليلة الكلام. المقادير التى تقدر للناس أقدارهم، وضعت أمام الخدم الباحثين فى المنطقة، المرأة الوحيدة التى وجدوها تقوم بإرضاع وليدها، فأفهموها المطلوب منها، وألبسوها ملابس لائقة بمقابلة الوالدة باشا، وأوقفوها أمامها: الوالدة باشا عاينتها بطرف عينها، فاستحسنتها، وسألتها بعربية أعجمية: ما اسم ابنك الذى فى يديك. بذكاء الفلاحة الفطرى أجابت المرأة: كان اسمه «صديق»، ومن الآن سيصبح اسمه «إسماعيل». ابتهجت الباشا، ومنحتها صرة مصرورة، وأسلمتها الطفل الوليد، ورتبت معها المواعيد. سوف يكبر الإسماعيلان معا، «إسماعيل» الخديو و «إسماعيل صديق»، وسوف يحرص ابن المرضعة على أن يتشبه بأخيه فى الرضاع، فى كل شيء، خطواته، لفتاته، إشاراته، إتقانه للغات، طريقته فى الكلام إلى المحظيات والجوارى، حتى إذا ما حان الحين، وجلس سميّه على عرش مصر، انفتحت أبواب الدنيا كلها أمامه، وصار يغرف من عطاياها بيديه الاثنتين، كان قد جرب حياة القصور، وأناقة الملبس، وأطايب المأكل، فقرر أن يكون هو أيضا خديو كأخيه، فاشترى القصور، وملأ حجراتها بالجوارى، وباع لنفسه الأراضى الزراعية التى لا صاحب لها، ولم لا، والدفاتر كلها فى يديه، وأجّر لزراعتها الفلاحين، ولقد امتدت أملاكه شرق البلاد وغربها، ففى القاهرة وحدها بنى ثلاثة قصور مؤثثة بأفخر المفروشات والتحف، بالإضافة إلى قصر كبير فى الإسكندرية على ترعة المحمودية، أما أراضيه المترامية فقد بلغت أكثر من ثلاثين ألف فدان من أجود الأفدنة فى تربة مصر، هذا غير الأموال السائلة والمجوهرات التى لا يستطيع حاص أن يحصيها، أما الجوارى فقد تجاوز عددهن الثلاثمائة جارية من مختلف الجنسيات، حتى أطلق المصريون عليه لقب (الخديو الصغير). وقد تجاوزت رفاهيته جميع الحدود المسموح بها، حتى إن الأميرات أنفسهن كن ينظرن إلى زوجته نظرة يملؤها الحسد، فقد كانت تمشى بينهن بملابسها المقصوصة فى باريس، وحليها التى تغطى كل ما يعريه القماش المقصوص من جسدها، وكانت طوال الوقت تمسك فى يدها مروحة أجمع العارفون ببواطن الأمور أن ثمنها يقترب من الأربعمائة ألف فرنك، بينما تحمل وصيفتها التى لا تفارقها فى حلها وترحالها، شمسيتها لكى تفردها فوق رأس سيدتها فى المسافة القليلة التى تفصل باب القصر عن باب العربة، تلك الشمسية التى قدر الخبراء ثمنها بستمائة ألف فرنك ولا شك أن «إسماعيل صديق» قد كان شديد الذكاء، بل كان داهية من دواهى عصره، الأمر الذى جعل «إسماعيل» الخديو يثق فيه ثقة عمياء، ويسند إليه أكبر المهام، حتى أصبح فى فترة وجيزة الرجل الثانى فى مصر بعد الوالى، وقد امتد نفوذه إلى أبعد مما كان هو نفسه يتصور، فقد كان قادرا على اختيار النظار وعزلهم، وكان له القول الفصل فى أمور الجيش والخزانة، كان قد أصبح ناظرا للخزانة، أو بتعبير هذه الأيام وزيرا للمالية، وتكونت فى أصابعه الخيوط كلها. كان يعرف أن الخديو يحب السهر والفن والجمال، فكان يتفنن فى تهيئة الأجواء كلها، بعد عناء العمل السياسى طول اليوم، لتصبح الليالى مبهرجة ولاهية ومليئة بالموسيقى، وكان صوت «عبده الحامولى» يجلجل فى سقوف القصر العالى، خاطفا ألباب الرجال وقلوب النساء إلى حقول لا نهائية من الآهات الطويلة، والمواويل الحزينة، والأدوار التى يكتبها الشعراء خصيصا لتليق بالحضرة الخديوية، وتذكر اسمه، وتعدد مآثره، ثم تعقب ذلك موسيقى افرنجية، أتى عازفوها من إيطاليا راكبين البحر الكبير، لكى يرقص رجال القصر مع الهوانم على وقعها الأوروبى الحالم، حتى يداعب النوم جفون الوالى، فيذهب كل إلى طريقه، ما عدا «إسماعيل صديق» الذى يظل ملاصقا للوالى كظله، إذ ربما يفارقه النوم الذى كان قد داعب جفونه، وتعتلى وجهه اليقظة المفاجئة، ويكون ساعتئذ فى حالة إلى نكتة طريفة، أو تعليق خفيف، لا شك أن «إسماعيل صديق» قد عبأ جيوبه بكثير من النكات الخارجة والتعليقات المرحة، ليستخرجها وقت الحاجة، ويشنف به آذان الوالى، ولا يتركه إلا وهو داخل إلى سريره. كان قد حصل من الوالى فى مصر على لقب الباشا، ومن الخليفة فى الآستانة على لقب المشير، ومن الموظفين فى الدواوين على لقب المفتش، فقد كانت من بين مهامه الكثيرة التفتيش على أقاليم القطر المصرى، أما أبناء البلد فقد أطلقوا عليه لقب الخديو الصغير، أبناء الوالى نفسه، «توفيق» و «حسين» و «حسن» كانوا يعانون منه، ويتعجبون من ملازمته لأبيهم، بل وصل جبروته إلى الحد الذى جعله يتحكم فى رواتبهم الشخصية، فيقرر لهذا زيادة، ولذاك نقصانا، وكان يشعر أنه يملك مصر. هو ابن فلاح وفلاحة، والمنطق يقول إنه ينبغى أن ينحاز إلى الفلاحين، لكن، أى منطق يصلح أن يُحتكم إليه مع رجل نهم مثله؟، لقد كان يتفنن فى تعذيب الفلاحين المتأخرين عن سداد الضرائب الكثيرة التى اخترعها هو، فمن ضرب بالكرباج، إلى تعليق فى الفلكة، إلى حبس فى السجون، إلى اختطاف للأطفال واحتجازهم كرهينة لحين السداد. فرغت الخزانة المصرية من الأموال، والديون تتضاعف لبيوت المال الأجنبية فى بريطانيا وفرنسا، حينئذ، وضع «إسماعيل المفتش» الحل الجاهز بين يدى الوالى: نبيع نصيب مصر فى أسهم شركة قناة السويس. ربما يكون هذا القرار هو القرار الأكثر خطورة فى تاريخ مصر الحديث، فبسببه حدثت جميع المآسى التى ظللنا قرابة المائة والخمسين عاما المنقضية نعانى منها، وبسببه ضاع استقلال مصر، وبسببه حضر الخبراء الأجانب للنظر فى الأمور المالية لمصر حفاظا على مستحقاتهم فيها، وعندما نظروا فى الأوراق، اكتشفوا أنه ليس هناك أى أرقام حقيقية، وكان القرار الذى اتخذه الوالي: التخلص من «إسماعيل صديق». بدأ الأمر همسا فى قصر الحكم، وانتقل إلى دواوين الحكومة، وصولا إلى الناس فى الشوارع، فأطلقت النسوة الزغاريد، ورقص الرجال أمام الدكاكين، أما الفلاحون فقد رشوا الحقول كلها بالماء، ابتهاجا بهذا الخبر السعيد. الوالى يعرف أنه إن لم يتخلص منه، فسوف لا يتورع هذا الرجل من أن يقول كلاما فى التحقيقات قد يمس سمعته هو شخصيا، ، ويفتح ملفات ينبغى أن تظل مغلقة، ولم يكن ثمة من بديل. »إسماعيل المفتش» أحس بذكائه المعهود أن أمرا ما يدبر للخلاص منه، كان قد انتهى للتو من اجتماعه مع المجلس المخصوص، للنظر فى مخرج من هذه الأزمة الكبيرة، واحتد النقاش بينه وبين أبناء الخديو، فقال لهم بطريقته المستفزة: أنتم لا تزالون أولادا، ولا تستطيعون تقدير عواقب الأمور. عندها، لم يستطع الأمير «حسين» أن يكظم غيظه، فوقف، واتجه إليه، وصفعه على وجهه، وصرخ فيه: أبلغت بك الوقاحة أن تقول إننا أولاد. خرج «إسماعيل المفتش» متجها مباشرة إلى الخديو، كان لا يزال فى جعبته الكثير، فقال للخديو: لديّ الحل يا مولاى. الخديو كان قد اتخذ قراره، لكن الفطنة تستوجب عدم الإفصاح، فأجلسه بجواره، وقال له: دائما ما أجد الحلول عندك. جلس، وبدأ فى شرح الخطة قائلا: ولماذا نذهب بعيدا يا مولاي؟، إننا بلد مسلم، والقرآن الكريم فيه حل لكل الإشكاليات، وقد نظرت فيه، ولقيت الحل. سأله الخديو: وما هو الحل؟ أكمل: القرآن الكريم يحل البيع، ويحرم الربا، وهذه الفوائد التى تتحصل عليها بيوت المال منا على هيئة فوائد، إن هى إلا ربا فاحش، وما علينا غير أن نستدعى فقهاءنا وشيوخنا وقضاتنا ومفتينا، ونكلفهم بإشاعة هذا الأمر بين الناس، وأنت تعرف أنهم طوع أمرنا، ومتى قامت الأمة المصرية تطالبنا بالتمسك بما نهى عنه قرآننا، يمكننا ساعتئذ أن نتخذ من هذه الهبة الثورية سلاحا نستند إليه، ونرفعه فى وجه أوروبا، وأنا، كما تعلم يا مولاى، قادر على إقناع رجال الدين، بهذا الأمر. ربت الخديو على كتفه، وأنهى اللقاء مبتسما وهو يقول: أظن أن هذا الحل هو المخرج الوحيد لنا من هذه الأزمة. عندما خرج «إسماعيل المفتش» من الحضرة الخديوية، استدعى الخديو المجلس المخصوص. لقب المشير الذى يحمله «إسماعيل صديق»، يحتم أن تكون حياته مضمونة، ويحتم أن قرار إعدامه لا بد وأن يكون من الخليفة نفسه، لكن الألاعيب السياسية لا نهاية لها، فقد قرر الوالى استدعاء «إسحاق بك». »أسحاق بك» رجل تركى ذو بشرة بيضاء، وأصابع حديدية، لا يبتسم على الإطلاق، ولا يتحدث إلا إذا طُلِب منه، ويرتدى الزى الرسمى طول الوقت، البدلة الكاملة الداكنة، والكرافتة المربوطة، والجزمة اللامعة، وكان ينام بهذا الزى الرسمى. »إسحاق بك» هذا من اختراع «إسماعيل صديق» نفسه، فهو الذى اكتشف فيه هذه المواهب الخاصة، وقدمه للوالى لكى يوكل إليه بعض المهام الخاصة التى لا يستطيع المحافظ أو القاضى تنفيذها. الكلام الذى أبلغوه ل «إسماعيل صديق»، أنه تقرر نفيه إلى دنقلة، وقد حملته السفينة بالفعل متجهة إلى الجنوب، ومن هذه السفينة، تم إرسال البرقيات للصحف حاملة أنباء عن الباشا المفتش المشير الخديو الصغير الذى لا يكف عن طلب الخمور طوال الرحلة، كما لا يكف عن البكاء والضحك، حتى تم إيداعه إلى سجنه المعد له فى دنقلة، وكانت الناس تقرأ هذه الأخبار فى الصحف، وتضحك عليها، فهم يعرفون الحقيقة. الحقيقة أن «إسماعيل صديق» عندما أودعوه فى قاع السفينة، كان يعرف كل شيء، وعندما فتح الباب، ودخل عليه «إسحاق بك»، ببدلته الداكنة، وكرافتته المربوطة، وجزمته اللامعة، كاد ينفجر من الغيظ، لقد توقع أن يقتلوه بألف طريقة وطريقة، أما أن تكون قتلته بهذه الطريقة، فهو ما لم يكن يخطر له على بال على الإطلاق. نظر فى رعب إلى «إسحاق بك»، وسأله وهو يبكي: أيمكن أن تفعل بى ذلك؟ كان «إسحاق بك» يفرك أصابعه فى أصابعه استعدادا لأداء مهمته المقدسة، فأجابه بآلية: نعم، ولكن بعد أن أفعل ذلك، سآخذ خاتمك الذهبى. ثم هجم عليه. كانت أصابعه الحديدية تعرف طريقها جيدا، أصابع يده اليسرى وضعها بكل سهولة على فمه ليكتم أنفاسه، أما أصابع يده اليمنى، فقد قبضت على خصيتيه، وظلت تعصرهما اعتصارا دمويا، حتى جحظت عيناه، وفارق الحياة، عندئذ، خلع خاتمه الذهبى، ووضعه فى أصبعه، وخرج بجهامته المعهودة، أما عمال السفينة، فبمجرد خروجه، هبطوا إلى القاع، ووضعوا الجثة فى جوال محمل بالحجارة، وألقوه فى قاع النيل. الخديو «إسماعيل»، كان فى سهراته التى يستمع فيها إلى «عبده الحامولى»، ينظر حوله يمينا ويسارا، بحثا عن سميّه، فلا يجده، أحيانا كان يسأل عنه أحد موظفى القصر: وأين المشير؟ وقبل أن يجيبه الموظف، يكون قد تذكر، وربما كان يغالب دموعه. عزيزى القاريء، إذا قادتك قدماك يوما إلى ميدان لاظوغلى، فلا شك أنه سيستوقفك فيه قصر «إسماعيل المفتش»، وبالرغم من أن جميع القصور التى ورثناها من الحقبة الخديوية قد تم ترميمها، وفتحها للزوار، وأصبحت آية فى الجمال والأناقة دلالة على المجد الغابر والعز القديم، إلا أن هذا القصر، هو القصر الوحيد من بين كل هذه القصور الذى سيبدو لعينيك أنه آيل للسقوط، فإذا ما استطعت العبور إلى داخله، فسوف لن ترى غير خرابة كبيرة، ولن يستطيع خيالك أن يستوعب أن هذه الخرابة كانت منذ قرن ونصف القرن، مساحات لا نهائية من الحدائق المترامية، تحيط بها الأشجار النادرة، والتماثيل المنحوتة خصيصا فى أوروبا، والنوافير الفوارة بالمياه المتدفقة، وجداول المياه الرقراقة فى الجنبات كلها، هذه المساحات التى تم اقتطاع أجزاء كثيرة منها لبناء دواوين وزارتى المالية والداخلية، وبالرغم من أنه تم صرف أكثر من مائتى مليون جنيه على ترميمه، فإنه مازال خرابة كبيرة ينعق فيها البوم، وأكبر الظن أنه سيظل كذلك، ذلك ببساطة، لأن ساكنه كان ابن فلاح وفلاحة، لكنه مع ذلك، خرب حياة فلاحى مصر كلهم.