مررت أمامه كثيرًا، أنا وملايين المصريين، لم أكن أدرك تفاصيل بناء ذلك المبني وحكاياته، حتي شرعت في الكتابة عنه، فبت أحلم بالدخول عبر بوابات تاريخه، وكأني داخل فيلم سينمائي يرجع بي "فلاش باك" عبر بوابة التاريخ أو من خلال آلة الزمن. فماذا لو عاد العمر إلي الوراء، عقدا، أو عقدين من الزمان وربما أكثر من ذلك بكثير؟ لنري كيف عاش المصريون علي مر العصور، كيف كان شكل حياتهم، وما الذي تغير عبر الزمن؟ أمرٌ مبهر - بل شديد الإبهار- أن تدخل أحد المباني الأثرية وتتخيل نفسك أحد سكان هذا المكان ممن عاشوا داخله ومروا بأحداثه وتفاصيل الحياة فيه، عادات أهله وتقاليدهم وطقوسهم اليومية، أفراحهم وأتراحهم، حكايات جرت خلف الأبواب التي لم يسردها التاريخ بشكل كاف، في هذه الحلقات التي ننشرها علي صفحات "أخبار الأدب" نحاول البحث عما كان يجري خلف أبواب القصور الملكية والأماكن الأثرية في مصر- أرض الحضارات- نحاول الوقوف علي جانب آخر لم يحدثنا عنه التاريخ كثيرًا، وهو.. الحياة داخل ذلك البيت أو المبني الذي تحول بمرور الوقت إلي أثر. توقفت أمام بوابته وفي مخيلتي حلم بالعودة للقرن التاسع عشر، حيث العام 1868، تاريخ بناء قصر "إسماعيل باشا المفتش" تلك المرحلة من عمر مصر التي كانت محور الأحداث التاريخية الكبري والتحولات المتناقضة التي عاشتها مصر فانتقلت من مرحلة العصور المتخلفة، حيث الفقر والجهل والظلام، إلي عصر النهضة والتنوير والثقافة والفنون، ومنها إلي مرحلة التدخل الأجنبي في شئون البلاد، والذي رغم الاستقلال والتحرير- لازلنا نعاني مرارته حتي الآن.. كانت حيرتي حينما بدأت في البحث عن حقيقة شخصية إسماعيل باشا المفتش، صاحب أعظم قصور التاريخ في ذلك الوقت، فقد وجدتني في متاهة للوقوف علي حقيقة تلك الشخصية الجدلية، سواء في حياته السياسية أو الاجتماعية وعلاقاته الشخصية بعائلته وأهله وخدمه وجواريه، ووقفت ما بين نقيضين اختلفا حتي النخاع، "إسماعيل المفتش" رمز وطني نزيه وشريف، دفع حياته ثمنًا لحب مصر.. و"إسماعيل المفتش"، عميل وخائن وفاسد، انتحر سكرًا حين نفاه الخديو إسماعيل للسودان ردًا علي خيانته وفشله في إدارة خزينة الدولة.. هل كان المفتش خيِّرا كريمًا حنونًا طيب القلب مع أفراد أسرته ومستخدميه وجواريه والمصريين الذين شارك في حكمهم لسنوات حيث كان الرجل الثاني والأهم في الدولة بعد الخديو إسماعيل- فأحبه الناس لخيره وكرمه وحسن إدارته لمؤسسات الدولة، والتفوا حوله، أم كان "المفتش" فظًا، ظالمًا وقاسيًا يعذب المصريين في غرف سرية أسفل قصره ,الكائن بميدان "لاظ أوغلي" بوسط القاهرة، وهو ما جعل المصريين يقولون: "إن من دخل قصره مفقود"؟ أسئلة كثيرة وحكايات متضاربة ومتناقضة تطرح خلفها المزيد من الاستفهامات وتضع أمامنا الكثير من علامات التعجب! لكني وصلت في بحثي إلي قناعة تامة، بأن من يكتب التاريخ هو الأقوي، هو المنتصر دائمًا، حتي ولو انقلبت قواعد اللعبة، استطاع من يملك أن يغير ما كتب سواء كان هذا لصالح شخوص بعينهم أو ضدهم، فلا حقيقة تاريخية مطلقة مؤكدة تستطيع أن تقف عليها لمعرفة حقيقة ما جري فعلاً في تلك الأحداث لهذه الأرض التي نعيش عليها، تبقي فقط الخطوط العريضة التي لا جدال فيها والتي بطبيعة الحال تكون أمرًا واقعًا، مثل: التدخل الأجنبي الذي حدث بمصر في عهد الخديو إسماعيل. عبر بوابة الزمن انفرط عقد الزمن حين نزعت من وعيي هذا العام الذي نعيشه 2014 ورحلت إلي العام 1868 دخلت إلي قصر إسماعيل المفتش، قصرٌ كبير، مكون من ثلاث كتل معمارية بالغة الجمال والروعة والفخامة، أخذت المباني شكل المربع الذي ينقصه "ضلع" تتوسط المباني الثلاثة من الخارج نافورة تحيطها ثمانية ضفادع مصنوعة من الرخام النادر، صوت الماء هادر يضفي علي تلك المساحة الشاسعة الخضراء حوله نوعًا من السحر الذي يغيب العقل ويملأ النفس بالراحة والسعادة، العشرات من الخدم يتحركون بطريقة منتظمة، كل منهم يعرف دوره ووجهته، ينتصبون علي الجانبين كل صباح لحظة خروج صاحب القصر، بدءًا من غرفته وحتي بوابة القصر، كبير الياوران شخص شديد النشاط والحماس، هو المسئول عن إدارة كل أمور القصر، بما فيها المظهر العام للخديو وأسرته، وأيضًا بروتوكولات الحفلات واستقبال الضيوف سواء من الشخصيات العامة أو الأجانب، ومرورًا بترتيب مقاعد الزوار، وأنواع الوجبات المقدمة، والتزاور بين أفراد العائلة المالكة. القصر تحفة معمارية وفنية فريدة إلي جوار سراي عابدين، هذان القصران اللذان أدخلا فن المعمار الأوروبي لأول مرة في مصر، والذي جمع بين الطراز الفرنسي والكلاسيكي، دلفت إلي بهو القصر، ووقفت وسط هذه الألوان المبهجة الزاهية، وذلك الأثاث الفخم، سقف مرصع بالألماس والذهب، نقوش زاهية مبهرة، وسجاد ثمين للغاية، ولوحات أصلية لكبار الفنانين، "طقاطيق" مرصعة بالألماس والذهب، وأطقم من الكريستال مدموغة بالذهب، نقش عليها أول حرفين من اسم إسماعيل المفتش باللغة الانجليزية "e-s" إسماعيل صديق.. رائحة الورود المنبعثة من الحديقة تخترق المكان، تختلط برائحة العطور الفرنسية والشرقية الأصيلة داخله، وفجأة، أفيق علي أصوات الخفافيش التي ملأت قصر المفتش، حينما ارتدت آلة الزمن للحاضر، لأري ما آل إليه قصر إسماعيل المفتش، فكانت صدمتي كبيرة، مكان مهجور بكل ما تعنيه الكلمة، تسكنه مئات الخفافيش والثعابين، مظلم ، رغم نور الظهيرة، كئيب، تملؤه الخفافيش التي "تزعق" بأصواتها الفجة لتلقي بالرعب في قلب القاهرة ووسط أبنيتها وسكانها ومدارس أطفالها، خفافيش وثعابين تعيش وتتكاثر بجوار أهم مبان في مصر، مجلسي الشعب والشوري ووزارات الداخلية والعدل والمالية، كلها مبان مقتطعة من قصر إسماعيل المفتش الذي أهملناه حتي الانهيار الوشيك ما بين لحظة وأخري، جدران تسندها أعمدة خشبية في محاولة هزيلة لإبقائه حيًا، أرضية مدمرة تماماً، وقمامة في كل مكان، هذا هو الواقع الذي صار عليه القصر، فلا ألوان زاهية مبهرة، ولا سجاد ثمين، ولا حتي جدران أو نوافذ سليمة، لا شيء غير الخراب والدمار لجزء هام من تاريخ وطن. صاحب القصر إسماعيل باشا صديق، الشهير بإسماعيل المفتش، ولد عام 1830 ، تضاربت الروايات حول عائلة المفتش واختلفت بشكل فج، فهناك من قال أن والدة المفتش هي فلاحة فقيرة اختارتها الملكة خوشيار لإرضاع ابنها الخديو إسماعيل في قصر إبراهيم باشا، أعتقت لتتزوج أحد الضباط، علي عادة ما كان يجري في ذلك الزمان، وأن المفتش تربي في بيت فقير في بيئة عوز واحتياج، تسلق بوصولية للخديو، الذي يعتبر أخاه في الرضاعة حتي حصل علي العديد من المناصب وإلي أن أصبح علي علاقة جيدة بالسلطان العثماني نفسه، وتأثرًا بفقره وبيئته كان يدافع باستمرار عن الفقراء والفلاحين، بينما هناك روايات أخري تؤكد أن إسماعيل صديق ابن ل "دونالي مصطفي أغا باشا" قائد عسكري، وأن أمه هي كبيرة وصيفات القصر وكانت صديقة شخصية لخوشيار هانم والدة الخديو إسماعيل، والوصيفة إما أن تكون من العائلة المالكة أو إحدي هوانم العائلات الراقية، وعلي هذا الأساس كان يتم اختيارها، فتكون رفيقة للملكة وتدير شئون السراي بنظام وبروتوكول يسري بين جميع العائلات الملكية، وبالتالي فإن عائلة المفتش كانت من العائلات الراقية صاحبة الأملاك، وأن المفتش كان يغدق بالأموال علي الفقراء ويدافع عن الفلاحين لذلك أحبوه. التشابه الوحيد في هاتين الروايتين هو: أن الفلاحين أحبوا إسماعيل المفتش خاصةً أنه خالطهم حينما بدأ عمله بينهم وقت أن كان مفتشًا عامًا علي أقاليم مصر، ومن هنا حصل إسماعيل صديق علي لقب "إسماعيل المفتش". وقد تدرج صديق في العديد من الوظائف بالدولة، وترقي حتي تولي حقيبة وزارة المالية لمدة ثماني سنوات، ووزارة الداخلية لمدة عام، وصار الرجل الثاني في الدولة بعد الخديو إسماعيل، لدرجة أن المصريين وقتها أطلقوا عليه لقب "الخديو الصغير" وقد حصل المفتش علي العديد من النياشين من العديد من الدول، وكذلك العديد من النياشين من السلطان العثماني أرفعها وأهمها رتبة "مشير تركي" وهي الرتبة التي منحته تحصينا من أن يخضع للعقاب أو المحاكمة حتي من الخديو نفسه، وإن كان هناك ضرورة من محاكمته فمن يحاكمه هو السلطان العثماني نفسه، وبقدر ما كانت تلك الرتبة لتحصين المفتش بقدر ما كانت هي سبب النكبة التي أدت إلي قتله والتخلص منه، فبعد أن تراكم الدين الخارجي علي مصر نتيجة الإنفاق ببذخ الذي كان الخديو إسماعيل يتعامل به أرسلت انجلترا وفرنسا إلي مصر يهددانها بإرسال لجنة من الدولتين لمراقبة خزينة الدولة لمعرفة موارد المال ومصادر الإنفاق وهو ما اعتبره المفتش تدخلاً سافرًا في شئون الدولة المصرية، من هذه النقطة بدأت العلاقة تسوء بين الخديو إسماعيل، وأخيه إسماعيل المفتش، حيث أراد الخديو أن يضحي بالمفتش نظير ألا يتحمل هو أمام المصريين وأمام الباب العالي في الأستانة مسئولية الدين الخارجي علي مصر والذي بلغ آنذاك "ثمانين مليون جنيه" وقتها هدده المفتش بأنه سيبلغ حقيقة ما حدث للسلطان إن لم يجد الخديو حلاً للخروج من ذلك المأزق، وبسبب رتبة المشير التي حصل عليها المفتش من السلطان العثماني لم يتمكن الخديو من محاكمته، وخشي أن ينفذ المفتش تهديده. ويؤكد عدد من المؤرخين أن الخديو قام بزيارة المفتش في منزله، وأوهمه أنه صار راضيًا عنه، واصطحبه في عربته الملكية إلي سراي الجزيرة "الماريوت حاليًا" ومنذ هذا اليوم اختفي إسماعيل المفتش. وهنا عادت تضارب الروايات حول اختفائه ثم إعلان موته بعد ذلك بأيام في جريدة الوقائع المصرية، وجاءت الرواية الرسمية تؤكد أنه بعد اجتماع عقده المجلس المخصوص "وهو بمثابة مجلس الشعب اليوم" أجمع المجلس علي إدانة إسماعيل باشا صديق الذي لم يحسن إدارة خزينة الدولة وتسبب في تراكم الدين الخارجي للبلاد، وأصدر المجلس حكمه بنفي المفتش إلي دنقله في السودان، وأن المفتش توفي بعد وصوله لمنفاه بثلاثة أيام متأثرًا بسكتة قلبية نتيجة إسرافه في شرب الخمر، وأن طبيبًا إيطاليًا قام بتوقيع الكشف الطبي عليه وإثبات وفاته، وقد أقيم للمفتش قبرً مازال في السودان، بينما يؤكد الكثيرون أن القبر خال من أية جثمان، وأن المفتش غُدر به بمجرد أن وصل مع الخديو سراي الجزيرة، فقام الخديو باعتقاله وأخبره أنه قد صدر قرار بنفيه إلي السودان وأن الأمر قد انتهي، وتم إنزال المفتش إلي باخرة في النيل وأثناء مرورها بمنطقة حلوان تم قتل المفتش وإلقاء جثمانه بعد ربطه بكتل حديدية في قاع النيل، وهناك من قال إن مصطفي باشا فهمي- أول محافظ للقاهرة بعد ذلك- شهد علي قتل المفتش بهذه الطريقة، وأن ضابطًا يدعي اسحق بك هو من قام بخنق المفتش بناء علي إيعاز من الأمير حسن نجل الخديو إسماعيل، وأن المفتش أثناء مقاومته له قام بقضم إصبعه حتي قطعه، وهكذا تناثرت واختلفت الروايات بين محب لشخص الرجل وكاره له لتتوه الحقيقة بين كتاب وآخر، ومؤرخ وغيره. إلا أن العديد من الروايات الأخري تناثرت حول موت المفتش.. فهناك أيضًا من قال أن المفتش لم يحصل علي قدر كاف من التعليم، وأنه تعلم علي يد أبيه وأمه في البيت بالشكل الذي يسمح له بالاشتغال بالعمل العام، وأن علاقة المفتش بأسرته كانت جافة وأنه كان دائم العبوس وال "تكشير" عائلة المفتش كان من الضروري البحث عن أحد أفراد عائلة المفتش ليحكي لنا ما الذي جري لأبناء العائلة بعد قتل المفتش وأين ذهبوا وكيف يفسرون مقتل جدهم، فكانت الدكتورة مروة عباس، حفيدة إسماعيل باشا المفتش من فريدة هانم ابنة زوجته الثانية "حسن ملك هانم" تقول مروة: نتوارث في العائلة حكايات جدي المتناقضة، لكن المعلوم عنه في العائلة أن التاريخ قد ظلمه رغم أنه دفع حياته ثمنًا لحب مصر، وأن قتله جاء بمؤامرة لوقوفه ضد التدخل الأجنبي في مصر، بدليل أن لجنة المراقبة علي الميزانية المصرية "انجلترا وفرنسا" دخلت مصر بعد قتل المفتش بأسبوعين، مما يعني أنه كان العقبة الوحيدة ضد تدخلهم في شئون الدولة المصرية. حكت جدتي لأمي أنه حين عرفت عائلة المفتش بخبر قتله سادت حالة من الفوضي في القصر، وتعرضت محتويات القصر الثمينة للسرقة بينما اضطر بعض أبناء صديق للهروب خارج مصر، بعضهم ذهب إلي الأستانة وآخرون إلي القدس، وذلك خوفًا من أن ينالهم نفس مصير أبيهم، بينما بقي آخرون وتلاشوا بين المصريين الذين عشقوا المفتش، ولا أدري كيف لرجل تولي وزارة المالية وكانت مكبلة بالديون قبل استلامها فاعترض علي دين جديد رافضًا إياه لرفضه التدخل الأجنبي في شئون البلاد، ويتهم بالخيانة والعمالة، بل أنه لم يستطع المشاركة في مفاوضات القروض التي تمت آنذاك، ودعا إلي الاعتماد علي الاقتراض الأهلي أو الداخلي، وذلك مثبت بالمستندات التاريخية، وأرغم الخديو والمجلس الخصوصي علي قبول العمليات المالية ذات الأربعة أشهر تحت شعار "الحفاظ علي شرف المالية المصرية" وهو من قام بضبط ميزانيات المصالح والدواوين وشارك في تكوين أجهزة مالية وإدارية، وقام بتصفية الشركات الأجنبية وناشد من خلال الجرائد الرسمية أهالي مصر لإنشاء الشركات والبنوك الوطنية، بل أنه كان يستغني عن المستخدمين الأجانب ليعين بدلاً منهم مستخدمين مصريين، وقاوم تهرب الأجانب والأعيان وغيرهم من الضرائب، ووقف في وجه التهرب الجمركي، واكتشف أكبر عملية نصب أجنبية لتزوير سندات المالية المصرية، وهو أول من أنشأ مصنعًا للورق في مصر للاستغناء عن استيراد الورق، وغيرها الكثير من المواقف التي لا جدال فيها تثبت وطنية المفتش وتؤكد أنه قتل غدرًا وأن هناك تعمدًا لتشويه تاريخه خاصةً أن من كتب عنه آنذاك سبًا ولعنًا كان علي باشا مبارك الذي كان خصمًا له، وتجاهلوا علاقته بأحمد عرابي الذي لا يختلف علي وطنيته، والذي لجأ له عرابي وطلب منه أن يعمل معه، حيث كان يراه رمزًا وطنيًا يناضل ضد التدخل الأجنبي. وقد أنصفه عبد الرحمن الرافعي في كتابه "عصر إسماعيل" وأشاد به أحمد عرابي في مذكراته، واعتبره العرابيون واحدًا من أهم الزعماء الوطنيين، بينما رأي الدكتور لويس عوض أن المفتش راح ضحية الصراع الأوروبي علي مصر وأنه دفع حياته ثمنًا لموقفه ضد التدخل الأجنبي في مصر، هذا في الوقت الذي هاجم فيه علي باشا مبارك المفتش واتهمه بالخيانة والعمالة وإساءة إدارة خزينة الدولة، وتراكم الدين الخارجي الذي أدي للتدخل الأجنبي في مصر، كل هذه الاتهامات تشعر بعض أفراد العائلة أحيانًا بالخزي، لكننا جميعًا ندرك أن جدنا راح ضحية مؤامرة ضد مصر وليست ضده وحده. تضيف مروة: عندما أمر من أمام القصر أشعر بالمرارة ليس لشخصي لأنني ابنة من بنات عائلة المفتش بل مرارة للوطن الذي يفقد جزءًا هامًا من تراثه وتاريخه، ولو كنا نعي قيمة هذه الأماكن الأثرية، جميعها وليس قصر المفتش وحده لكنا فهمنا أنها ثروة قومية كبري يمكن أن تدر ملايين الجنيهات وربما المليارات للدولة من استخدام تلك الأماكن واستغلالها بشكل يليق بقيمتها الفنية والتاريخية. نهضة مصر أما عن رأي المتخصصين في تلك الحقبة التاريخية بكل حكاياتها وما جري لآثارها، يقول الدكتور مختار الكسباني، أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة، ومستشار أمين عام المجلس الأعلي للآثار السابق: إن هذا العصر سمي تاريخيًا بعصر النهضة والتنوير، حيث انفتحت فيه مصر علي العالم فكانت القاهرة الخديوية بكل جمالها وسحرها وإبداعها، والتي أنشئت علي نمط مشروع "هاوس مان" في تخطيط مدينة باريس، وانتشرت دور الثقافة والأوبرا ومسارح مختلفة الطبقات، وأن كلمة جواري أو حريم ألغيت في هذه المرحلة وسميت الجواري وقتها بالمستولدات" وهن النساء اللاتي ارتبطن بقصر الحكم وهن من عائلات ليست لها أصول عرقية قوية، ومنهن أيضًا "العوالم والمغنيات" اللاتي كن يقدمن عروضا في القصر ويمتنعن عن العمل في أية أماكن أخري كن يحظين بالحماية والمعيشة في القصر مثل " ألمظ وسكنه باشا" كانت مصر قد بدأت في ذلك العصر نهضة حقيقية لولا التآمر في من خلال "صندوق الدين" الذي أوقع خلافًا بين الخديو والمفتش بسبب الأعباء الاقتصادية التي تحملها الاقتصاد المصري نتيجة عدم ضبط المدفوعات، وهناك روايات -والكلام للدكتور مختار- تشير إلي أن الخديو هو الذي ورط المفتش في هذا الدين، ولم يكن يدرك حقيقة ما يدبر لمصر في الخفاء فلم يكن لدينا وقتها مفكرون اقتصاديون يعرفون كيف يفكر العالم. ويتحدث الكسباني عن طرق إدارة القصور الملكية آنذاك ومنها قصر إسماعيل صديق، فيقول: إدارة القصور الملكية ليست مرتبطة بشخص الحاكم لكنها كيان كامل أحيانًا وظيفته تكون متوارثة، يكون مسئولاً عن إدارة القصر بكل ما فيه حتي بمظهر السلطان نفسه وملابسه، والأسرة التي كانت تدير القصر منذ عهد محمد علي هي نفسها التي أدارت قصور الرئاسة حتي عصر السادات تدعي أسرة "سرهانك" وكانت مسئولة عن كل شيء بما فيها اختيار الخدم والطباخين وغيرهم، ومعرفة التموين الخاص بالقصر والصيانة ولديهم أجندة خاصة لأمور الحفلات ومن مهامهم معرفة العيوب وجوانب القصور في كل نواحي الحياة بالقصر وطرق معالجتها، وتوجد ملفات تتحدث عن إدارة وصيانة القصور الملكية في قصر عابدين تشير إلي أن كبير الياوران هو من يحكم كل القصور، فإذا اختلت الأمور ضاعت هيبة الدولة وهو ما حدث في عهد مبارك حين أولي الأمر لزكريا عزمي فضاعت هيبة القصر. وأفراد عائلة "سرهانك" أصولها تركية، ارتبطوا بمحمد علي لكنهم صاروا بعدها مصريين حتي النخاع من أول "إسماعيل باشا سرهانك" الذي كان عالمًا كبيرًا له عدة مؤلفات ضخمة، أهمها "عجائب الأخبار في دول البحار" وهو خريج للأكاديمية البحرية، لذلك تميزت القصور الملكية ب "الضبط والربط" وحتي إسماعيل سرهانك الحفيد الذي عاصر عهد السادات. وعما آل إليه حال قصر المفتش يقول الكسباني: للأسف ليست لدينا ثقافة إدارة تراثنا المعماري لذلك تشوهت عمارة القاهرة والأقاليم. "وحينما سألت الدكتور الكسباني عن ذلك المبني "المختلف" الموجود بالقصر والذي تم بناؤه بخطأ هندسي وفني فادح وواضح، حيث شيد أمام إحدي البوابات الرئيسية للقصر بمسافة لا تتجاوز المترين، قال: هذا المبني تم بناؤه فترة السبعينيات حينما تحول القصر إلي أرشيف حكومي لبعض الوزارات، وبدأ يرتاده ناس لا يعرفون قيمته الفنية ولا التاريخية، فلم يحترموا التعامل معه. يبقي أن نقول أن من لا يعرف قيمة تاريخه ومن يفشل في الحفاظ عليه لا مستقبل له. قضايا كثيرة أثيرت حول الإهمال والفساد الذي "أودي بحياة قصر" ضمن أهم القصور في العالم، ومشاكل عديدة واتهامات متبادلة ما بين مسئولين وأثريين وأيضا إعلاميين، تضل جميعها طريقها لتوجيه اتهام حقيقي نحو أشخاص بعينهم يجب محاكمتهم عن "قتل ونحر" جزء هام من تاريخ الوطن، تم "التمثيل به" يكفي ما طال شخص إسماعيل المفتش وعائلته من اتهامات جعلتهم يشعرون بالخزي والعار ويجددون عبر الزمن رحلة البحث عن حقيقة المفتش وما قدمه لمصر، ليؤكدوا للمصريين ولو بعد مئات السنين أن إسماعيل المفتش لم يكن خائنًا ولا فاسدًا، ليظل التاريخ حائرًا في كل رموزه، ونبقي نحن تائهين ما بين رمز مشوه، وأثر رهن الانهيار..