إذا كانت الأصوليات الدينية هى ظاهرة القرن العشرين، فالإلحاد هو ظاهرة القرن الحادى والعشرين. والسؤال إذن: كيف حدث ذلك اللزوم من إيمان دينى مفرط إلى حد القتل إلى إلحاد مفرط إلى حد الغاء ذلك الايمان؟ وفى صياغة أخري: لماذا قتل المدنيين باسم شرع الله؟ ولماذا يكون من المشروع حذف اسم الله من أجل تأمين هؤلاء المدنيين؟ وسواء كانت الصياغة الأولى أو الثانية فلماذا يكون الناتج المشترك هو الإلحاد بالضرورة؟ أحاول الجواب فى سياق ما حدث من تطور. والمفارقة هنا أن التطور ملازم للإلحاد دون أن يكون ملازماً للأصوليات. ومن هنا يكون الحديث عن تطور الإلحاد مشروعاً وهو عنوان لكتاب أصدره المفكر ستيفن لى درو الأستاذ بجامعة أوبسالا. والعنوان يشى بأن ثمة إلحاداً جديداً مغايرا لإلحاد قديم. وفى رأى هذا المفكر أن الإلحاد القديم هو إلحاد من صنع العقل أما الإلحاد الجديد فهو من صنع عوامل ثقافية وسياسية لاحت فى الأفق مع بداية الحادى والعشرين مع صعود اليمين المسيحى والأصولية الإسلامية. أما لى درو فإنه يحدده بأنه أصولية علمانية تدعو إلى سيادة العلم. وهذه السيادة هى التى تميز النظام الاجتماعى الغربى وما ينطوى عليه من قيم خاصة به دون غيره من الأنظمة الأخري. وفى هذا المعنى يكون الإلحاد الجديد واحداً من المطلقات ومن ثم يكون أبعد ما يكون عن نقد الدين إذ ما يعنيه هو الدعوة إلى سيطرة العلم بحيث لا يكون لدينا سوى العلم. وكانت نظرية التطور لدى دارون هى نقطة البداية، لكن هل نظرية التطور تنطوى على إلحاد مقنع؟ إن دارون لم يقل عن نفسه إنه ملحد بل قال إنه من أنصار المذهب اللاأدرى أى الذى يقف على الحياد إذا لزم الاختيار بين وجود الله وعدم وجوده. وقد ترتب على هذه العلاقة العضوية بين الإلحاد الجديد ونظرية التطور أن حدث تغيير فى علاقة أخرى كانت قائمة بين التنوير والنقد الديني، إذ لم يعد هذا النقد محصوراً فى مجال العقل وحده إنما تجاوزه إلى مجال آخر وهو ما أُطلق عليه المجال الانثروبولوجي، أى مجال علم الإنسان، وذلك بسبب صعود الأصوليات الدينية المدعمة لكل ما هو مناقض للعقل بدعوى أن إعمال العقل فى النصوص الدينية هو رجس من عمل الشيطان على حد تعبير الفقيه الاسلامى ابن تيمية الأمر الذى أفضى إلى حذف البرهان العقلى على وجود الله وهو ما يسمى بالبرهان الأنطولوجى أى البرهان الوجودى والذى يعنى أن فكرة الله ذاتها يستلزم منها ضرورة وجوده، ومن ثم تصبح الانثروبولوجيا بديلاً عن الأنطولوجيا. ويكون التساؤل عن الأسباب الانسانية التى تؤدى إلى الايمان بالله بمعزل عن مقتضيات العلم. وقد ترتب على هذا التساؤل بزوغ نوعين من النزعة الانسانية: الانسانية المؤمنة والانسانية الملحدة. ومن رواد الانسانية الملحدة الفيلسوف الانجليزى ريتشارد دوكنز الذى ذاع صيته إثر دخوله فى حوار حاد مع الاسلاميين واليهود الأرثوذكس فى أورشليم فى عام 2006. وبعد ذلك أصدر كتابه العمدة تحت عنوان وَهْم الإله. ويقصد بالوهم هنا الاعتقاد الكاذب على نحو ما ورد فى معجم بنجون الانجليزي. وتأليف هذا الكتاب له قصة بدايتها المحاضرات التى كان يلقيها بجامعة هارفارد وعموده الثابت فى مجلة البحث الحر التى تصدر عن مركز البحث الحر. ومع ذلك دخل دوكنز فى علاقة تناقض مع مدير المركز بول كيرتس أستاذ الفلسفة بجامعة نيويورك, بافلو. والسؤال اذن: أين يكمن هذا التناقض؟ يكمن فى أن دوكنز الملقب بالمجاهد يتجاهل الأخلاق الانسانية التى هى أساس رؤية كيرتس. ومن هنا بدأ الصراع بين الاثنين وغالبية أعضاء المركز مع دوكنز ضد كيرتس. وقد انتهى هذا الصراع بطرد كيرتس من المركز. وقيل عن هذا الطرد بأنه انقلاب قصر وإن سببه مردود إلى الصراع حول اختيار حاسم: إما الإلحاد وإما الإنسانية العلمانية. فقد كان من رأى الانقلابيين أن الإلحاد هو أساس الإنسانية العلمانية أما كيرتس فكان من رأيه أنه فى إمكان الإنسان أن يكون ملتزماً بالإنسانية العلمانية دون أن يكون ملتزماً بالإلحاد. ومن هنا يكون الإلحاد مرفوضاً إذا تحول إلى إلحاد أصولى محكوم بالتعصب مثل الأصولية الدينية. والسؤال بعد ذلك: إذا لم يكن الإنسان العلمانى ملتزماً بالإلحاد فبماذا يكون ملتزماً؟ الجواب يكشف عن الفارق الجذرى بين كيرتس والانقلابيين وهو يكمن فى أن كيرتس كان ناقداً للرأسمالية المفرطة المتصاعدة فى أمريكا والتى من شأنها دفع الحكومة إلى الانحياز إلى الطبقة الثرية الذى تنتفى معه العدالة الاجتماعية بالضرورة. أما الانقلابيون فلا يعنيهم سوى حرية الفرد. والجدير أن كيرتس قد دعانى للكتابة فى مجلة المركز فى عام 1990، كما أنه كان من المدعمين للمؤتمر الدولى الذى عقد فى القاهرة فى عام 1994تحت عنوان «ابن رشد والتنوير». ويبدو أن اللاهوتى المعاصر جورج مكلين كان يراقب العلاقة الايديولوجية بينى وبين كيرتس فماذا حدث؟ لمزيد من مقالات ◀ د. مراد وهبة