إذا كنت على وعى بأن الله مطلق وعقل الانسان نسبى فيلزم أن تكون على وعى أيضا بأن ما هو نسبى ليس فى إمكانه قنص المطلق. ومع ذلك فإن بنى البشر أجمعين فى هذا الزمان يتحدثون عن الله ببساطة ومع ذلك فإن أحاديثهم تنطوى على إشكاليات، أى على تناقضات. فالكل يقول عن الله إنه الموجود الأعلي، وإنه خالق الكل. ومع ذلك فإن هذا القول محير، ذلك أن الله ليس موجودا من بين الموجودات. والكل يقول إن الله مفارق ومع ذلك فهم كثيرا ما يتباهون بأنهم يعرفون هوية الله وفيما يفكر، ويطلبون منه ارشادهم فى انتخاب رئيس الدولة ومساعدتهم فى هزيمة الأعداء. وفى هذا المعنى يؤسسون أحزابا قتالية باسمه مثل حزب الله وحزب أنصار الله. وقد كانت هذه الاشكاليات هى التى دفعت المفكرة ذات الجذور الايرلندية كارن آرمسترونج إلى أن تصدر كتاباً فى عام 2009 عنوانه مسألة الله، وهو كتاب يأتى فى سلسلة مؤلفات سابقة لها فى هذا الشأن وهى على النحو الآتي: تاريخ الله، أورشليم: مدينة واحدة لثلاثة إيمانيات، القتال فى سبيل الله، تاريخ موجز للأسطورة. كانت آرمسترونج راهبة فى النظام الكاثوليكى فى الستينيات من القرن العشرين ثم تخلت عن الرهبنة فى عام 1969. وفى عام 2005 رشحها أمين عام الأممالمتحدة كوفى أنان للمشاركة فى مبادرة المؤسسة الدولية تحالف الحضارات، إلا أنها تفرغت لمواجهة إشكالية فكرة الله. وتكمن هذه الاشكالية فى العقل ذاته، إذ هو يتميز بأن لديه القدرة على مجاوزة ذاته وذلك بدفع تصوراته إلى حدها الأقصى بحيث توحى لصاحبها بأنه قادر على قنص المفارق الذى هو الله. ولكن حدث فى القرنين السادس عشر والسابع عشر بزوغ حضارة محكومة بعقلانية علمية ومؤسسة اقتصاديا على التكنولوجيا والاستثمار الرأسمالي، ومن ثم يمكن القول إنها حضارة مستندة إلى اللوغوس أى العقل، ونافية ل الميثوس أى الأسطورة. وفى هذا السياق كان من اللازم أن يخضع الدين للتأويل العقلاني. إلا أن هذا الخضوع كان من شأنه بزوغ تيارين متمايزين وهما الأصولية والالحاد على نحو ما ارتأت آرمسترونج. التزمت الأصولية بالتفسير الحرفى للانجيل الذى كان من شأنه تأسيس علم الخلق وهو نقيض نظرية التطور عند دارون. العلم الأول ملتزم بما ورد فى التوراة من أن الله خلق العالم فى ستة أيام. أما نظرية التطور فملتزمة بتطور الكائنات ابتداء من الاميبا، أى الخلية الواحدة حتى الانتهاء إلى الانسان عبر ملايين السنين. وكان من شأن هذا التناقض بين الطرفين بزوغ الالحاد. والسؤال اذن: ما الالحاد؟ إنه ليس انكارا لله بالمطلق إنما هو إنكار لتصور معين عن الله على نحو ما ارتأى كل من ماركس ودارون وفرويد، أى هو إنكار لتصور الأصوليين عن الله. فماركس ارتأى أن الظلم الناشئ من النظام الرأسمالى أفرز تصورا معينا عن الله هو من قبيل الوهم. يقول: إن الدين تعبير عن زفرة ألم لإنسان مقهور فى عالم بلا روح.. وفى هذه الحالة أيضا يكون الالحاد عبارة عن برنامج عمل من أجل إزالة هذا الأفيون. أما دارون فلم يكن لديه أى رغبة فى تدمير الدين إنما كانت لديه رغبة عارمة فى تدعيم نظرية الانتخاب الطبيعى التى تقول بأن البقاء للأصلح. ومن هنا لم يكترث دارون بنقد فكرة العذاب الأبدى لمن يرتكب الخطايا. ومن هنا أيضا أعلن دارون أنه ليس ملحدا بمعنى إنكار وجود الله بل بمعنى إبعاد علم اللاهوت عن مجال العلم. وفى النهاية يأتى العالم البيولوجى توماس هكسلى الذى قال عن نفسه إنه ينتمى إلى اللاأدرية التى تقف ضد اليقين المطلق المتضمن فى الالحاد والذى هو أمر محال. أما فرويد فقد ارتأى أن ليس ثمة حاجة إلى تبرير الالحاد لأنه ليس فى حاجة إلى تبرير. ومع ذلك كله فثمة سؤال لابد أن يثار: هل بداية الالحاد كامنة فى بداية السؤال عن وجود الله. والمغزى هنا أن السؤال عن الله يضع ظاهرة الله فى مستوى ظاهرة الانسان التى هى موضع تساؤل من قبل العقل، وهو أمر من شأنه أن ينفى التمايز الحاد بين وجود الله ووجود الانسان. وهل هذا النفى هو الذى دفع اللاهوتى المعاصر بول تلش إلى القول بأن الله هو فى عمق الإنسان، وأن المطلق هو فى عمق النسبي، وبالتالى فإنه لن يكون فى متناول العقل. فى هذا السياق كله يمكن القول إن الإلحاد فى حاجة إلى بيان. ولا أدل على ذلك من صدور كتابين فى هذا الزمان أحدهما «أفول الالحاد» (2004) والآخر عنوانه « تطور الالحاد» (2016). فما هى الأفكار الواردة فى هذين الكتابين؟ لمزيد من مقالات د. مراد وهبة