يشير العنوان إلى معنى كلمتى «أنطولوجيا» و«كسمولوجيا» .. وأتوقف لأتساءل عن جذر هاتين الكلمتين، فكلمة «أنطولوجيا» معرَبة وليست مترجمة بمعنى أنها صُبغت بصبغة عربية عند نقلها بلفظها الأجنبى الذى هو هنا لفظ يونانى ويعنى علم الوجود، والمقصود بالوجود هنا هو الوجود العام الذى هو قاسم مشترك بين جميع الموجودات، بمعنى أنه يشير إلى موجودات دون أن يكون هو أحد هذه الموجودات. وفى هذا المعنى قال أرسطو عن هذا الوجود العام إنه موضوع الفلسفة الأولي، أو بالأدق موضوع علم الوجود بوجه عام. وهو بهذا المعنى يقال عنه إنه أعلى مراحل التجريد الذى يتجاوز به الفيلسوف جميع أنواع الموجودات الحسية بحيث يمكن القول عن هذا المعنى المجرد إنه غير محدد بأى نوع من التحديدات. وعند هذه المرحلة أظن أن من حق القارئ أن يتساءل: إذا كان لفظ الوجود العام غير محدد بأى شيء موجود فما سبب لزومه وجعله موضوعاً للفلسفة؟ وجوابى أن هذا الوجود العام لا يتغير، أى ثابت لأن المحسوس فقط هو المتغير، أى غير ثابت. وإذا قيل عن الله إنه هو هذا الوجود العام غير المتغير فيكون موضوع الأنطولوجيا هو الله. وإذا كان ذلك كذلك فيكون من اللازم انشغال الفلاسفة بتناول مفهوم الله لمعرفة ما إذا كان هذا المفهوم محصوراً فى العقل أم أنه خارج العقل. فإذا كان فى العقل وحسب فبها, أما إذا كان خارج العقل فهنا تثار هذه الإشكالية: كيف يكون الله موجوداً فى الخارج وبمعزل عن الموجودات الحسية باعتبار أنه الوجود العام؟ ومن هنا اندفع فلاسفة نحو البرهنة على وجود الله فى الخارج كما اندفع فلاسفة آخرون نحو البرهنة على عدم وجوده. والمفارقة هنا أن البراهين على الضفتين جاءت متكافئة فى القوة. وعندئذ قال الفيلسوف الفرنسى بسكال من القرن السابع عشر: إذا كان الحال هو كذلك فليس أمامنا سوى حجة واحدة أطلق عليها «حجة الرهان» وتعنى أنك إذا آمنت بأن الله موجود وصدق إيمانك فإنك ستكسب الحياة الأبدية، أما إذا لم يكن موجوداً فإنك لن تخسر شيئاً. إلا أن هذه الحجة لم تلق استحسانا لأنها تضع الله موضع رهان. وعندئذ قال الفيلسوف الألمانى كانط من القرن الثامن عشر: إذا كانت البراهين متكافئة فمعنى ذلك أن العقل نفسه غير قادر على تناول مفهوم الله بحكم أن هذا المفهوم مطلق والعقل نسبي، ومن ثم فليس فى إمكان ما هو نسبى أن يدرك ما هو مطلق. ويترتب هذا القول إلغاء الأنطولوجيا برمتها، وقد كان، عندما ظهرت نظرية النسبية لأينشتين التى تجاهلت الأنطولوجيا واتجهت إلى الكسمولوجيا. والسؤال اذن: ما جذر هذه الكلمة؟ هذه الكلمة معربة وليست مترجمة وجذرها فى اللغة اليونانية وهو كسموس بمعنى النظام والجمال. أما عند أينشتين فالكسمولوجيا تتناول الكون باعتباره محكوماً بمفهوم معين للزمان والمكان باعتبار أن الزمان هو البُعد الرابع للمكان بعد أن كان للمكان أبعاد ثلاثة فقط عند نيوتن. وإدخال الزمان كبعد رابع أفضى إلى أن كلا من المكان والزمان نسبى ولم يعد كل منهما مطلقا على نحو ما ارتأى نيوتن. ومن بعد ذلك انشغل علماء الفيزياء النووية فى القرن العشرين بدراسة الكون دراسة علمية أدت إلى ابتداع سفن فضائية تتجول فى الفضاء كما ترسو على سطح القمر وغيره من الأفلاك. وكل ذلك من أجل تكوين علاقة عضوية بين الانسان والكون بحيث تكون خالية من الأوهام والأساطير التى كان يتوهمها. وأصبح الفارق بين الفيزياء التقليدية والفيزياء النووية فارقاً كيفياً. الأولى تتناول الكون على أنه منفصل عن الإنسان، وبالتالى فإن الانسان فيها يحس بالاغتراب فى علاقته بالكون. أما الثانية فتتناول الانسان على أنه ليس مستقلاً عن الكون وذلك بفضل غزو الفضاء. والفضاء هنا هو المنطقة الواقعة خارج جو الأرض، أو هو الفضاء الكوني. وغزو الفضاء يتم على مراحل: بدايتها غزو الفضاء الذى هو خارج جو الأرض. وهذا هو ما تقوم به التكنولوجيا المعاصرة، وما يستلزمه من بقاء الانسان عدة أسابيع فى أحد الأفلاك. أما غزو الفضاء الكونى فيستلزم تعود الانسان على الحياة فى الفضاء. وهذا من شأنه أن يحدث تغييراً جذرياً فى الانسان ينبئ ببزوغ نوع جديد من الانسان يمكن تسميته الانسان الكوني. وهو بزوغ ممكن بحكم قانونين: قانون النشوء والتطور الذى كان قد ابتدعه العالم الانجليزى دارون، وقانون الانتقال من الكم إلى الكيف الذى كان قد ابتدعه الفيلسوف الألمانى هيجل. وفى هذا السياق يمكن القول إن فى مقدور هذا الانسان الكونى تمثل الكون ذى الأبعاد الأربعة الزمكانى الذى تنبأ به أينشتين. ومن شأن هذا التمثل أن يسمح للإنسان برؤية الأحداث قبل أن تقع فيزول اغتراب الانسان عن الكون. وتأسيساً على ذلك كله يمكن القول إن مستقبل الفلسفة يكمن فى أن تكون كسمولوجيا وبلا رجعة إلى الأنطولوجيا. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة