ثمة مستويان للنقد التاريخى الذى قدمته فلسفات التنوير للدين، أولهما يدور حول العقلانية، أى قدرة العقل على ممارسة المعرفة ومقاربة الحقيقة فى العالم الطبيعي، هو الميدان الذى شكل النقد (النظري). أما الثانى فيدور حول الحرية، أى قدرة الإنسان على إعمال إرادته وممارسة حريته فى العالم الاجتماعي، وهو الذى شكل النقد (العملي) للدين. على صعيد النقد النظرى دار الصراع حول دور الطرفين،أى الدين/ الإيمان والعلم/ العقل، فى توصيف العالم وتفسير الوجود، ومن ثم انشغل النقد النظرى بجذور الاعتقاد الدينى أو مفهوم الإلوهية. وعلى صعيد النقد العملى دار الصراع حول دور الدين فى الحياة اليومية، ودور المؤسسات الدينية فى المجال العام، خصوصا على مشروعية تغولها على نظيرتها الدنيوية / الزمنية، حيث نمت ظاهرة الكهانة. أفضى النقد النظرى «العقل المحض» إلى مفهوم العقلانية، الركيزة الأولى من الست المعتبرة لمفهوم الحداثة. أما النقد العملى (العقل السياسي) فأفضى إلى تبلور مفهوم العلمانية، الركيزة الثانية للحداثة.يعتقد البعض أن مصطلح العلمانية مشتق من العِلم، أى بكسر العين، وليس ذلك صحيحا قط فالعلمانى بكسر العين هو ما يطلق عليه وصف «العلموي»، أى من يتخذ من المعرفة العلمية الوضعية كما تتجسد فى العلوم الطبيعية، نموذجًا لباقى أنساق المعرفة، ما يعنى أنه يعمم المنهجية الوضعية على المجالات المختلفة، نافيا إمكان المعرفة الخلقية أو الدينية. أما العَلمانى بالمعنى الذى نقصده هنا فهو الشخص المنتمى إلى هذا العالم، المنشغل بالملكوت الدنيوى لا المنتظر للملكوت الأخروي، العلمانية ترادف إذن النزعة الدنيوية، والانشغال الايجابى بحركة التاريخ بعيدا عن الدروشة الصوفية، حيث يمنح العقل الإنساني، مستقلا عن الدين، دورا أساسيا فى مقاربة مختلف مجالات الحياة، واكتشاف الغايات التى يجدر تحقيقها فى هذا العالم والوسائل المعنية بتحقيقها. ومن ثم تصبح العَلمانية أقرب إلى موقف إبستيمولوجى/ معرفى، يحترم العقل، ويسعى إلى تنظيم المجال السياسى على أسس عقلانية، فالعلمانية السياسية هى بمثابة العقلنة مطبقة على الفضاء السياسي، وبالأحرى على ظواهر من قبيل ممارسة السلطة وتداولها. ولكنها ليست موقفا أنطولوجيا/ وجوديا، يمثل رؤية شاملة للحياة، أو يفرض على معتنقه رؤية مادية، تجعل من العلم التجريبى القائم على مفهوم الحتمية مصدرا وحيدا للحقيقة. ومن ثم فإننا لا نربط ربطا ضروريا بين مفهوم العَلمانية السياسية، وبين المذهب الوضعي، المتطرف فى ماديته، قد يرتبطان معا لدى بعض المذاهب المادية، ولكنه ارتباط ايديولوجى يقصد إليه صاحبه، وليس ارتباطا حتميا يفرضه الانتماء للحداثة. هذا على صعيد الفهم النظري، أما على صعيد الممارسة التاريخية، فقد صار مصطلح العلمانية مفهوما واسعا ومتطورا، يندرج فى سياقه تجارب ونظم ومتعددة، فهو يعادى مثلا مفهوم الوصاية الكهنوتية التى مثلتها الكنيسة الكاثوليكية بامتياز فى العصور الوسطي، إذ يرفض الفهم العلمانى أن يكون لأى فئة من الناس الحق فى احتكار المعرفة فى الشئون السياسية والاجتماعية، أو فى أى شأن دنيوى آخر، على أساس أنه متاح لها وحدها معرفة ما الذى يريده منا الله فى دنيانا، وإن بقى لرجال الدين المسيحى أو فقهاء المسلمين دورا فى تفسير الكتاب المقدس، ولكن حتى هذا الدور إنما يكتسبه هؤلاء الرجال أو الفقهاء بعلمهم وتبحرهم فى المعرفة الدينية واللغوية، وليس نتيجة لشرط تحكمى أو تعجيزى يستعلون به على الناس، كونهم منتمين إلى كنيسة ما، أو مؤسسة ما كالأزهر مثلا، أو حتى طبقة اجتماعية مثلما كان البراهمة فى الهند. وهو أيضا يعادى الدولة الدينية التى يدعى حكامها تفويضا إلهيا مقدسا لحكم شعوبهم، كما جرى الأمر فى التاريخ الأوروبى الوسيط. تكتفى العلمانية السياسية، على هذا النحو، بنزع المرجعية الأخلاقية من قبضة السلطات الدينية التى تمارس الكهانة وتدعى الوصاية على الضمير الإنساني، وتبقى على احترامها للمطلقات الأخلاقية، والحض على ممارستها فى المجال الخاص للفرد، بل والحرص على أن يكون التشريع القانونى متوافقا مع مبادئها الأساسية حتى لو أعطت لنفسها الحق فى التفسير العصرى المتجدد لتلك المبادئ. وعلى العكس، تدفع بعض التيارات الملحدة فى التنوير، والمتطرفة فى الحداثة، إلى الربط الحتمى بين العلمانية السياسية على هذا النحو الذى يبقيها ضرورة عقلانية، وبين علمنة الأخلاق التى تجعل منها حتمية مادية، وهنا نصبح أمام علمنة وجودية فائقة تمثل حاصل جمع لعلمنة السلطة، وعلمنة الأخلاق، تنزع المرجعية الأخلاقية من الوحى ذاته، وليس فقط من المتحدثين باسمه، لتصبح القيم الأخلاقية نسبية وتاريخية، فلا النص الدينى مطلق، ولا القيم العليا التى يقول بها كونية، والفضيلة هى ما يتوافق عليه البشر، حتى لو كان فى الأصل رذيلة، فالاتفاق البشرى هو أصل الخير والشر، الإباحة والتحريم، والإنسان هو المعيار النهائى للفضيلة. وبينما تجعل العلمانية المعتدلة من الإنسان قطبا ثانيا للوجود مع الله، يحاوره ويتلمسه من دون أن يقصيه عن موقعه، ولذا تبدو ممكنة فى ظل الإيمان الروحي، قدر ما هى مطلوبة للحكم الرشيد والمجتمع الحر، فإن العلمانية الفائقة تضع الإنسان فى مركز العالم بديلا عن الله، الذى يتم إقصاؤه إلى موقع الهامش أو يدفع به إلى مصير كالموت، ومن ثم تبدو غير ممكنة فى ظل الإيمان، مثلما هى غير مطلوبة لرشادة الحكم أو تطور المجتمع، بل إنها ربما فتحت الباب إلى أمراض اجتماعية عديدة، فحيث يتوارى الوازع الدينى يضمر الضمير الأخلاقى عند عموم البشر، تتمدد نزعات العبث ومشاعر العدم فى كل اتجاه، حتى لو كانت المجتمعات متقدمة، بل أحيانا بسبب تقدمها. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم;