انطلاق انتخابات التجديد النصفي لنقابة أطباء الأسنان بالشرقية    بمناسبة أعياد تحرير سيناء.. نقل صلاة الجمعة على الهواء مباشرة من مدينة العريش    هشام عبدالعزيز خطيبًا.. نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد النصر بالعريش    حصول 4 معاهد أزهرية على الاعتماد والجودة رسمياً بالإسكندرية    ضمان حياة كريمة تليق بالمواطن.. 7 أهداف ضمن الحوار الوطني    خبير: أمطار غزيرة على منابع النيل فى المنطقة الإستوائية    تعرف على سعر الذهب مع بداية تعاملات الجمعة    بمناسبة عيد تحرير سيناء.. التخطيط تستعرض خطة المواطن الاستثمارية لشمال وجنوب سيناء لعام 2023-2024    خزنوا الميه.. إعلان ب قطع المياه ل12 ساعة عن هذه المناطق    الحوثيون: استهدفنا سفينة إسرائيلية في خليج عدن وأطلقنا صواريخ باليستية ومجنحة على أهداف في إيلات    جامعة جنوب كاليفورنيا تلغي حفل التخرج الرئيسي بعد احتجاجات مناهضة للعدوان على غزة    حزب الله ينشر ملخص عملياته ضد الجيش الإسرائيلي يوم الخميس    إسرائيل تضع شرطًا للتراجع عن اجتياح رفح    نائب وزير الخارجية اليوناني يعتزم زيارة تركيا اليوم الجمعة    تؤجج باستمرار التوترات الإقليمية.. هجوم قاس من الصين على الولايات المتحدة    رمضان صبحي: أشعر بالراحة في بيراميدز.. وما يقال عن انتقالي للأهلي أو الزمالك ليس حقيقيا    رمضان صبحي: نفتقد عبد الله السعيد في بيراميدز..وأتمنى له التوفيق مع الزمالك    الليلة.. نهائي مصري خالص في بطولة الجونة للإسكواش للرجال والسيدات    فينيسيوس يقود هجوم ريال مدريد في التشكيل المتوقع أمام سوسييداد    كارثة كبيرة.. نجم الزمالك السابق يعلق على قضية خالد بو طيب    طقس الساعات المقبلة.. "الأرصاد": أمطار تصل ل"سيول" بهذه المناطق    الشركة المالكة ل«تيك توك» ترغب في إغلاق التطبيق بأمريكا.. ما القصة؟    بدون إصابات.. إنهيار أجزاء من عقار بحي الخليفة    القناة الأولى تبرز انطلاق مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير في دورته العاشرة    فضل قراءة سورة الكهف ووقت تلاوتها وسر «اللاءات العشر»    منها «عدم الإفراط في الكافيين».. 3 نصائح لتقليل تأثير التوقيت الصيفي على صحتك    الصحة: إجراء الفحص الطبي ل1.688 مليون شاب وفتاة ضمن مبادرة فحص المقبلين على الزواج    اكتشاف فيروس إنفلونزا الطيور في 20% من عينات الألبان في الولايات المتحدة    أماكن الاحتفال بعيد شم النسيم 2024    ارتفاع أسعار الطماطم والبطاطس اليوم الجمعة في كفر الشيخ    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    رسالة من كريم فهمي ل هشام ماجد في عيد ميلاده    موقف مصطفى محمد.. تشكيل نانت المتوقع في مباراة مونبيلييه بالدوري الفرنسي    واعظ بالأزهر: الإسلام دعا إلى صلة الأرحام والتواصل مع الآخرين بالحسنى    اعرف الآن".. التوقيت الصيفي وعدد ساعات اليوم    «إكسترا نيوز» ترصد جهود جهاز تنمية المشروعات بمناسبة احتفالات عيد تحرير سيناء    استقرار أسعار الدولار اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    حكاية الإنتربول مع القضية 1820.. مأساة طفل شبرا وجريمة سرقة الأعضاء بتخطيط من مراهق    التوقيت الصيفي في مصر.. اعرف مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 26 - 4 - 2024    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    أبناء أشرف عبدالغفور الثلاثة يوجهون رسالة لوالدهم في تكريمه    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    قوات الاحتلال تعتقل شقيقين فلسطينيين بعد اقتحام منزلهما في المنطقة الجنوبية بالخليل    الزمالك يزف بشرى سارة لجمهوره بشأن المبارة القادمة    مسؤول أمريكي: واشنطن تستعد لإعلان عقود أسلحة بقيمة 6 مليارات دولار لأوكرانيا    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    الإنترنت المظلم، قصة ال"دارك ويب" في جريمة طفل شبرا وسر رصد ملايين الجنيهات لقتله    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميًّا    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    سيد معوض يكشف عن مفاجأة في تشكيل الأهلي أمام مازيمبي    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    عاجل - محمد موسى يهاجم "الموسيقيين" بسبب بيكا وشاكوش (فيديو)    تامر حسني باحتفالية مجلس القبائل: شرف عظيم لي إحياء حفل عيد تحرير سيناء    مسجل خطر يطلق النار على 4 أشخاص في جلسة صلح على قطعة أرض ب أسيوط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الإيمان العقلانى إلى العقلانية المؤمنة.. خضوع الضمير لقوة السلطة.. استعادة تاريخية لمحاكم التفتيش
نشر في الأهرام اليومي يوم 27 - 11 - 2015

ثمة اتفاق بين شرائع الدين التوحيدى على التمييز بين مستويين للوجود: أولهما هو الرفيع السامى، حيث الله هو قطب الوجود الأول، خالق الكون والإنسان، الحائز لمنتهى كمال الإرادة والحكمة والقوة والرحمة وغيرها من صفات الذات الإلهية، التى لا يعتريها نقص، ولا تخضع لتحول، ولا يمكن للعقل أن يحيط بها، ولا للزمان أن يحتويها، فالله هو خالق الزمان، فلا يتصور له فيه بداية أو نهاية،
لأنه الأزل والأبد معا، القديم والخالد فى آن. ومن ثم ترفض تلك الشرائع القول بحلول الله فى مخلوقاته أو اتحاده بها، وإن تجلى حضوره فيها. ولم يشذ على تلك القاعدة سوى المسيحية التى قالت بحلول الله / الآب، فى الإنسان / المسيح، الذى صار بهذا الحلول حاملا لطبيعتين مائزتين من اللاهوت والناسوت لكنهما مندمجتان معا، تصل بينهما روح قدس، حيث تكتمل الألوهية فى الأقانيم الثلاثة، فثمة إذن توحيد بلا وحدانية. أما ثانيهما فهو المخلوق العادى، حيث الإنسان هو قطب الوجود الثانى الأقل جوهرية، فهو ليس أزليا ولا خالدا، لا قديما ولا سرمديا، بل عابرا ومؤقتا، مخلوقا وفانيا، مولودا وميتا ما يجعله بالضرورة فى موقف أدنى من الذات الإلهية. غير أن اختلافا كبيرا يثور بين الشرائع الثلاث، وبين تيارات داخل كل شريعة، حول مدى دنو الإنسان وخضوعه، حيث يتبلور نمطان أساسيان لصياغة العلاقة بين الله والإنسان:
النمط الأول يمنح للإنسان بعض القيمة، فهو ليس ذلك العدم المنسحق تماما أمام الله، الذى خلقه على صورته، ومن ثم يملك نوعا من المشابهة معه دونما الاتحاد به، والمشاركه فى بعض صفاته، دون التجرؤ قطعا على مساواته. ففي الإنسان خير ولكنه ليس خيرا خالصا كالخير الإلهى، بل مزيج من الخير والشر. وفيه نزوع إلى الكمال، ولكنه نزوع غير قابل للاكتمال، بل مزيج من الكمال والنقص. وعلى هذا الطريق صاغت الرؤية القرآنية الرائقة للوجود مفهوما إيجابيا عن الإنسان كذات فردية، مالكة لكل مقومات الحرية والفعالية، متحررة من قيود الجبر والعدمية. فإذا كان ثمة إله مهيمن على الكون، له كل صفات القدرة والعلم فثمة، فى المقابل، إنسان مستخلف عليه، قادر على تحقيق ذاته وممارسة حضوره، ولكن في عناية خالقه، تحقيقا لغايات الإستخلاف التى يريدها له.
أما النمط الثانى فيسلب من الوجود الإنسانى أى قيمة، ليقترب به من حد العدم، ويصير جوهرا للشر والنقص، وكأنه لا طريق لتعظيم للوجود الإلهى إلا بتحقير الوجود الإنسانى. يتجسد هذا النمط فى تيارات الزهد داخل الشرائع الثلاثة، حيث القبالاة اليهودية، والرهبنة المسيحية، والتصوف الإسلامى المغترب، فجميعها تميل إلى شل فعالية الإنسان وإضعاف حضوره، إذ تنظر إليه باعتباره مفعولا به، مقهورا دائما، وعدما أحيانا. وقريب من تلك التيارات الزهدية، تقع التيارات السلفية / الأرثوذكسية/ الأصولية، التى تتسم بالرجعية والرغبة فى المحافظة على أنماط التصور والسلوك التقليدية، اتباعا للسابقين، على نحو ما نشهده لدى الحريديم اليهود، والإنجيليين المسيحيين، الذين يعتقدون، وإن بدرجات مختلفة، فى مفهوم الخطيئة الأصلية التى ارتكبها آدم، فوصمت بنيه بنقص أزلي يعجزون معه عن تحقيق خلاصهم، إلا بمعونة خارجية اتخذت فى المسيحية صراحة شكل الفادى / المخلص، حيث صلب المسيح تكفيرا عن الخطيئة الأصلية، وفداء للبشرية. وبرحيله صارت الكنيسة هى جسده، الأمين على الخلاص بعده، ما أخضع المسيحى لسلطة روحية وقفت حائلا دون حريته الوجودية، لم يتحرر من أسرها إلا عبر متوالية الإصلاح الدينى والنزعة الإنسانية ثم التنوير. أما فى الإسلام فثمة العقل السلفى، الذين انحرف عن الرؤية القرآنية المؤكدة لحرية الإنسان وفعاليته، نحو رؤية نقيضة تقوم على الإستلاب والاغتراب والجبر، تغذت على الشعور بالهزيمة الحضارية والنفسية فى العصور المتأخرة، وما يصاحب ذلك الشعور عادة من رغبة فى الإنطواء على الذات، تتغطى بقشرة من التعالى الزائف على الآخر والادعاء فى مواجهته بخصوصية مطلقة، تجعل من الذات نسقا استثنائيا فى حركة التاريخ، أو بنية مغلقة فى سياق التجربة الإنسانية. ومن ثم يتوسع أنصار العقل السلفى فى نزعة الأسلمة لكثير مما هو إنسانى، خصوصا على أصعدة السياسة والأخلاق والمعرفة. فعلى صعيد السياسة تتصاعد ادعاءات الدولة الدينية "الخلافة الشرعية" على حساب الدولة المدنية. وعلى صعيد المعرفة تبرز ادعاءات "إسلامية العلم" على حساب إنسانيته. وأما على صعيد الأخلاق فتنمو ادعاءات التفوق الأخلاقى، التى تبرر نفسها بنزعة طقوسية شكلانية على حساب القيم الإنسانية الجوهرية. ولأننا كنا توقفنا سلفا عند الادعاء الأول بالخصوصية السياسية، فسوف نقصر وقفتنا هنا على الإدعاءين الأخيرين حيال الأخلاق والمعرفة..
المعرفة.. تأسيس أنطولوجى وحياد ابستيمولوجى
يتبدى الإيمان بوحدة العالم الطبيعى كنتيجة منطقية لوحدانية خالقه، حيث الإله الواحد الأحد، هو الضمانة الأكثر أساسية لشمول واتساق واضطراد قوانين الطبيعة، ما يجعل العلم التجريبى ممكنا، إذ لو كان ثمة آلهة متعددة للشمس، والريح، وربات للقمر والخصب.. الخ، كما تصورت الميثولوجيا القديمة، خصوصا اليونانية، لوقع التناقض والشذوذ، وعجز الناس عن الاتفاق على قواعد عامة ثابتة للظواهر الكونية، أى لانعدم العلم، واستحال بناء (مجتمع العلماء) لأن تفاهم هؤلاء ينتج عن اعتقادهم بوجود قوانين موضوعية، غير مشخصة، تسود الطبيعة فى كل مكان وزمان، ولهذا كان مفهوم الوحدانية ركيزة أساسية لنمو العلم.
حسب هذا الفهم يبدى الإسلام، برؤيته التوحيدية الرائقة، انسجاما مع المبادىء الكلية للعقل البشرى، وعلى رأسها الميل إلى الاتساق والانتظام، والنزوع إلى التكامل واللاتناقض، ورفض العبث والفوضى، الأمر الذى مكنه ليس فقط من استيعاب النمو الحادث للمعرفة فى التاريخ السابق عليه باعتباره (إيمانا عقلانيا)، بل وتحفيزه فى التاريخ اللاحق له ترسيخا ل (العقلانية المؤمنة) على قاعدة "الذات المستخلفة" التى تمثل مفهوما توفيقيا بين عبودية الإنسان لله، وبين خلافته فى الأرض، إذ يحفظ له حضوره المائز، وأولويته على الخلائق كافة، متجاوزا به نزعات الجبر والإغتراب، ولكنه يبقى هذا الحضور فى ظل الله، لا يتنكر له ولا يسعى إلى إسقاطه من عليائه أو الادعاء بموته كما ادعت تيارات الوضعية المتطرفة فى الحداثة الغربية. هذه المفهوم يتجذر فى تربة الوجود والمعرفة معا:
فعلى الصعيد الوجودى، تكتسب الذات المستخلفة مشروعيتها من ذلك الارتباط المبدئى بين صورة الكون المتسق، وبين وحدانية الله، ما يجعل من معرفة الكون ضرورة مبدئية للتكليف بأمانة الاستخلاف. كما يتحدد دورها فى تجسيد الرؤية الإسلامية الكلية للعلاقة بين الإنسان والطبيعة باعتبارها علاقة تسخير وتكامل، وليس علاقة صراع حدي معها بهدف ترويضها والسيطرة عليها إلى درجة استنزافها، كما هو الأمر الآن لدى التيارات الوضعية فى الحداثة الغربية، أو تلبسا بها، وذوبانا فيها، يعكس وعيا كونيا حلوليا، لعله من بقايا المرحلة السحرية المتقادمة فى تاريخ العقل الإنسانى، مثلما كان الأمر فى ديانات الطبيعة الأسيوية، خصوصا الهندوسية.
ولعل الميزة الأساسية لتلك الذات، أنها تدرك الحدود الممكنة لمعرفتها، تأسيسا على التمييز الواضح بين العالم الطبيعى بحدوده المادية الملموسة التى يمكن التحقق منها، والتى تمثل محورا لانشغال العلم التجريبي، وبين الوجود الشامل (اللامحدود) الذى لا يمكن اكتشافه بالطرائق التجريبية نفسها، ما يبقى للدين بإلهاماته الجوهرية دورا مهما فى تفسيره، وذلك على عكس الرؤية الوضعية المتطرفة التى لا ترى فى الوجود سوى المكون المادى المسطح / المرئى. ومن ثم تضع الذات المستخلفة الإنسان لا فى موقع السيد الكونى، بل فى موقع الخليفة الأرضى، الذى يتشكل وجوده ويتحدد دوره بدرجة فعاليته، فالله سخر لنا الطبيعة بالإمكان، وبالعقل نحيل هذا الإمكان إلى فعل واجب وممارسة عملية. وبين الإمكان الواجب ثمة فجوة تبقى قائمة بين العقل الإنسانى وبين مفهوم "الحقيقة" على مستويين مختلفين:
أولهما نسبى يتعلق بقضايا المعرفة نفسها، حيث تزداد المعرفة الإنسانية بالكون رقيا، وتنمو قدرتها على تقديم إجابات للأسئلة المطروحة بالفعل، ولكنها فى الوقت نفسه تكشف عن أسئلة جديدة وقضايا متجددة تنبع من كشوف العلم ذاته، وهو يمارس دوره فى التاريخ، خاضعا لنماذج تتطور باستمرار ومنظورات تتقدم دوما، ولكن عجزها عن كشف جماع الحقائق الكونية يبقى قائما كذلك، لأن الإحاطة الشاملة والنهائية بالكون وظواهره المختلفة تبدو أمرا صعب المنال.
وأما ثانيهما فمطلق، يدور حول الأسئلة الوجودية المتعلقة بأصل الكون ومصير الإنسان، وهى الأسئلة الكبرى التى شغلت الفكر الفلسفي طوال التاريخ، من دون إجابة حاسمة على سؤال واحد. وهى الأسئلة نفسها تقريبا التى شغلت الأديان، ولكن دينا واحدا، طبيعيا أو سماويا، لم يستطع تقديم إجابات حاسمة سوى لمعتنقيه، فالمؤمنون فقط هم الذين الوجودية يعتقدون بحقيقة جازمة، ومن ثم يظل كل دين هو المصدر الأساسي للحقيقة لدى المؤمنين به. ولعل هذا هو ما يميز الدين عن العلم، ويمنح الدين قدرة هائلة على المكوث فى التاريخ قبل تطور العقل ونمو العلم وبعد ذلك أيضا، ولكن مع الإدراك العميق للفارق بين طبيعة الأسئلة التى يمكن طرحها هنا، وتلك التى يتوجب طرحها هناك، فهنا أسئلة النسبى وهناك أسئلة المطلق.
وأما على الصعيد المعرفى فتؤسس الذات المستخلفة تكاملا منهجيا بين العقل والإيمان، من خلال التمييز بين عالمين لكل منهما منهجه المعرفى الذى يلائمه، حيث يخضع عالم الشهادة وما يجرى فيه من تفصيلات تجريبية إلى هيمنة العقل والحواس. أما عالم الغيب، الكامن وراء المحسوس فإن معرفته من حيث مبدأ التسليم بوجوده تدخل فى إمكان المعرفة الإنسانية، إذ يستطيع العقل من خلال النظر في قوانين عالم الشهادة أن يسلم بعالم الغيب، ولكن تفاصيل هذا العالم ليس في مكنة العقل أن يعرفها، ومن ثم يصير الإنسان عالما وجاهلا معا. عالما بالشاهد والمحدود والقابل للإدراك بطريق العلم، وعبر الإعمال المنهجى للعقل، وجاهلا بالغيب واللانهائى، حيث تكمن الأسئلة الكبرى المتعلقة بالأصل والمصير. ومن جماع المنهجين معا تتولد رؤيتنا الشاملة للوجود. وبالطبع تتمايز فطرة الناس، كما تتمايز معتقداتهم فيختلفون فى معرفة الغيب وفى تصوره وفى الإيمان به، وتلك قضية ذاتية، تدفع إلى اختلاف الوعى الإنسانى بالوجود الكلى عبر السياقات الحضارية والتاريخية المختلفة. ولكن يفترض، فى المقابل، أن يتبلور وعى علمى متجانس حيث يتفق مجتمع العلماء أو أغلبه حول الإدراك الموضوعى للطبيعة، فلا خصوصية علمية ولا شخصانية هنا. بالطبع يمكن تصور وجود اختلاف ينبع مثلا من تحول المنظور القياسى للمعرفة من مرحلة تاريخية إلى أخرى. أو من تباين بين النظريات الكبرى السائدة فى الوقت نفسه بين فريقين فى مجتمع العلماء، أى أنه خلاف داخلى يظل محكوم بمنهج العلم ولا علاقة له بالدين. وهكذا يتبدى لنا أن المدعين بخصوصية معرفية للإسلام إنما يخلطون بين أمرين:
أولهما هو التأسيس الأنطولوجى للعلم، وهو ما يسهم فيه الإسلام فعلا، عندما يجعل العلم مكونا أساسيا فى رؤيته للوجود، ويدعو صراحة إلى السعى فى طلبه وتوظيفه فى خدمة رسالة الإستخلاف الإنسانى، تلك القائمة على الجمع بين قيم الدين ومتطلبات الدنيا، والمؤسسة على روح إيجابية، تسعى إلى التأثير فى حركة سير التاريخ على هذه الأرض، بتأسيس قيم العدالة والمساواة والحرية، القادرة على انتشاله من حال الظلم والعبث والفوضى السائدة فيما قبله. تلك الروح هى التى دفعت بعض فلاسفة الدين الكبار، كمرسيا إليادة، إلى اعتبار الإسلام محاولة لاستعادة مسار الشريعة اليهودية المنشغلة بالعالم الأرضى إلى الحد الذى دفع بعض فرقها إلى التنكر لمفهوم البعث، وربط المصير الإنسانى بالملكوت الأرضى وحده، بعد أن كانت المسيحية قد دفعت بالدين الإبراهيمي إلى حال من الإغتراب، بفعل انشغالها المرضى بالملكوت السماوى وحده، حتى لم يعد لديها الرغبة فى بذل أدنى جهد لتصويب حركة سير التاريخ المعوجة على الأرض. غير أن الإسلام فى الحقيقة يمثل تركيبا جدليا يتجاوز الروحانية المسيحية المغتربة، والحسية اليهودية المفرطة، نحو رؤية تكاملية للوجود، تؤكد على إيجابية الإنسان، وقدرته على تحسين الملكوت الأرضى، بل تجعل من تلك القدرة معيارا للنهوض بعهد الإستخلاف، ونيل الرضى الإلهى.
وثانيهما: هو التأسيس الإبستمولوجى للعلم، أى وضع القواعد المنهجية المنظمة له من داخله، باعتباره معرفة تحليلية لظواهر جزئية، طبيعية أو اجتماعية، وذلك من قبيل صوغ الفروض النظرية التى يتعين إثباتها أو نفيها، أو وضع المقدمات الضرورية التى تنطلق منها العمليات الاستدلالية وصولا إلى نتائجها المنطقية، وغير ذلك من قضايا علمية ومنهجية، وصفية أو تحليلية، ينأى عنها الإسلام لأن أسئلة المعرفة تقع فى قلب الإنشغالات المنوطة بالعقل الإنسانى وتطوره عبر التاريخ، ومن ثم فإن الحذر تجاهها يعد تأكيدا لمفهوم شمولية الإسلام وليس نحرا فيه. وفى هذا السياق يتبدى لنا أمران أساسيان:
الأمر الأول: أنه لا خصوصية إسلامية فى دراسة الظواهر الطبيعية، القائمة على الملاحظة والتجريب، تبرر وصف منهج ما بأنه إسلامي. فأمام الظاهرة الطبيعية أو أنبوبة الاختبار، داخل المعامل والمختبرات لا خصوصية لباحث مسلم قد يذهب بعد نهاية عمله ليصلى فى مسجد، قياسا إلى نظيره أو حتى زميله (البوذى) فى فريق العمل ذاته، والذى قد يذهب إلى معبد جوتاما أو لممارسة النيرفانا واليوجا، ناهيك عن اليهودى أو المسيحى. ومن ثم نرفض كل التأويلات الممكنة لمقولة (إسلامية المعرفة) والتى نراها جميعها باطلة: فثمة تأويل بأن الإسلام يحتكر المعرفة العلمية (الحقيقة) بالعالم الطبيعى وهو ادعاء لا يعدو نوعا من العنصرية المضادة. وثمة تأويل أكثر تواضعا بامتلاك الإسلام طريق مستقل أو منهج خاص فى معرفة هذا العالم يميزه عن أصحاب المعتقدات الأخرى ويبرر وصفه ب (الإسلامى). وهو كذلك ادعاء غير مقبول تُكذبه شمولية واتساق القوانين العلمية الناجمة عن ثبات واتساق الطبيعة وشمول السنن الإلهية فى الكون. أو من ادعاء ثالث وأخير بكفاية النص الإسلامى وحده (القرآن الكريم) لتقديم معرفة (علمية) بالعالم الطبيعى، وهو ادعاء لا يحتاج إلى جهد لتكذيبه بنص القرآن ذاته من ناحية، وبتاريخ العلم والعلماء المسلمين فى درس الطبيعة من جهة ثانية. وبناء على ذلك نرفض المقولات الرائجة من قبيل الإعجاز العلمى للقرآن" ونفضل القول ب "التعقل الكونى للقرآن"، أى قدرة القرآن الكريم على تعقل المبادىء الأساسية للبناء الكونى، والوجود الإنسانى، بطريق السلب والإجمال.
الإجمال بمعنى طرح القرآن لمبادىء عامة مجملة لا مجال للتفصيل فيها، تحوى "رؤية روحية للوجود" تكشف للمؤمن به عن دوره فى هذا العالم ومصيره فيما بعده، وإن أتى ذلك تأسيسا على قاعدة العقل ومن خلال دعوة الإنسان إلى التأمل فى أعمال الخالق، مصحوبة بإشارات عامة يمكن للملاحظة الإنسانية أن تدركها، سواء فى صورة قوانين كلية تحكم العالم الطبيعى أو سنن تاريخية تشى بالقيم الإيجابية للإجتماع الإنسانى كالعدل والمساواة والحرية والإخاء والتكافل وغيرها.
وأما السلب فيعنى ترفع القرآن عن تقديم نظريات علمية موجبة ربما عانت من أزمة مصداقية بفعل ارتقاء العلم، وخضوع نظرياته المختلفة للتكذيب والتخطئة المستمرين. والتكذيب أمر مقبول فى العلم، يعد ضرورة لتقدمه عبر القطائع المتوالية مع المناهج السائدة فى كل مرحلة تاريخية. بل إن القابلية للتكذيب، حسب كارل بوبر، تعد أهم الدلائل على علمية النظرية، لأن ما لا يمكن تكذيبه لا يمكن تصديقه، وما لا يمكن نفيه لا يمكن إثباته، فلا يكون علما بل ميتافيزيقا. أما فى الدين، فيمثل التكذيب، أمرا كارثيا يضع الوحى فى صدام مع العقل، على نحو ما نسب إلى العهد القديم من الكتاب المقدس من نظريات قاطعة حول خلق الكون، والإنسان، والطوفان، وضعت علماء كبار أمثال كبلر وجاليليو وبرونو فى مواجهة سلطان الكنيسة، وهو ما لم يحدث فى الإسلام، إذ لا يوجد في القرآن آية تشير إلي أن الأرض هي مركز الكون، أو أنها ثابتة لا تتحرك. بل توحى آياته جميعا بإدراك كامل للامحدودية الكون.. و"يخلق مالا تعلمون"، ولذا تبقى الرؤية الإسلامية للوجود ممتدة فوق الأفق العلمى كله، ومفتوحة على التاريخ بطوله، حاضنة، ومن دون تناقض، لكل الممكنات الآنية والمستقبلية.
والأمر الثانى: أن الخصوصية الإسلامية الممكنة، لا تنبع من بنية العلم الداخلية، بل من الرؤية الوجودية الكلية، التى تبدأ عملها من نقطة التحام العلم بمحيطه، وأشكال توظيفه فى سياقه، حيث كان النموذج المعرفى الإسلامى أحد المسالك التى أوصلت العقل إلى حدوده المنطقية، مقتربة به من أفق الروح النقدية التى بلغها كانط بعد ذلك فى كتابه "نقد العقل النظرى"، إذ لم يحرم العقل من دوره الموضوعي في المعرفة والكشف وتحقيق التقدم الإنسانى على الأرض، ولكنه حال دون ادعائه بالقداسة، والقدرة المطلقة على حسم كل إشكاليات الوجود. وهنا يمكن الإدعاء بأن الرؤية القرآنية للعالم تنضوى على عقلانية (كونية) تهذب العقلانية المادية (الوضعية المتطرفة)، وتدعو إلى الجمع بين المعرفة العلمية بقوانين الطبيعة وبين الإدراك التاريخى للسنن الكونية على نحو يصبغ المعرفة فى (المجتمع الإسلامى) لا (المعرفة الإسلامية) بالشمول والتوازن، ويربط بين الفعالية المستمدة من القانون العلمى، وبين الخيرية المستمدة من أخلاقية الوحى. فالمعرفة بالطبيعة لا تكفى لإسعاد البشر، ومزيد من الكشف العلمى قد يضر بالمجتمع ما لم تكن هناك ضوابط أخلاقية تنبع ليس فقط من إرادة طوعية قد تكون استثنائية، بل من سنن تاريخية تحقق نوعا من التوافق بين التقدم العلمى، والنضج الأخلاقى، يضمن التقدم المطرد للحركة التاريخية من دون ردات عنيفة إلى الخلف. ولكن حتى هذه الخصوصية يرد عليها قيد مهم، فأخلاقية المعرفة ليست حكرا على الإسلام كشريعة، بل هى ملك الإسلام كدين توحيدى، يتجذر فى الوحى اليهودى والمسيحى، طالما كان رائقا، بل وفى الثقافات الأخرى طالما كانت إنسانية ومتفتحة، على النحو الذى يلغى الخصوصية المطلقة أو الاستعلاء المبدئى على شركائنا فى الإنسانية.
أخلاق العقل الكونى وأخلاق الضمير الدينى
نؤمن بوجود أخلاقية إنسانية عابرة للأديان والثقافات، قد لا تنتظم فى قوانين ضرورية موحدة وتفصيلية على غرار قوانين العلم الطبيعي، ولكنها تبقى متجانسة، تعكس خبرة المجتمعات فى صيرورتها الدائمة، وحكمة التاريخ فى اضطراده الأبدى، ناهيك عن مفهوم الخير العام الكونى الذى يجسد سعى الإنسانية نحو بناء ضمير مشترك، قد يتجلى بألوان مختلفة فى ثقافات متباينة، تميل بعضها إلى تغليب المكون الدينى فى الأخلاق، بينما تميل الأخرى إلى تغليب المكون العقلى فيها، ومن ثم تكتسب جميعها خصوصية ما "نسبية" فى وسائل إدراك الخير وحصار الشر، ولكن تبقى ركائزه الكلية والمتجانسة، التى تنفى الخصوصية المطلقة فى تعريف ماهية الخير وكينونة الشر..
ومن ثم فإن الأخلاق الوضعية المؤسسة على العقل، على منوال أخلاق الواجب لدى العظيم كانط، ليست بالضرورة نقيضا للأخلاق السماوية المؤسسة على الإيمان، اللهم إلا إذا كان الدين محرفا، أو كان العقل مراوغا، فالمفترض أن يكون تكامل العقل مع الإيمان سبيلا إلى إدراك خلقي أعمق، بمثل ما كان توافق العقل مع الإيمان طريقا إلى إدراك معرفى أشمل. ولا يمنع ذلك تباين دور العقل بين هذين النمطين الخلقيين. ففى الأخلاق العقلية / الوضعية يكون العقل مؤسسا وحكما، أما فى الأخلاق الدينية / السماوية فلا يعدو دوره أن يكون كاشفا ومؤولا، فهو كاشف عن المعنى الخلقي فى النص، ومؤول له فى التاريخ.
وربما أكدت نظرية الحسن والقبيح عند المعتزلة على هذا المنحى التوفيقى بين العقل والإيمان فى صياغة الأخلاق الإسلامية، ومن ثم فإن أخلاق العقل العملى أو نظرية الواجب الكانطية ليست بالضرورة نقيضا للأخلاق الدينية، بل ربما كانت خطوة على الطريق الصحيح إليها لأنها، كالقواعد القانونية الجيدة والعادلة، تحوى من المبادئ المشتركة ما يصون حياة البشر جميعا، ويحقق سعادتهم كالأخلاق الدينية سواء بسواء، ولكن المزية الحاسمة للأخلاق السماوية على الأخلاق الوضعية تتمثل فى استنادها إلى مفهوم الضمير الذى يردع الإنسان عن الشر، عندما يسمو ويهيمن على روح المؤمن، فيصير نورا يرى به ربه، ويسلك على هديه ظاهرا وباطنا تحقيقا لمنهجه في حياته، بحثا ليس فقط عن الجزاء المُدَّخر له في الآخرة، بل وأيضا عن ذلك الشعور الداخلي بالرضا والسعادة في هذه الدنيا، والذى ينشأ عن إحساسه الجوانى العميق بأنه يرضى الله فيما يفعل، وأن الله يرضى عن جهاده الخير.
يؤكد العقلانيون الماديون أو النفعيون، من قبيل توماس هوبز ونيقولا مكيافيللى، أن أي شخص يطيع المعايير الأخلاقية العامة في وقت لا يطيعها فيه أحد، أو يفقد بعضا من ماله حبا فى الآخرين، ورعاية لهم، إنما هو شخص أحمق يتصرف ضد العقل، لأنه لم يستطيع استثمار أمواله، وتلك بالطبع أخلاق براجماتية. أما المؤمنون بالله، فى كل الشرائع السماوية فيرون فى رعاية الفقراء منتهى العقل، وقمة الذكاء، ليس فقط لأنها قربى إلى الله، تضمن حدبه على الإنسان فى الملكوت الثانى (الأخروى). بل لأنهم يشعرون أيضا بأن رعاية الفقراء والإنفاق عليهم إنما يزيد من ثرواتهم فى الدنيا نفسها، ولكن كيف؟. تحدث جون كالفن، ومارتن لوثر، وماكس فيبر من داخل المسيحية عن ذلك المؤمن الطهرانى، الزاهد فى الثراء ولكن النشيط فى الدنيا، لا حبا فى المال ولكن حبا فى الله، والذى يشعره النجاح فى الدنيا برضا الله ومحبته، فيكون نجاحه الدنيوى أحد علامات خلاصه الأخروى. أما المسلمون المحسنون فيشعرون أنهم كلما أنفقوا فى سبيل الله أغناهم الله، حتى إنهم لفرط إخلاصهم يسمون انفاقهم (تجارة مع الله)، واثقين أن ما ينفقونه فى سبيل الله، لأجل عباده، يعود إليهم سبعة أضعاف وسبعين ضعفا وإلى سبعمائة ضعف، كما يبشرهم القرآن الكريم.
يزعم نيتشه أن الأديان قد ابتدعها الضعفاء لاستدرار عطف الأقوياء، وذلك عبر إثارة مخاوفهم من عقاب قوة كبرى (إلهية)، وإثارة مطامعهم فى عون ورعاية تلك القوة نفسها. أما ماركس فيزعم العكس، أى أن الأقوياء هم الذين اخترعوا الأديان لسلب وعى الضعفاء، من خلال تبرير واقعهم السئ بالقضاء والقدر الإلهيين، والتعمية على أوضاعهم المأساوية فى الملكوت الدنيوى، بأحلام الخلاص الموعود فى الملكوت الأخروى، فأيهما أقرب إلى الصدق؟.
يبدو لنا تفسير نيتشه هو الأكثر إقناعاً. فماركس، لم ير سوى الحقبة الزمنية التى عاشها، أو قبلها بقليل، حيث الصراع الإيديولوجى المحتدم بين الرأسمالية والشيوعية، أو بين الرأسمالية والإقطاعية، والدين أداة معتبرة فى هذا الصراع. أما نيتشه فمد نظره إلى التاريخ بأسره، حيث مثل الدين وحده، وعبر عصور طويلة، الرافد الأساسي للتراحم الإنسانى كما لعب دور بوتقة والصهر الإجتماعى، وهو الذى منح لكثيرين من البسطاء والضعفاء شعورا بالثقة فى أنفسهم، وفى إمكانية أن يكونوا مساوين للبشر الآخرين المحيطين بهم، لأنه أمام الله وحده يتساوى الفقراء مع الأغنياء، ويتماثل الأصحاء والأقوياء مع المرضى والضعفاء، ويتقارب النجوم والمشاهير مع المغمورين والبسطاء. يحدث ذلك فى المساجد والكنائس والمعابد.. نراه فى الصلاة والحج والصوم، إنها اشتراكية التوحيد، حيث الإيمان بالله والتمركز حوله هو الذى يفسر لنا: لماذا نصادف كثرة من المعوقين والفقراء والمرضى حول المساجد والكنائس والمعابد؟. ولماذا كانت السيدة زينب هى أم العواجز وحبيبة البسطاء، وكيف صار مسجدها فى قلب القاهرة ملتقى هؤلاء وأولئك. ولماذا كانت موائد الرحمن فى شهر رمضان؟.
باختصار لأن بيوت الله وحدها هى التي تفتح أبوابها لأولئك الذين استبعدهم الأثرياء والأقوياء والعلماء والمشاهير من موائد الاحتفالات الكبرى، حيث يدعى الشخص لماله وجاهه أو لحسبه ونسبه أو لموهبته وعلمه، فهؤلاء فقط توجه إليهم بطاقات الدعوة فى المناسبات الكبرى، ويسمح لبعضهم بالمرور حتى من دون تلك البطاقات لأن حراس البوابات يعرفون أشكالهم من الصحف والشاشات. أما الآخرون فلا مكان لهم، ولا دعوات توجه إليهم، فإذا ما جن جنون أحدهم وحاول الحضور كان نصيبه من الشعور بالألم الناجم عن المنع وربما الضرب على قدر نصيبه من الجنون.
وربما كانت الميزة الحاسمة لبيوت الله أنها لا تفتح أبوابها فقط لأديم الأرض، وتغلقها أمام علية القوم، كما تفعل بعض منتديات الفقراء، بل تفتحها أمام الجميع، حيث يتمكن الفقير والمريض والضعيف من الوقوف جنباً إلى جنب، بل كتفا بكتف، وقدم بقدم، مع نبيل أو وزير أو مدير، بل أن إمام المصلين قد يكون فقيرا، والصف الأول خلفه من البسطاء الذين أسرعوا يوم الجمعة أو السبت أو الأحد إلى ربهم يستجيرون.. إنها الأخوة الإنسانية فى أكثر أشكالها نصاعة وأعمق تجلياتها حضورا، وتراحما وتضامنا بين المؤمنين، بدءا من الزكاة إلى الصدقة مرورا بكل أعمال الخير. وربما اعترض على ذلك من يؤكد على أن بعض أعمال الخير قد تختلط بالرياء، حيث تخدم مصالح محددة برسم صور معينة لأصحابها، وهو اعتراض صحيح لأن هناك من يقصدون الظاهر، وأعمال هؤلاء كالزبد الذى يذهب جفاء، ولكن هناك أيضا، وربما الغالبية، من يقصدون الباطن، فتبقى أعمالهم أبدا لأنها تبغى وجه الله ونفع الناس. والمؤكد هنا أن وجود من يزيفون الخير لا ينفى وجود الخير نفسه، كما أن زيف المتلبسين بصورة الأخيار لا ينفى وجود الأخيار أنفسهم.
وهكذا تمتلك الأخلاق الدينية مثاليتها الذاتية، ومعقوليتها الخاصة بها، ودوافعها السامية، فليس الإنفاق سذاجة، ولا الصدقة غباوة، ولا العطاء باسم الله لعباد الله إهدارا لجهد الذات، بل جميعها تمثل طموح الإنسان إلى مقاومة الشر الكامن فى نفسه، وفى العالم من حوله، ذلك الشر الأزلى الذى يحاول تعويق مسيرته إلى الترقى والعمران، وهى أنبل مهمة يمكن له أن يضطلع بها لأنها الأكثر تعبيرا عن رسالته الكبرى كخليفة لله على الأرض.
وربما يحتج آخرون هنا بما تقدمه الخبرة العملية أحيانا من أمثلة علي أخلاقية أناس لا يكترثون بتعاليم الدين أو لا يؤمنون بالله ومع ذلك يتمتعون بإخلاص شديد واستعداد كبير للنضال من أجل الآخرين. وفى المقابل هناك أناس يظهرون تمسكا شكليا بالدين، ومع ذلك تجد سلوكهم مفعم بكل ما يتناقض مع الضمير الحى. بمعنى أن الضمير الأخلاقي قد يوجد أحيانا من دون الإيمان الديني، كما أن الإعتقاد الديني قد يوجد أحيانا خاليا من الضمير الأخلاقي. هذا الانفصام يمكن تفسيره بحقيقة أن الإنسان الأخلاقى، من غير المؤمنين، إنما يعتقد فى قيم ومثل عليا تنبع من الفطرة الإنسانية الذكية، النازعة بطبيعتها إلى الخير الكونى. وأن تلك المثل، التى لا ترتبط ظاهريا بأى دين، ربما ترجع إلى أصل دينى ولو كان قديما، انتقل من الماضى إلى الحاضر، ومن المنقول إلى المعقول عبر التربية والتثقيف والتواتر التاريخى. فإذا تعلم طفل ما أن يحترم كبار السن، وأن يحافظ علي كلمته، وأن يحب الآخرين ويساعدهم، وأن يقول الصدق ويكره الكذب والنفاق، وأن يكون إنساناً بسيطاً أبياً.. فستكون هذه هي صفاته الشخصية، بصرف النظر عن معتقداته الدينية الاسمية.
والبادى أن الملحدين المحدثين لم ينشأوا علي جهل حقيقى بالدين وإنما في عداء له، وأن هذا العداء لم يكن فى الأغلب للقيم المبثوثة فيه، ولكن للسلطات الروحية التى حاولت امتلاكه وتوظيفه، والكهنوت الذى سعى إلى الهيمنة باسمه أيا كان شكله أو رسمه. ولذا فإن أرباب العلمانية الوجودية والتنوير المادى، الذين رفضوا المسيح كوجود وشريعة قام الكهنوت بسرقتها، لم يرفضوا مبادئه في الحب والإخاء والمساواة.. لقد رفضوها عندما وصلتهم باسم الله، ولكنهم هللوا لها عندما جاءتهم باسم التنوير، وفى ركاب الثورة الفرنسية. ومن ثم يتأكد لنا أن القيم الجوهرية فى جميع الأديان والثقافات، تبقى عصية على الفناء، وإن ارتدت ثيابا مختلفة أو حملت أسماء جديدة، وأنها تكاد تكمن فى الفطرة الإنسانية، وهكذا يصبح أكثر الأبواب اتساعا على عالم الفضيلة أن يكون المرء إنسانا حقا، فإن لم يستطع صار وغدا هائجا أيا كان دينه أو معتقده.
عن المرجعية الأخلاقية للدولة المدنية
ثمة تناقضات عديدة بين الدولة المدنية والدولة الدينية لا يذكرها أرباب العقل السلفى، الذين يركزون جهدهم بالذات على التناقض الأخلاقى، معتبرين الدولة المدنية بمثابة صندوق الرذائل والشرور كلها، فيما الدولة الدينية (دولة الشريعة) هى حاملة الفضائل والخيرات كلها. هذا الفهم يتأسس على مقدمتين أساسيتين تظلان بحاجة إلى نقاش هادئ: أولاهما أن الدولة المدنية ذات أخلاق مادية، تتعارض بالضرورة مع الفضائل الدينية والقيم الروحية. وثانيتهما أن كل دولة مدنية هى صورة طبق الأصل من الأخرى، فدولة كمصر، غالبية مواطنيها مسلمون لا تختلف عن دولة كألمانيا، غالبية مواطنيها مسيحيون وبها حزب كبير (الديمقراطي المسيحي) لا يُكفِّر الاشتراكيين، مثلا، بل يحترم نظام الحكم العلمانى للدولة..
المؤكد، فى هذا السياق، أن الدولة المدنية لا تعنى أكثر من كونها جهاز امحترفا وظيفته إدارة المجال العام السياسي، وهو جهاز محايد بالضرورة لا يحمل قيما بذاتها إيجابية أو سلبية، ولا يقف مع دين بذاته ضد دين آخر، خصوصا ومعظم الدول الوطنية المعاصرة تنضوى على رعايا لأديان مختلفة. بل إن جهاز الدولة المدنية (المحايد) لا يرعى قيما أخلاقية من الأصل وإنما يحمى قواعد قانونية تم التشريع لها باستلهام المبادئ الدستورية، فالشعب من خلال الدستور هو مصدر السيادة الأعلى، حاضن السلطة ومالك الشرعية فى نظام الحكم القائم، ومن ثم يصوغ تشريعاته وقوانينه على قاعدة المرجعية القيمية السائدة لديه، والتى تفرض نفسها على الدستور، فلا يستطيع المجلس التشريعى الإفلات منها، طالما كان منتخبا ديمقراطيا. العامل الحاسم فى تمييز الدولة المدنية هنا عن نقيضتها الدينية، أن المرجعية القيمية السائدة، وفى قلبها القيم الدينية، إنما تؤكد حضورها من خلال النخبة التمثيلية المنتخبة مباشرة، دونما حاجة إلى هيئة دينية خاصة، تدعى النطق باسمها، لأن تلك الهيئة، بغض النظر عن أشكالها، سوف تضعنا فى النهاية، أمام كهانة سياسية من طراز أوروبى قروسطوى، أو ولاية فقيه شيعية، أو حتى هيئة سنية لأهل الحل والعقد، يتوارى معها جوهر الدولة المدنية، والنظام السياسي العلمانى لصالح الدولة الدينية.
والمؤكد كذلك أن كل دولة ستختلف عن الأخرى في طبيعة دساتيرها وقوانينها، نتيجة للإختلاف الجوهرى فى المرجعية القيمية للمجتمع الذى تمثله وتدبر مصائره، رغم التشابه الظاهرى فى طريقة عمل هذه الدول جميعا، حيث تتماثل هياكل السلطات الثلاث الأساسية، وتتقارب مسميات الأجهزة الرقابية، وغير ذلك من أجهزة عمل الدولة. ففى دولة كمصر حيث تسود مرجعية قيمية تجمع بين الأخلاق الإسلامية، وبين التقاليد الحديثة، لابد وأن تختلف روح القوانين عن بلد كألمانيا حيث تسود مرجعية قيمية قوامها الأخلاق المسيحية، والتقاليد العصرية. ولكن ما يعكس هذا الاختلاف هو الضمير العام لجماعة المشرعين، الممثلين لضمير الجماعة الوطنية، المنتخبين هنا فى مصر بنفس الطريقة المنتخبين بها فى ألمانيا تقريبا.
وهنا ربما يكون هناك قدر من الاختلاف بين درجة الالتزام بالقيم السماوية فى القوانين بين بلدين كمصر وألمانيا حسب درجة التدين المختلفة بين الشعبين، وحسب مسار التطور الثقافى والعقلى بين الأمتين، ولكن المهم أن هذه القوانين ستظل تعبيرا عن إرادة الجماهير المنضوية فى دولة مدنية، وليس تعبيرا عن إرادة قلة من رجال دين يطرحون أنفسهم كمتحدثين باسم الشريعة ووكلاء عن الله، يتحكمون بمصالح الناس العملية ويخضعونها لرؤاهم الإيديولوجية، كما هو الأمر عادة فى الدولة الدينية، حيث يكون مصدر الشرعية هو الشريعة وليس الأمة، والنيابة فيها عن الله لا عن الشعب، والحق فى الحكم مقدسا لا سبيل إلى مراجعته، ما يفتح أبواب التاريخ على جهنم أرضية قوامها الاستبداد والقهر، وذلك باسم جنة سماوية يدعى هؤلاء امتلاك مفاتيح أبوابها.
يخشي الإسلاميون فى مصر من الدولة المدنية باعتبارها الدولة القائمة قبل 25 يناير، التى تعرضوا فيها لقمع وحصار أعجزاهم عن الحركة. ولكن ما يجهلونه أن هذا القمع لا يرجع إلى مدنية الدولة آنذاك، بل إلى استبدادها. فالدولة المدنية، كما نظام الحكم العلمانى، ليست بالضرورة فضاء للحرية، بل تكون أحيانا مستبدة، فالعلمانية علة ضرورية للديمقراطية، ولكنها علة غير كافية. ولأن مصر كانت مدنية ومستبدة فى آن، فقد عانى أرباب التيار الإسلامى، كغيرهم من أنصار التيار الليبرالى، من استبدادها. ولكنهم، فى المقابل، استفادوا من تمدينها. لقد مورس ضدهم بالفعل قمع (سياسي) من قبل دولة (مستبدة) سعت إلى احتكار (السلطة)، تكيفوا معه بمهادنة تلك الدولة وأجهزتها الأمنية، بتبريرات شتى واجتهادات عدة، الأمر الذى أعاق مشاركتهم فى الحياة السياسية، مثلما أعاق غيرهم، ولكن من دون تعرضهم لاضطهاد دينى، كان ممكنا، حال ممارسته، من قبل دولة إيديولوجية (طائفية أو مذهبية)، أن يؤدى إلى اجتثاثهم من الوجود، على ذلك النحو الذى أدى إلى التمثيل بجثث المواطنين المصريين الخمس، من ذوى المذهب الشيعى فى إحدى قري محافظة الجيزة إبان حكم الإخوان المسلمين، عندما أضيف الإضطهاد المذهبى إلى القمع السياسي.
فى الدولة المدنية يبقى الانقسام قائما بين المواطنين، ولكنه ليس ذلك الانقسام العميق بين كفار ومؤمنين، بل ذلك الانقسام الطبيعى بين (ليبراليين ومحافظين)، حيث ينتقل خط التناقض من منطقة الإيمان والكفر بدين معين، إلى منطقة الالتزام وعدم الالتزام بأخلاقية معينة، فيكون لدينا أناس ملتزمون حرفيا بهذه الأخلاق، وآخرون يميلون إلى تأويلها عقليا، يسمون ليبراليين. الأولون قد يمتنعون عن الخمر، مثلا، لأسباب دينية والآخرون قد يمتنعون عنها لأسباب صحية أو مادية. وحتى لو تعاطاها البعض منهم فليس لأنه ملحد بالضرورة، بل ربما كان مسلما حقيقيا يؤدى العبادات، ويرعى الفضائل الجوهرية للدين ولكنه يبدو ضعيفا فى مواجهة هذا الداء بالذات، كما يعجز كثيرون من مدعى التدين أمام داء كالكذب أو النفاق، ومن ثم يظل مسلما ليبراليا، ولا يستحيل كافرا.
والسؤال الذى غالبا ما يطرحه عقل الإسلام السياسي: ولماذا لا تسعى الدولة إلى رعاية الدين وفرض الأخلاق المحافظة بقوة القانون، بحيث يتم تجريم الخمر، مثلا، فيُمنع تصنيعها وتداولها؟. والإجابة ببساطة أن هذا المسعى يبقى صعبا من الناحية العملية فضلا عن كونه خاطئا من الناحية المبدئية. يبقى صعبا لأن سلعة ما تم اختراعها وعرفها الناس لا يمكن أن تختفى بقانون، حتى المخدرات التى تختفى ظاهريا، لتظهر فى سوق سوداء باطنية، ترتفع فيه الأسعار ويتاجر فيه الأشقياء. ويبقى خاطئا لأنه لا ولن يصنع أناسا أخلاقيين حقا بل منافقين حتما، يشتاقون باطنا للخطأ الذى لا يردعهم عنه سوى قوة السلطة لا يقظة الضمير. وهنا يكمن الفارق الأساسي بين دور الدولة فى رعاية القانون، ودور الدين فى رعاية الضمير، فالإنسان يجب أن يعرف ربه بحرية تامة، يطيعه أو يعصاه، يتوب إليه أو يستمرئ العصيان، ولن يكون مؤمنا حقا إلا إذا كان حرا تماما، لأن الإيمان اختيار ضمير لا دخل فيه للغير، وهذا سر حلاوته ومصدر روعته، أما الخروج على قاعدة الضمير، خضوع لقوة السلطة فلا يعنى سوى استعادة تاريخية لمحاكم التفتيش التى أهدرت مئات آلاف الأرواح، فى أتعس تجربة عرفها التاريخ المسيحى خصوصا، والإنساني عموما، فالقمع لا يبنى إنسانا فاضلا، ولا مجتمعا حرا، بل يؤدى لتدمير الحرية الإنسانية، من دون الحفاظ على الإيمان الروحى، ما يجعلنا أمام مجتمع خليط من المنافقين والمستبدين معا، ومن ثم كانت الدولة المدنية هى المدخل الصحيح للإيمان والحرية فى آن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.