البابا تواضروس الثانى يصلى الجمعة العظيمة فى الكاتدرائية بالعباسية..صور    500 جنيه بالمدن و125 جنيها بالقرى، اللائحة التنفيذية لقانون التصالح في مخالفات البناء    وزير الخارجية الأمريكي: لم ولن نؤيد أي هجوم إسرائيلي كبير على رفح    كهربا يهدد بالرحيل عن الأهلي بسبب موديست، وكولر كلمة السر    توخيل يلمح لإمكانية استمراره مع بايرن ميونخ    انتشال جثتي شخصين غرقا في نهر النيل بالمنيا    فتح البوابة الإلكترونية الخاصة بالتعليم الفني للطلبة المتخلفين عن تسجيل بياناتهم    غلطت إني صورت الحلقة، تعليق صادم من حورية فرغلي على أزمتها مع بسمة وهبة    أبرزها فريد خميس.. الأوقاف تفتتح 19 مسجدا في الجمعة الأخيرة من شوال    الذهب يرتفع 15 جنيها في نهاية تعاملات اليوم الجمعة    محافظ المنوفية: مستمرون في دعم المشروعات المستهدفة بالخطة الاستثمارية    حركة تداول السفن والحاويات والبضائع العامة في ميناء دمياط    عضو «ابدأ»: المبادرة ساهمت باستثمارات 28% من إجمالي الصناعات خلال آخر 3 سنوات    الاستعدادات النهائية لتشغيل محطة جامعة الدول بالخط الثالث للمترو    المنتدى الاقتصادي العالمي يُروج عبر منصاته الرقمية لبرنامج «نُوَفّي» وجهود مصر في التحول للطاقة المتجددة    نعم سيادة الرئيس    السفارة الروسية بالقاهرة تتهم بايدن بالتحريض على إنهاء حياة الفلسطينيين في غزة    المحكمة الجنائية الدولية تفجر مفاجأة: موظفونا يتعرضون للتهديد بسبب إسرائيل    حاكم فيينا: النمسا تتبع سياسة أوروبية نشطة    المقاومة الفلسطينية تقصف تجمعا لجنود الاحتلال بمحور نتساريم    أمين اتحاد القبائل العربية: نهدف لتوحيد الصف ودعم مؤسسات الدولة    نشرة الحصاد الأسبوعي لرصد أنشطة التنمية المحلية.. إنفوجراف    تونس تدخل تعديلات على قوانين مكافحة المنشطات بعد صدور عقوبات ضدها    الغندور: حد يلعب في الزمالك ويندم إنه ما لعبش للأهلي؟    بواسطة إبراهيم سعيد.. أفشة يكشف لأول مرة تفاصيل أزمته مع كولر    تشافي: نريد الانتقام.. واللعب ل جيرونا أسهل من برشلونة    "لم يحدث من قبل".. باير ليفركوزن قريبا من تحقيق إنجاز تاريخي    الشكاوى الحكومية: التعامُل مع 2679 شكوى تضرر من وزن الخبز وارتفاع الأسعار    وزارة الصحة توضح خطة التأمين الطبي لاحتفالات المصريين بعيد القيامة وشم النسيم    كشف ملابسات واقعة مقتل أحد الأشخاص خلال مشاجرة بالقاهرة.. وضبط مرتكبيها    إعدام 158 كيلو من الأسماك والأغذية الفاسدة في الدقهلية    خلعوها الفستان ولبسوها الكفن.. تشييع جنازة العروس ضحية حادث الزفاف بكفر الشيخ - صور    برواتب تصل ل7 آلاف جنيه.. «العمل» تُعلن توافر 3408 فرص وظائف خالية ب16 محافظة    تعرف على توصيات مؤتمر مجمع اللغة العربية في دورته ال90    لأول مرة.. فريدة سيف النصر تغني على الهواء    فيلم "فاصل من اللحظات اللذيذة" يتراجع ويحتل المركز الثالث    في اليوم العالمي وعيد الصحافة.."الصحفيين العرب" يطالب بتحرير الصحافة والإعلام من البيروقراطية    عمر الشناوي ل"مصراوي": "الوصفة السحرية" مسلي وقصتي تتناول مشاكل أول سنة جواز    مواعيد وقنوات عرض فيلم الحب بتفاصيله لأول مرة على الشاشة الصغيرة    دعاء يوم الجمعة المستجاب مكتوب.. ميزها عن باقي أيام الأسبوع    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة.. فيديو    خطيب المسجد الحرام: العبادة لا تسقط عن أحد من العبيد في دار التكليف مهما بلغت منزلته    مديرية أمن بورسعيد تنظم حملة للتبرع بالدم بالتنسيق مع قطاع الخدمات الطبية    بعد واقعة حسام موافي.. بسمة وهبة: "كنت بجري ورا الشيخ بتاعي وابوس طرف جلابيته"    خطبة الجمعة اليوم.. الدكتور محمد إبراهيم حامد يؤكد: الأنبياء والصالحين تخلقوا بالأمانة لعظم شرفها ومكانتها.. وهذه مظاهرها في المجتمع المسلم    بيان عاجل من المصدرين الأتراك بشأن الخسارة الناجمة عن تعليق التجارة مع إسرائيل    قوات أمريكية وروسية في قاعدة عسكرية بالنيجر .. ماذا يحدث ؟    ضبط 2000 لتر سولار قبل بيعها بالسوق السوداء في الغربية    التعليم العالي: مشروع الجينوم يهدف إلى رسم خريطة جينية مرجعية للشعب المصري    محافظ المنوفية: 47 مليون جنيه جملة الاستثمارات بمركز بركة السبع    إصابة 6 سيدات في حادث انقلاب "تروسيكل" بالطريق الزراعي ب بني سويف    وزير الصحة: تقديم 10.6 آلاف جلسة دعم نفسي ل927 مصابا فلسطينيا منذ بداية أحداث غزة    نقيب المهندسين: الاحتلال الإسرائيلي يستهدف طمس الهوية والذاكرة الفلسطينية في    «الإفتاء» تحذر من التحدث في أمور الطب بغير علم: إفساد في الأرض    إصابة 6 أشخاص في مشاجرة بسوهاج    الفلسطينيون في الضفة الغربية يتعرضون لحملة مداهمات شرسة وهجوم المستوطنين    رئيس اتحاد الكرة: عامر حسين «معذور»    الغدة الدرقية بين النشاط والخمول، ندوة تثقيفية في مكتبة مصر الجديدة غدا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإيمان والحرية فى مواجهة الاستبداد باسم الدين
نشر في الأهرام اليومي يوم 16 - 09 - 2015

تتوزع الخبرة الدينية على مستويين متمايزين: أولهما يتمثل فى الاتصال العاطفى مع المبدأ الإلهي/ القدسي، ما يضع الكائن البشرى أمام تجلى الحقيقة الإلهية، ويكشف عن قدرة الروح الإنسانى على الإصغاء لهمس تلك الحقيقة، بحسب القوة الروحية للفرد التى تصنعها ميوله ويلهمها تكوينه النفسى واستعداده الجواني، فيما لا سبيل إلى تعلمه من أحد، أو نقله عن أحد، أو إلى أحد..
فالإيمان هنا نتاج العوالم الداخلية للإنسان، بقدر ما أنه وسيلة مثلى لإنماء هذه العوالم وترقيتها. أما ثانيهما فيتمثل فى تحويل هذه الخبرة إلى معرفة وممارسة، تدور حول نصوص مكتوبة، وتقاليد موروثة، تقصد إلى التعليم والتنظيم، وتخضع لأدوات الحفظ وآليات التدوين، ما يجعل منها نسقا مفتوحا يمكن الدخول فيه والخروج منه، نقله عن سابقين إلى لاحقين، وطقسا يمكن الاشتراك فيه مع الآخرين. ومن ثم يمكن الحديث عن التدهور فى مسيرة الدين، وبالأحرى فى أشكال التدين، والتى تتوقف على طرق تدوين النصوص، وتباين تأويلاتها عبر مسارات احتكاكها بالواقع التاريخي، وتفاعلها مع العقل الإنساني.
على المستوى الأول يصير الدين أداة تحرير للإنسان من قبضة الطبيعة والمجتمع، إذ يستجيب لحاجته العميقة إلى معنى لوجوده على الأرض من خلال الإجابة على السؤالين الخالدين: من أين أتينا؟ وإلى أين نصير؟ وهو المعنى الذى يكفل له الصمود فى مواجهة ما يعانيه من تحديات تعصف بوجوده كالموت، أو ضغوط تشوه حضوره كالألم والفشل والإغتراب والظلم.. الخ. ذلك أن مجرد غياب الإيمان بفكرة البعث، وفى الوقت ذاته الاعتقاد بحتمية الموت، إنما يؤديان إلى الشعور بالخواء والعدمية، فإذا لم يكن وراء هذه الحياة حياة أخري، فلابد أن يزداد الحرص على البقاء فيها لأطول فترة ممكنة، وعلى الاستمتاع بها إلى آخر مدى متاح، حتى يصبح هذا الاستمتاع، ولو بالرذائل، هو المثل الأعلى للحياة. ولأن الكثيرين يعجزون عن الاستمتاع بهذا العالم لضيق ذات اليد، أو لاعتلال صحتهم ومفاجآت الأقدار لهم، فلابد وأن مشاعر الخواء والقلق سوف تحيط بهم، بفعل الافتقار إلى معنى كلى لحياتهم، التى تصير آنذاك مجموعة تفاصيل متتالية ومتناثرة ومضجرة من دون غاية واضحة.
أما على المستوى الثانى فيمكن للدين أن يصير أداة قمع للإنسان، إذا ما تدهورت أشكال التدين إلى حد الخلط بين جوهر الدين الثابت وبين الموروثات القديمة والتقاليد البالية، فعندها يتصالح المتدينون به مع كل أشكال الخرافة واللاعقلانية المنتمية إلى عالم السحر والبداوة السابق عليه، أو يخضعون لكافة أشكال السيطرة والتحكم النابعة من الانتماءات القبلية والعرقية السابقة على انبثاق قيم العدالة والمساواة الكامنة فيه، أو يتورطون فى أشكال من التطرف والعنف تفتك بروح الإنسان وروحانية الإيمان على ذلك النحو الذى نعيشه اليوم، حتى ينتهى الأمر بارتباط وثيق بين الدين وبين الخرافة والإستبداد والإرهاب، فلا يبقى أمام المجتمعات من مفر سوى الثورة عليه، وهكذا جرت ولا تزال تجرى وقائع التاريخ قبلنا وحولنا فى صولات وجولات بين الإيمان والحرية من جانب، وبين االكهانة والإستبداد من جانب آخر، فى صراع جدلى نسعى إلى تعقله فى تلك السطور..

الإيمان الروحى
والحرية الوجودية
تجسد الفلسفة الوجودية أعتى دفاع عن الذات الفردية وحقها فى الحضور والتأثير والفعالية، حيث الحرية تسبق ماهية الإنسان وتجعلها ممكنة، ومن المستحيل تمييز الحرية كنشاط إرادي، عن الإنسان ككائن واقعي، وهنا تبرز أهمية التمييز الضرورى لدى هيدجر بين مفهومين للوجود: أولهما مفهوم (الدازين) حيث الإنسان مجرد (موجود – هناك)، ألقى به فى العالم ليعانى الاغتراب فى الواقع والقلق إزاء المصير. وثانيهما مفهوم (الوجود لأجل ذاته) حيث تمكن الإنسان من امتلاك وجوده الذاتي، بتوقفه عن الإنصات إلى الناس وثرثرتهم، ونزوعه إلى إنتاج وعيه الخاص، ضمن صيرورة دائمة للتعلم يسميها هيدجر ب (التصميم).
هذا التصميم هو الحرية التى تخلص الإنسان "الفرد" من سطوة الناس "الجماعة"، ولكنها بالقطع لا تخلصه من سطوة الطبيعة حيث تكمن هواجس الموت والعدم. أما التحرر من مشاعر العدم واستعادة الوجود من قبضة الموت، فلا يمكن أن يحدث بحسب الفيلسوفين: قبل الوجودى لايبنتز، والوجودى المؤمن كيركيجورد، إلا بعناية فائقة تأتى من خارج الذات الإنسانية، وهو ما لا نظنه أمرا مختلفا عن تلك الروحانية الواصلة، عبر فيض إشعاعي، بين المؤمن والحقيقة الإلهية. غير أن تلك الروحانية غالبا ما يستقبلها المؤمن بطريقتين مائزتين:
أولاهما (الوجود فى العالم)، حيث يكون المؤمن مجرد ذرة فى التيار الدافق لحركة العالم، على منوال (البوذى التقليدي، والمسيحى القروسطوي، والمسلم الدرويش) وجميعهم نموذج للإنسان (الزاهد فى العالم)، ولكنه الزهد السلبى المغترب، الذى ينسبه الفيلسوف الفرنسى برجسون، إلى ما يسميه ب "الدين الساكن"، وإن كنا نتحفظ هنا على مقولة الدين الساكن بإطلاق، فى مقابل الدين الدينامى بإطلاق. فثمة أديان كانت تميل أصلا إلى السكون (كالمسيحية والبوذية) ولكنها عرفت مراحل تاريخية اتسمت بالدينامية. وثمة، فى المقابل، أديان ذى طابع دينامى بالأساس (كالإسلام) ولكنها عرفت ظواهر زهدية ومراحل مغتربة اقتربت بها أحيانا من حالة السكون.
وثانيتهما هو (الوجود داخل العالم)، حيث المؤمن هو ذلك الإنسان الحر، الذى يحمل على عاتقه مسئولية ترقية العالم حوله، باعتباره المسئول أخلاقيا عنه. هذا المؤمن لم يتحول إلى مجرد ذرة فى خضم العالم، يفتقد للحضور الفعال فى التاريخ، ولكنه لم يندرج فى ذلك الحضور الصاخب الباحث عن مصالح مادية صرفة، والمتوسل بأدوات العنف ومشاعر القسوة، بل اتخذ موقعا وجوديا مبدعا يجعل منه فاعلا أخلاقيا فى العالم، مؤثرا فى حركته ولكنه غير متورط فى شروره، حيث (الزهد المادى داخل العالم الواقعي)، يمنح للإنسان/ المؤمن قدرة الفعل وممكنات التحرر.
وهكذا تمنح الخبرة الدينية للنزعة الفردية / الحرية الإنسانية، مسوغات جديدة من أصل إيماني، فإذا كانت "الحرية الفردية" بمثابة ضمانة اجتماعية للشخصية الإنسانية، تحول دون ضياعها فى ذوات الآخرين، وذلك عبر تحريرها من ضغوط الجماعات المحيطة بها، وتكتلات المصالح المنتشرة حولها، فإن الحضور الإلهى فى العالم من خلال مفهوم العناية الربانية، القادر على تمتين ملكة الاستغناء لدى المؤمن بربه عما سواه، يمثل رافعة أساسية لمستوى أعلى من "الحرية الوجودية"، إذ يخلق لدى المؤمن إدراك باطنى لخيرية الحياة، واستثنائية الشر، كمنشط للإرادة فى مواجهة مشاعر القلق وأحاسيس الألم وهواجس العدم.
هذه النزعة الفردية كانت قد تبدت جنينا فى دعوة السيد المسيح إلى إعادة وصل الناس جميعا بالوحى الإلهي، وإلى فتح أبواب الملكوت أمامهم كى يدخلوه بالإيمان لا بالعرق، بالروح لا بالجسد، وذلك فى مواجهة التصور اليهودي/ القبلى للعلاقة بين الله والإنسان، فالملكوت الإلهى يسع الجميع، وعناية الله تُظل كل البشر، ورحمته لا تقتصر على أحد ولا تخذل أحدا. غير أن المسيح قد غاب من دون أن تنتصر المسيحية، فما انتصر بعده كان هو الإيمان البولسى (نسبة إلى الرسول بولس)، ومعه انتصرت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وما تفرع عنها من كنائس، فانهزم الإنسان شر هزيمة أمام سيف الكهانة، التى اتسعت تجارتها حتى بلغت صكوك الغفران، ومن ثم كان الإصلاح الديني، فبدأ المسيحى الأوروبى مسيرة تحرره من ربقة البطريركية القامعة، عبر سيرورة ممتدة تغذت على المذهب الإنساني، وفلسفة التنوير، قبل أن تبلغ ذروة ازدهارها فى ظل الوجودية المؤمنة التى تخللت أعمال لاهوتين كبار داخل المذاهب المسيحية الكبرى فجعلت منهم رجال فلسفة لاهوتيين أو رجال لاهوت متفلسفين، من قبيل الفرنسى جاك ماريتان فى الكاثوليكية، والروسى نيقولا برديائيف فى الأرثوذكسية، أما فى البروتستانتية فكان هناك الألمانى باول تيليش، الذى أجاد صوغ العلاقة بين الإيمان الروحى والحرية الوجودية، عندما اعتبر حلول الله فى المسيح ضرورة لتأسيس علاقة وجودية فعالة بين الإنسان والله، قادرة على أن تمد الإنسان باليقين والأمل فى الخلاص، معتبرا أن التلاقى بين الله والإنسان هو رسالة كل الأديان، وهو الطريق إلى تحقيق الفرح الأبدى فى مملكة الرب، والذى لا يمكن الوصول إليه بالعيش على السطح بل بالنفاذ من السطح، نحو الأشياء العميقة فى أنفسنا وفى عالمنا وفى الله.
أما فى الإسلام فثمة نزعة فردية عميقة جدا نلتمسها فى الرؤية القرآنية للوجود، التى تعكس تلك الحقيقة البسيطة جدا: لم يكن الله أبدا سوى واحد أحد، لا حاجة له سوى ضمائرنا، ولا مطلب لديه إلا صلاحنا، ولا شروط لعنايته لنا إلا قربنا منه، ومناجاتنا له، فهو الأقرب إلينا من حبل الوريد.. ندعوه فيستجب لنا، حيث الخلاص هو جزاء الإخلاص، يمنحه الله لنا جزاء وفاقا لإيماننا الداخلي، وعملنا النقي، وسعينا الدءوب إليه.
وعلى هذا تتأسس حالة التوازن الوجودى الرائق بين السماء والأض، وتدور العلاقة المبدعة بين الخالق القادر والمخلوقات الواعية، على قاعدة العقل مع الحرية مع الرحمة فى مزيج رائق شفاف يتجاوز التجسيد والتشبيه، كما يتجاوز الجبر والعدمية. فمن ناحية ثمة فجوة بين الله والإنسان لا تسمح بعارض من عوارض الشرك والمشابهة، ولا تجعل لله مثيلاً فى الحس ولا فى الضمير، فليس كمثله شئ. ومن ناحية أخرى ثمة طريق مفتوح بلا عوائق أمام حركة الإنسان إلى الله: "ولقد خلقنا الإنسان، ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" (ق: 16). وفى سعيه إلى رتبة أعلى من الإيمان وهى الإحسان، ينزع المؤمن نحو مراقبة الله والفناء فى محبته، لا عن طريق تجسيده فى ذاتنا، ولكن بتطبيق السلوك الذى يليق بمشيئته والذى يمثل، بالقطع، ترقية هامة للحضور الإنسانى على الأرض، وقد صرح الله بهذا فى حديث قدسى ورد فى صحيح البخاري: "لا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه". وحتى فى مواجهة الموت يظل المسلم قويا، لأن القول بحتمية الموت "أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة" (النساء: 78)، لا يفرض نظرة كئيبة للوجود الإنساني، لأن نقطة النهاية لعالم الشهادة ليست إلا نقطة البدء لعالم الأبد وزمن الخلود.
ورغم إصرار القرآن الكريم على تلك العلاقة الشفافة بين الإله المتسامي، والإنسان العاقل، فإنه لم يقع فى أسر الإدراك المثالى عن إنسان لا يخطئ، بل تسامت بصيرته إلى إدراك كنه ذلك الانسان الذى تهاجمه عوامل الضعف وضغوط الحس، وتدفع به نحو الخطيئة ولكنه، بفعل إيمانه، لا يستسلم أبدا، باحثا دوما عن طريق البراء والعودة إلى خالقه. فإذا كان الله يحب العابد العارف له ابتداء، فإنه يحب العبد المنيب إليه انتهاء وربما أكثر، لأن فى توبته شعور عميق بألم الإثم الذى ارتكبه رغم حلاوته فى نفسه. وهو إذ يقلع عنه، إنما يضع حبه لله قبل حبه لذاته، وهو ما يدركه الله فيحب العبد ويرحمه مهما تكرر خطؤه أو تعثر سعيه، فالله خالق لا قاتل، رحيم رغم كونه قادر. ومن ثم يخلو الإسلام من أى سلطة روحية يمكن لها أن تدعى امتلاك الخلاص الإنساني، ولم يكن رجل الدين فى الإسلام سوى فقيها، له فقط حق التعليم أو التفسير وليس الرقابة على الإيمان، ومن ثم ظل الضمير الشخصى هو المعيار النهائى للأعمال، واستمر القرآن الكريم كتاب يقرأه الجميع ولا احتكار لقراءته أو تأويله بشرط وحيد (موضوعي) وهو العلم بأساليب البيان، وليس بشرط انتقائي/ تفضيلى أو تحكمى هو الانتماء لسلك كهنوتي. بل أن الإسلام يوبخ من يؤمن به نقلا عن آخرين أو تقليدا لهم أو سيرا فى ركابهم، من دون إعمال لعقله وإرادته، معتبرا ذلك بمثابة نقص فى إيمانه. وعلى هذا فإن الحرية لا تبدو فقط أمرا ممكنا فى ظل الإسلام بل واجبا دينيا يقتضيه الإسلام،كدين شامل وخالد، لا يتوقف عند حدود أركانه الخمسة، ولا يجسد نسقا فكريا مغلقا ينتفى عنه كل ما عداه، بل يتسع ليستوعب كل فكرة خلاقة فى التاريخ طالما كانت قادرة على ترقية الحضور الإنسانى على الأرض، من دون نفى لمركزية الله فى الوجود.

الزواج المدنس
بين الكهنوت الدينى والاستبداد السياسي
غالبا ما تولد الأفكار الكبرى نبيلة وملهمة، تسقط على عالم الناس كما تسقط الشمس على الأرض، لتنير وتُطهِّر، إلا أن شرار البشر سرعان ما يدركون نفعها، فيسعون إلى احتكارها، وتعيين أنفسهم أوصياء عليها، ولذا كانت ظاهرة الكهانة بمثابة غريزة أساسية للاجتماع الإنسانى عبر التاريخ.
تعنى الكهانة إضفاء القداسة على ما هو غير مقدس، والتعقيد على ما هو غير معقد، بغرض خلق مساحة ظل بين الإنسان والحقيقة، يسكنها أوصياء على الحقيقة والإنسان معا، تنبت فيها مصالحهم المادية فى الثراء، ومطامحهم المعنوية فى السيطرة، تحت غطاء إلهى يستمدون منه شرعيتهم الزائفة، ويبررون به وجودهم الطفيلي. ففى كل أشكال الكهانة يكمن الطمع الإنسانى فى الثروة والنفوذ.. إنسان له قدرات معينة قد تكون متدنية أو عادية أو حتى عالية، ولكنه لا يقنع بعوائدها، يطمع فيما هو أكثر دائما، فلا يكون أمامه سوى الإدعاء بأنه يعرف أكثر عن الحقيقة التى لا يعرفها أحد، أو أنه يدرك الطرق التى توُصل إليها ولا يمكن لأحد بلوغها.. وهنا تصبح الحقائق الفطرية محض كاذبة، والطرق الواضحة محض زائفة، فخلف الحقائق الظاهرة أسرار غامضة، ووراء الطرق الواضحة مسالك متعرجة، أما الحقيقة الصحيحة والطريق القويم فعلمهما فقط عند الكاهن، صاحب الصنعة، كهف الأسرار..
ولنضرب مثالا للكهانة فى أبسط صورها، وعبر مشهد يعرفه المصريون جميعا، وربما لاحظه كل من زار مصر وتجول فيها. فعندما تحاول، عزيزى القارئ، أن تقوم بركن سيارتك بجوار رصيف شاغر، تجد شخصا يقفز أمام ناظريك، ويدعوك بإصرار أن ترجع للخلف مثلا، من دون أن تدرك سر هذا الإصرار. فما إن تتزحزح سنتيمترات قليلة، حتى لو كانت إلى الأمام، أى عكس ما أشار به عليك، تجده يشعر بالرضا.. لماذا؟. لأنه أثبت لك أمرين: أولهما كونه المسئول عن المكان أو المعتمد له.. ولكن ممن؟ لا يهم، المهم أنه ضمن الأجر المستهدف. وثانيهما كونه يعلم سراً يخفى عليك، كان سيؤدى إلى فساد عملية الركن، وأثبت جدارته أمامك فى موضع هو بطبيعته بسيط غير معقد، وهذا هو جوهر الكهانة.
وتتدرج صورة الكهانة من ذلك المستوى الأصغر إلى ما هو أكبر، فهناك الموظف الحكومى الذى نتعامل معه جميعا لاستخراج شهادة أو الحصول على توقيع ما، والذى لا يرضيه أن يكون مجرد فاعل آلى يؤشر تلقائيا على أشياء بسيطة، فيسعى إلى خلق قيمة كبيرة لدوره الصغير، بأن يقوم بتعقيد الأمور بحجة غياب ورقة تافهة أو معلومة غير مطلوبة أصلا، لتبدأ أنت فى القلق والتململ خشية على ضياع الوقت والجهد، وتبلغ الدراما ذروتها مع قمة تململك أنت، وقمة انتشائه هو، قبل أن ينبثق منه الحل العبقرى فى تلك اللحظة الأخيرة (الاستثنائية). أما الحل فليس سوى العودة إلى منطق الأمور الطبيعى الذى قام هو بتعطيله. وأما الثمن فلن يقل عن أحد أمرين أو كليهما معا: الشعور بأهمية غير حقيقية، والحصول على مال غير مشروع. وإذا كان هذا هو حال الكاهن الموظف، فلك أن تتصور حال الكاهن مديرا، ورئيسا لمجلس إدارة، ووزيرا.. الخ، حيث الدرجات الأعلى من الرغبة فى التحكم والسيطرة، ومن الحرص على جنى المال والنفوذ بغير وجه حق.
تلك الممارسات الكهنوتية باسم حقائق دنيوية تبقى بسيطة قياسا إلى الكهانة الدينية باسم الذات الإلهية، فحينها يكون السر مقدسا وليس فقط عميقا، والمصلحة سماوية وليست فقط أرضية، أما الكهنة فهم القيمون على الملكوت، الوسطاء إلى الله، فمن أراده قصدهم للشفاعة، ومن تطلع إلى عونه نفحهم بالعطايا، ومن لم يفعل طاردوه حتى طردوه من رحمة قصروها على أنفسهم، ومنحوها لزبائنهم، وكأن الله يقبع فى قلب السوق رهن مشيئتهم.
ولدت الكهانة حول كل معبود، وادعى الكاهن إنه المؤتمن على الدين، المسئول عن طقوسه، العارف بأسراره، المنظم لشعائره، فكان السدنة حول كل بيت للرب، يقيمون مذابح يدعون أنها مذابحه، ويطلبون ذبائح يدعون أنها مطلبه، سواء فى أديان ما قبل التوحيد، حيث القداسة إما لقوة كونية، غالبا سماوية، تتسم بالحجم الهائل أو القوة المفرطة. أو حتى فى الأديان السماوية التى لم تعدم زبانيتها وكهنتها.
فى الأديان غير السماوية أوتى الكهنة من الذكاء والقدرة السحرية ما يمكنهم من إخضاع الناس لهم، فاستحلوا بذلك مكانة الله من الناس، مدعين أن لهم سلطانا على نظام العالم وسنن التاريخ وقوانين الإجتماع البشري، ولذا يتوجب استرضائهم بالمال والنفوذ حتى لا تسود الفوضى بين الناس ولا تتنزل عليهم الكوارث.
أما فى الدين التوحيدي، فكانت الكهانة حاضرة لدى اليهودية، موكولة إلى سبط رئيسى من أسباط بنى إسرائيل وهم اللاويين، الذين سرعان ما تحولوا إلى مركز قوة فى الصراع على مصير الشعب الإسرائيلى بتكريس نفوذهم من خلال محاولات التنبؤ واستطلاع الغيب خصوصا فى مرحلة ما قبل النفي، فكانوا يستشيرون يهوه عن طريق الإستقسام بأزلام مقدسة تعرف باسم (أوريم) و (توميم)، على منوال تلك الأزلام التى كان يستقسم بها أهل مكة، فى العصر الجاهلي، وقبل بعثة الرسول الكريم. وكما لعبت هذه الفرقة اليهودية دور الكاهن فى حياة اليهود، فصارت حارسا طبيعيا على الإيمان اليهودي، حاول اليهود فى العموم لعب دور الكاهن فى حياة الإنسانية كلها، كى يبقوا وحدهم المؤمنين، شعب الله المختار، وما عداهم ليسوا إلا أغيارا، كفارا، طريدى الملكوت!.
وفى المسيحية كان أثر الكهانة أكثر وضوحا، حيث نمت سلطة كنسية طالما رعت العقيدة الصحيحة حسب تأويلها الخاص، وأشرفت على طقوسها الأساسية: التناول، والتعميد، والزواج، والاعتراف، وغيرها. الأمر الذى أدى إلى تكريسها وسيطا بين الله والإنسان، على نحو يهدر الضمير الشخصى لصالح سلطان تقليدى خارجى تجسد فى الموروث الكنسى من أعمال كبار الباباوات، واجتهادات كبار اللاهوتيين، ورؤى أبرز القديسين، وعلى حساب النص الإنجيلى نفسه، وصولا إلى لحظة الذروة التى قامت فيها كاثوليكية العصور الوسطى بالاتجار علنا فى صكوك الغفران، ما أدى لتفجير حركة الإصلاح الدينى مطلع القرن السادس عشر.
أما فى الإسلام فقد نحى المذهب الشيعي، منذ التاريخ الباكر، إلى بناء ما يشبه سلطة روحية، اتخذت صورة إمام معصوم تمثل أولا فى على بن أبى طالب رضى الله عنه، قبل أن تتحول إلى طقس أسطورى بفعل استشهاد الحسين رضى الله عنه على يد أنصار يزيد بن معاوية، حيث تحولت حادثة كربلاء إلى شعيرة رمزية يحييها الشيعة كل عام فى يوم عاشوراء، وينشد الشعراء فيها المراثى التى تكرم الشهداء، وتستعيد سيرتهم.
وقد استمرت قصة الحسين الرمزية، بمثابة قصة ضعف ورثاء تشى بعجز المحكومين تجاه الحاكم، وإلى الفشل المحتوم فى معارضة الحاكم المستبد، مهما بلغ تقوى القائمين بهذه المحاولة وحرصهم على العدالة. وهو ما دفع الإمام جعفر الصادق المتوفى عام 765 ، الى التخلى رسمياً عن الكفاح المسلح، فهو وإن استمر الإمام الشرعى الوحيد للأمة، كونه سادس الأئمة فى التسلسل الشيعى إلا أن رسالته الحقيقية لا تتمثل فى خوض معارك عنيفة غير مجدية، بل فى تقديم الحقيقة الروحية السامية الكامنة فى القرآن الكريم، من خلال تفسيره تفسيرا صوفيا، باطنيا لا يستطيعه سوى الإمام، فكل إمام من نسل على يعتبر الزعيم الروحى لأبناء جيله، يعينه سلفه بعد أن يضع فيه "العلم الباطن" بالحقيقة الإلهية، ليصير الموجه والمرشد الروحى المعصوم.
عندما توفى الإمام الحادى عشر "الحسن العسكري" فى عام 874م، تحول المذهب إلى نزعة مهدوية كاملة تبلورت فى صيغتها النهائية حول الإمام الغائب (محمد أبا القاسم )، والمفترض أن يحمل الرقم الإثنى عشر فى سلسلة الأئمة، والمفترض له كذلك أن يعود فى نهاية الزمان كى يُخلِّص الناس من المظالم ويملأ الأرض بالعدل. وبعد قرون عديدة، رأى علماء الشيعة خلالها أن كل الحكومات غير شرعية فى ظل غياب الإمام، ولكن من دون تفكير فى حكم العلماء للدولة، أخذوا يدعون إلى الأخذ بمقاليد الحكم لضمان حاكمية الله. وفى كتابه "الحكومة الإسلامية" المنشور عام 1971م، تمكن الخمينى من تطوير مفهوم ولاية الفقيه كأيدلوجيا شيعية (سياسية) تطالب صراحة بمنح الحكم للفقيه باعتباره الأقدر على امتلاك الحقيقتين الروحية والسياسية، وعلى تحقيق العدالة المهزومة منذ استشهاد الحسين على أيدى يزيد، وكحل يوفق بين حقيقتين: الأولى هى وجود الإمام رغم غيابه. والثانية هى حاجة الشيعة الواقعية الى مرشد روحى وسياسي. ورغم أن العالم / الفقيه لن يكون على نفس مستوى الرسول والأئمة، فإن معرفته بالقانون الإلهى تعنى أن باستطاعته أن يمتلك نفس سلطتهم، وأن يرأس مجلسا يشرف على تطبيق الشريعة فى كل مناحى الحياة اليومية بدلاً من وجود مجلس نيابى يأتى بتشريعاته البشرية الوضعية.
عند صدور الكتاب، الذى قدم بديلا إيديولوجيا كاملا لحكم الشاه، كان الرجل قد غادر الحوزة العلمية فى مدينة قم منفيا إلى النجف بالعراق. وبعد صدوره انتقل إلى باريس مواصلا نضاله ضد نظام الشاه (العلمانى الملحد الموالى للشيطان الأكبر) على نحو حفز الثورة الإيرانية، حتى بلغت ذروتها بعودته من منفاه على أعناق الجماهير التى رفعته إلى موقع الولى الفقيه، نائب الإمام الغائب على الأرض، فصار آية الله العظمي، مالك الحقيقتين الروحية (الباطنية) والسياسية (العملية).. وبالطبع أدى هذا الادعاء بامتلاك الحقيقة إلى توقيف التطور الحضارى الإيرانى فعليا رغم ادعاءاتها بالتفوق العسكري، ومحاولات الهيمنة السياسية، التى لا تكفى لأن تقتات عليها أمه، وأن تكون بديلا للحرية والخبز معا، وهو الأمر الذى جعل من الشيعية السياسية الثورية مشكلة سياسية معقدة لجيرانها فى النظام الإقليمي، وحالة مربكة للنظام العالمي.
وعلى الرغم من أن الفضاء السنى قد بقي، نظريا، بعيدا عن ما يمكن تسميته ب "السلطة الروحية"، متجنبا الهياكل الصريحة لكاثوليكية العصور الوسطى الأوروبية، فلم ينتج ولاية فقيه سنية إلا أن حركات الإسلام السياسى التى شغلت القرن المنصرم، نزعت إلى تأسيس نوع خاص من الوصاية الدينية على بقية المسلمين تؤدى بعد خطوة واحدة أو اثنتين إلى النتيجة نفسها، بدءا من تمييز أنفسهم باعتبارهم جماعة المسلمين، وكأن الآخرون خارج الإسلام. ثم ادعائهم بدور سياسى للدين، على نحو يمنحهم حقا معنويا وأفضلية أدبية باعتبارهم، فى الخطاب المضمر، حراس العقيدة، ووسطاء الروح.
تدريجيا أحال هؤلاء الحراس الإسلام إلى كهف منكفئ على داخله، فالكهف لزوم الصنعة، والانكفاء منبع للغموض ومصدر للأسرار. ولأنه صار كهفا فقد صار ضيق الأفق بقدر ضيق الجغرافيا، يرفض كل جديد، ويعول على كل تقليد، يجافى الاجتهاد مهدرا ظروف المكان والزمان، إذ يرجع إلى أكثر تجارب المسلمين محافظة ليلبسها رداء العقيدة، يجعلها سنة وشريعة، وهى ليست إلا فقها نتج فى زمن تحول، ومكان تغير. وهنا يصير العقل عقالا يقيد حركة الإنسان، مصدرا لإغوائه، يجافى الوحى الذى يصير ضدا وعدوا.
ولأن غاية الحراس هى الإذعان لهم، فلم تعد الأهداف هى الإنسان، ولا العمران، لا الترقى ولا التحضر، لا العقلانية ولا الحرية، ولم يعد لله جل شأنه سوى صفات القهر والكبرياء، وتوارت صفات الرحمة والغفران، وصار الخوف لا الحب جوهرا للإيمان. فمعهم صار الأصل فى الأشياء هو التحريم لا الإباحة، والحلال لا يكون إلا بنص، وليس صحيحا إلا ما هو مألوف وموروث، ومن ثم أصبحت الديمقراطية حراما، وصار البرلمان رجسا، وسلطة الأمة كفرا، فالحاكمية ليست إلا لله، أما حاكمية الإنسانية فبدعة مضلة، من دون أن يقول لنا أولئك الحراس: ومن الذى يفسر مقصود الله فى نص ليس محكم الفهم، وفى حكم ليس قطعى الدلالة أو الثبوت، من هو ذلك المعصوم بعد وفاة سيد الخلق، الولى الفقيه أم أمير داعش؟.
تبدأ الكهانة السنية من دعوى الأمر بالمعروف، إذ يفهمها أرباب الكهف وحراس العقيدة فهما لا تاريخيا، متصورين لأنفسهم سلطة على الضمير، تحاسب وتعاقب، تحاكم وتقتل باسم الله، مستحلة أحيانا دماء لعلها أذكى من دمائهم، وأرواحا لعلها أطهر من أرواحهم، وسرائر لعلها أنقى من سرائرهم.. يتجاهل هؤلاء حقيقة أن الإيمان ضمير واختيار، لا يزدهر فى وجود القهر والإجبار، فلابد أن يكون الخير إرادة أهله، والشر اختيار صحبه، وإذا كان من حق الإنسان أن يكفُر، فإن من حقه أن يفجُر، ولا سلطان لأحد عليه سوى الله، فكل سلطان آخر ليس إلا ابنا لدولة الكهنوت.
وهكذا كانت الكهانة بمثابة صيرورة طويلة أثقلت كاهل الباحثين عن الله فى كل حدب وصوب، خصوصا بعد أن اختلطت أنماط التدين بعمليات تنظيم المجتمع وبناء الدول، ونمت علاقة مضمرة أحيانا وصريحة أحيانا أخرى بين الكهنوت الدينى والاستبداد السياسي. فإذا كان الإيمان الروحي، هو أكثر الأفكار روعة وإلهاما فى التاريخ الإنساني، فإن الكهانة الدينية التى قامت حول هذا الإيمان، هى أكثر الأفكار قسوة وغطرسة فى التاريخ نفسه، ويكفى لتبيان ذلك النظر فقط إلى الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش المسيحية وحروب الإصلاح الدينى وموجات الإرهاب المتلاحقة، ناهيك عن العنصرية الدينية اليهودية المؤسسة للإحتلال الإسرائيلى المشين للروح للإنسانية قبل الذات العربية، وجميعها مثالات دفعت كثيرين من الفلاسفة إلى رفض الدين، ومناكفة الإيمان، إذ وقعوا فى خطيئة الخلط بين الإيمان الروحى والكهانة الدينية.

الدين كثورة روحية
والثورة كدين إنساني
تتكاثف دعوات التغيير وتتسارع عوامل النهوض فقط فى لحظتي: الوحي، عندما ينبثق دين وليد. أو الثورة، عندما ينبثق وعى جديد، فلا يمكن لعالم أفضل أن يولد على جثة السائد والمألوف إلا بواسطة شخصية استثنائية سواء من حاملى الرؤى المبشرين بما فوق عالمنا (الأنبياء)، أو من حاملى السيف والفكر المبشرين بمستقبل أيامنا (الأبطال)، وهو ما يرجع إلى قدرة الدين والثورة على توليد (نشوة وجدانية)، تصدر عن باطن إنسان أشرقت روحه إما بالحضور القدسى لقوة علوية متسامية على الوجود (الله)، وإما بحضور دنيوى لفكرة سارية فى باطن الوعى (الحرية). وهنا تتحقق الفعالية القصوى للشخصية الإنسانية بخروجها من دائرة الخبرة (العادية) بحيزها المحدود، وفعاليتها الجزئية، إلى خبرة جديدة (استثنائية) تبلغ معها الرؤية ذروة صفائها، والإرادة منتهى كمالها، والتضحية أقصى حدودها، حيث يتساوى الموت مع الحياة، والوجود مع العدم ويصير (الكل فى واحد).
يفترض هنا أن يصير الدين الصحيح، قرينا للثورة الحقيقية، فيكون المؤمنون جدا هم الثائرون أكثر على الظلم والفساد، ويكون الثائرون حقا هم الحريصين جدا على الفضائل الأخلاقية والقيم الدينية، فالثوار مؤمنون إيجابيون، بينما يكون المؤمنون ثوارا عاقلين. غير أن التاريخ غالبا ما وشى بالعكس، حتى وصف الدين ب (المحافظة والرجعية)، ووصفت الثورة ب (الفوضوية والدموية)، وكأن الثورة نقيض منطقى للدين، والحرية عدو جوهرى للإيمان.
تفسير ذلك أن الخصوم الحقيقيين للثورة فى نطاق الدين، ليسوا هم المؤمنين حقا، بل أتباع المؤسسة الدينية، حيث يكمن الفهم الدينى التقليدى الراكد أحيانا، أو المتطرفين المكفرين لعموم الناس أحيانا. ففى الحالين يكون الدين قد خرج من فلك الأرواح وانطوى إما فى داخل بيروقراطيات كهنوتية ذات نوازع تسلطية، أو فى داخل عقول مغلقة ذات ميول عدمية. وهؤلاء جميعا ليسوا خصوما للثوار فقط، بل للمؤمنين أيضا، الموصولين بالله صدقا. وأما الخصوم الحقيقيون للدين فى نطاق الثورة، فليسوا هم الثائرون الأحرار بل أولئك السادة الظالمون، الهادفون إلى حفظ تراتبيتهم فى سلم القهر والهيمنة، النازعون من ثم إلى صد كل دين خلاق، وكل فكر جديد فعال يتفجر أملا لا يرومونه، ويتدفق عدلا لا يطيقونه.
والأمر المؤكد لدينا أن نجاح الثورة يرتبط بقدرتها على تمثل ما فى الدين من قدرة على إلهام الضمير الفردي، وتكتيل الإرادة الجمعية لقطاعات واسعة من البشر، فالمجتمع العاجز عن التدين العميق، غالبا ما يكون عاجزا عن الفعل الثوري؛ إنه المجتمع المنحط العاجز عن تنمية مشاعر التضامن والتضحية بين أهله على قاعدة الشعور بالمصير المشترك، وهى المشاعر التى تظهر خصوصا فى حالات الطوارئ كالحروب مثلا، والتى تشبه جوهريا تلك الطقوس التى تجمع بين المؤمنين وتشعرهم بالأخوة فى الله، فمشاعر التضامن الوطنى والعدالة الإنسانية هى مشاعر دينية فى جوهرها، ولكنها أخذت طابعا دنيويا بهدف تحقيق العدالة والجنة على هذه الأرض.
فى هذا السياق ولدت من قلب الأديان روحانية تقدمية، فكان الإسلام، مثلا، ثورة حقيقية بانبثاقته المتمدينة من نفق الشرك حيث الأصنام تعبد، ومن قلب حياه جاهلية حيث لا معرفة تذكر، ومجتمع فظ يئد الأنثى ولا يعترف أصلا بإنسانية العبيد. وفى المقابل ولدت من رحم الثورات الكبرى روحانية للتغيير تقوم على المباديء الكلية للعقل الإنساني، لا تختلف فى جوهرها عن المبادئ السامية للنص القرآني. ففى الثورة الفرنسية، مثلا، تم التبشير بأفكار كالحرية والإخاء والمساواة، وهى قيم دينية فى الصميم، حاولت فرنسا من خلالها أن تغير الآخرين، خصوصا الممالك الرجعية فى أوروبا. ومن رحم الثورة الأمريكية ولد الحلم بمجتمع تتحقق فيه الحرية الكاملة، والمساواة المطلقة، حيث تتعدد المعتقدات بغير قيود، وتتواجد الفرص بغير حدود، ويتضافر الجميع لتحقيق السعادة الكاملة عبر الوفرة الكاملة. فيما لعبت الثورة البلشفية هذا الدور التحفيزى نفسه، ولو لفترة قصيرة من الزمن، بإلهام دعوة أثيرة إلى العدل الاجتماعى المطلق، والمساواة الإنسانية الكاملة.
وعلى العكس من ذلك الوجه الإيجابي، ثمة مشابهة كبرى (سلبية) تجمع بين الدين والثورة تتعلق بصيرورة الفساد والتدهور إليهما، إذ يلعب الدين دوره فى ركود المجتمعات حينما يتم تحريفه عبر التاريخ، أو يفشل المؤمنين به، فى تفهم منطقه الذاتي، وتجسيد عبقريته الخاصة، فيفرضون باسمه نوعا من الوصاية على العقل، أو التسلط على الإرادة، كما كان الأمر فى تاريخ المسيحية البعيد أو فى تاريخ الإسلام القريب وحاضره الراكد، حيث تدهورت أنماط التدين بفعل متغيرات العصور، وساد فقه رجعى تحالف مع نخب الحكم القبلية ثم مع السلطة الرعوية المنتمية الى غير جذور عربية، تلك التى فرطت فى العدل الذى هو أساس الملك وعاشت على الجباية، وقمعت الاجتهاد فذبل نور العلم ثم مشعل الحضارة، بعد أن وأدت الشورى على أيدى الفقهاء الذين برروا "السلطان الغشوم" بالخوف من "الفتنة التى قد تدوم" حتى جعلوا ستون عاما طوالاً من سلطان جائر أهون على الأمة من "ليله بلا سلطان"، وهنا صار الدين أو بالأحري، التدين الرجعي، أكثر المكونات نجاعة فى سلب وعى الناس، وتبرير الإستبداد والظلم، يقول شيوخه لأتباعه ما قاله الفنان الراحل حسن البارودى فى أحد أبرز أفلام السينما المصرية للفنان الراحل أيضا، شكرى سرحان وهو يطلب منه تطليق امرأته الفنانة الرائعة والراحلة سعاد حسنى لتتزوج من عمدة القرية، رمز الاستبداد والقهر: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم". فعندما يفسد الدين، يصير مناوئا لكل تقدم علمى أو سياسي، مستعينا فى ذلك بأكثر المؤسسات رجعية، وأكثرها رفضا للتغير. وهنا يقترب الدين من الشكل الذى رسمه له النقد الوضعي، خصوصا الماركسى باعتباره أفيونا للشعوب، فيصير هدفا لحركات التغيير الكبري، الهادفة إلى تعديل مسارات الجماعات الإنسانية ابتعادا عن الجمود واتجاها نحو التقدم.
وأما الثورة فتلعب هذا الدور المعطل للتقدم حينما تفقد اتجاهها الأساسى وغاياتها النهائية، وتتحول إلى مؤسسة قمعية متغطرسة، وبنية بيروقراطية معطلة، ففى الثورة الفرنسية، مثلا، تدهورت قيم الحرية والإخاء إلى محاولات للهيمنة على القارة العجوز أوقدت حروبا استمرت لثلث القرن وانتهت بمعاهدة واترلو 1815 التى كسرت أنياب نابليون بعد أن أنهكت الدولة الفرنسية. كما فقد الحلم الأمريكى بريقه تدريجيا بنمو نزعة التسلط والهيمنة الأمريكية مع منتصف القرن العشرين، وبالذات فى العقد الأول لهذا القرن، حينما حاولت تكوين إمبراطورية تستقى إلهامها من كهوف الزمن الكلاسيكى العتيق، وادعت احتلال موقع الله وامتلاك أقدار البشر. كما سقط الحلم السوفيتى فى أخر المطاف لأن ثمن الحلم كان كبيرا وسبب الكثير من المعاناة على الصعيد الإنساني، حيث أخذت الديكتاتورية الستالينية هذا المنحى الفريد الرهيب من التسلط والقهر. وهكذا يتبدى أن الرجعية لا تنبت من جذر واحد، فإذا كان الدين مصدرا لها ينبع من فساد التدين، فإن السياسة مصدر آخر لها ينبع من غريزة التسلط.
وهكذا المتأمل للصيرورة التاريخية كيف سارت فكرة الحرية فى قلبها، حتى وصلت بعد جهاد طويل، وعبورا على نكوصات وتراجعات، إلى ذروة نضجها، الذى ازدهرت معه الشخصية الإنسانية، وتكرَّست الحداثة الاجتماعية، فأعطت للحرية معناها الوجودى العميق، باعتبارها ذلك النشاط الإرادى للروح، الذى يمدنا بالقدرة على أن نقول ما نعتقده، وأن نفعل ما نقوله.. أن نتمتع بثمار أفعالنا ونتحمل كلفة أخطائنا، أن نريد ونختار، وأن نتحمل فى الوقت نفسه مسئولية اختياراتنا، فالحرية هنا ليست إلا التجسيد السياسى للضمير الإنساني. فإذا كان الضمير هو القلب من نظام الإيمان، الذى يفسد بحضور الكهانة الدينية والسلطة الروحية، فإن الحرية هى القلب من نظام الحكم الذى تنتفى ديمقراطيته لصالح الاستبداد بحضور الكهانة السياسية والسلطة القمعية، فإذا ما أدركنا كيف أن جل السلطات القمعية قد رفعت سيف الدين، وكيف أن جل المستبدين قد تواروا خلف مقدس دينى أو نزوع قومى شوفيني، لتأكدنا أن الحرية هى روح الإيمان، باعتباره جوهرا للدين، بالقدر نفسه الذى تكون به جوهرا لنظام الحكم الديمقراطي، فالحرية ضمير الحكم مثلما أن الضمير هو دين الأحرار، ولا نقائض للضمير والحرية سوى الكهانة الدينية والاستبداد السياسي. ولذا لن تستحق الثورة المصرية اسمها ما لم تقتلع الرجعية من مصدريها حتى لا نرى طيور الظلام من أرباب التدين الزائف، ولا نسمع نعيق البوم، من متعهدى الإستبداد العلمانى الذين لا يستطيعون العيش سوى فى كهف الدولة الأمنية، فالأولون يقتلون الحرية باسم الله والأخيرون يعاندونها باسم السلطان.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.