تتوزع الخبرة الدينية على مستويين متمايزين: مستوى أولى يتمثل فى الاتصال العاطفى مع المبدأ الإلهي/ القدسي، ومستوى ثانوى يتم فيه عقلنة هذه الخبرة وتنظيمها اجتماعياً، ويتم ذلك بواسطة تمايزها إلى معتقدات من ناحية، وإلى عبادات وشعائر من ناحية أخري. على المستوى الأول تصير الخبرة الدينية خبرة متفردة تماما، باعتبارها حوار الكائن البشرى مع خالقه وهو حوار خاص جدا يترقى فيه الإنسان بقدر ألقه الروحى الباطنى فيما لا سبيل إلى تعلمه من أحد أو نقله عن أحد أو إلى أحد. وعلى المستوى الثانى تصير هذه الخبرة إلى تقليد يدور حول نصوص ونقول، يقصد إلى التعليم والتنظيم، ما يجعل منه نسقا يمكن الدخول إليه والخروج منه، نقله عن سابقين إلى لاحقين، وطقسا يمكن الاشتراك فيه مع آخرين. على المستوى الأول لاسبيل للحديث عن ارتقاء أو تدهور فى نمط التدين، فنحن أمام ذلك الجوهر العميق للدين كحالة روحية وخبرة باطنية وجسر وجودى يربط عالم الشهادة بعالم الغيب، يدفع الروح الإنسانية إلى تجاوز نفسها، والتعالى على وجودها المباشر.. إننا هنا أمام تجلى الحقيقة الإلهية للضمير الإنساني، وكذلك أمام قدرة الروح الإنسانية على الإصغاء لهمس تلك الحقيقة وما توفره من شعور بالتواصل مع المقدس، على نحو يزيد من اليقين الإنسانى بالحضور الإلهى فى العالم، ومن الشعور بالعناية الإلهية للمصير الإنسانى على الأرض وهو جوهر يمكن امتلاكه، ويُتصور فقده ولكن ذلك لا يعتمد على أساليب مدرسية أو قواعد مقننة قابلة للتطور والارتقاء بل هو رهن القوة الروحية للفرد التى تصنعها ميوله ويلهمها تكوينه النفسى واستعداده الجواني، فالإيمان هنا هو نتاج العوالم الداخلية للإنسان، بقدر ما أنه وسيلة مثلى لإنماء هذه العوالم. وعلى المستوى الثانى ثمة إمكانية للحديث عن تغاير فى أشكال وأنماط التدين، سواء بالارتقاء أو التدهور، بالنضوج أو التشوه، وهو التغاير الناجم عن عمليات نقل وتنظيم الخبرة الدينية، بحسب الترقى فى طرق تأويل وتدوين النصوص، والتباين فى مسارات احتكاكها بالواقع التاريخي، ومستويات تفاعلها مع العقل الإنساني. على المستوى الأول وحده، يصبح الدين منشطا للنزعة الفردية، ومن ثم جذرا عميقا لمفهوم الحرية بالمعنى الوجودى العميق، على نحو ما تبدى فى دعوة المسيح عندما حاول أن يعيد وصل الناس جميعا بالوحى الإلهي، وأن يفتح أمامهم أبواب الملكوت كى يدخلوه بالإيمان لا العرق، بالروح لا الجسد كما ذهب التصور اليهودي/ القبلى للعلاقة بين الله والإنسان، فقد رأى المسيح أن الملكوت يسع الجميع، وعناية الله تظل الجميع، ورحمته لا تقتصر على أحد، بل تحيط بكل البشر الخاضعين لمشيئته. ولم يقل الإسلام بغير ما قال المسيح، فيما صرف كل جهده إلى نفى الكهانة التى نمت بعده، وتهذيب سلطان الكنيسة التى هيمنت على ضمير المؤمنين به. ففى الإسلام توجد حقيقة بسيطة ولكن عميقة ورائعة: لم يكن الله أبدا سوى واحد أحد، لا حاجة له سوى ضمائرنا، ولا مطلب لديه إلا صلاحنا، ولا شروط لعنايته إلا قربنا منه، ومناجاتنا له، فهو الأقرب إلينا من حبل الوريد، وهكذا تصير العلاقة بين الله والإنسان فى الإسلام علاقة شفافة بين خالق قادر ومخلوقات واعية، تصلى له لتتواصل معه، تدعوه فيستجيب لها، فيصير الله محبة، والإيمان إخلاصا، والعقيدة ضميرا، والخلاص النهائى مكافأة إلهية، يمنحها الله لنا جزاء وفاقا لإيماننا الداخلي، وعملنا النقي، وسعينا الدءوب إليه. ورغم إصرار القرآن الكريم على إثبات تلك العلاقة الشفافة بين الإله المتسامي، والإنسان العاقل، فإنه لم يقع فى أسر الإدراك المثالى المتفائل عن إنسان لا يخطيء، بل تسامت بصيرته إلى إدراك كنه ذلك الإنسان الذى تعتوره عوامل الضعف وضغوط الحس، وتدفع به نحو الخطيئة ولكنه، بفعل إيمانه، لا يستسلم أبدا، باحثا دوما عن طريق البراء والعودة إلى الله، الذى شاءت إرادته أن يظل بابه مفتوحا أمام عبده. فإذا كان الله يحب العابد العارف له ابتداء، فإنه يحب العبد المنيب إليه انتهاء وربما أكثر، لأن فى توبته شعورا عميقا بألم الإثم الذى ارتكبه رغم حلاوته فى نفسه، وهو إذ يقلع عنه، إنما يضع حبه لله قبل حبه لذاته، وهو ما يدركه الله فيحب العبد ويرحمه مهما تكرر خطؤه، وإن تعثر السعي، وتشوه العمل، وتنوع الإيمان، فالله خالق لا قاتل، رحيم رغم كونه قادرا. وهكذا لا يعدو رجل الدين أن يكون فقيها، له فقط حق التعليم أو التفسير، ولا احتكار لقراءة أو تأويل كتابه المقدس (القرآن الكريم) الذى يقرأه الجميع بشرط وحيد «موضوعي» وهو العلم بأساليب البيان، وليس بشرط انتقائي/ تفضيلى أو «تحكمي» هو الانتماء للسلك الكهنوتي، فلتذهب الكهانة إذن وليذهب السدنة، كل السدنة، سدنة الإيمان والسلطة والسيادة، إلى قعر الجحيم. وقد ترتب على ذلك أن الإسلام العام/ السنى لم يشهد قط ظاهرة السلطة الدينية المهيكلة فى هرم تراتبي، وإن وجدت على استحياء فى مراحل متأخرة داخل المذهب الشيعى فيما تجسده فكرة ولاية الفقيه، وترتيب «آيات الله» فهو وجود اسثنائى لا ينبع من النص القرآني، ولا من روح العقيدة، بل نبت فى مراحل تالية من رافدى الصراع السياسي/ المذهبي، والتدهور التاريخي/ الحضاري. وعلى هذا فإن مفهوم الحرية، لا يبدو فقط أمرا ممكنا فى الإسلام، بل واجبا دينيا أيضا، فكل فكرة تُمكن الإنسان من ممارسة أكثر إبداعية لعهد استخلافه على الأرض، هى فكرة إسلامية بالضرورة. فحتى يبقى الإسلام دينا شاملا وخالدا، لا يمكن اختزاله فى أركانه الخمسة فقط، ولا يجب حبسه فى نسق فكرى مغلق ينتفى عنه كل ما عداه، ولا التنازل عنه لكهنة يحتكرون روحه ويتحدثون باسمه، بل يتعين اعتباره نسقا مفتوحا يستوعب كل فكرة خلاقة وفعل مبدع فى التاريخ طالما كانا قادرين على ترقية الحضور الإنسانى على الأرض، من دون نفى لمركزية الله فى الوجود، كما يتسع لكل البشر، ويمنحهم نفس القدر من الكرامة الإنسانية، لمجرد كونهم بشرا، أى شركاء فى عهد الاستخلاف الإلهى للإنسان على الأرض، ولو تعددت الأديان، واختلف شكل الإيمان. لمزيد من مقالات صلاح سالم