غالبا ما تولد الأفكار الكبرى نبيلة وملهمة، تسقط على عالم الناس كما تسقط الشمس على الأرض، لتنير وتُطهِّر، إلا أن شرار البشر سرعان ما يدركون نفعها، فيسعون إلى احتكارها، وتعيين أنفسهم أوصياء عليها، كهنة وسدنة لها، وسطاء بين الناس وبينها، ولذا كانت ظاهرة الكهانة هى أخطر التحديات التى واجهها الدين عبر مسيرته فى التاريخ. وإذا كان الدين هو الفكرة الملهمة للضمير الإنسانى، التى تنثنى لها رقاب المؤمنين، وتخضع لها أعناق السلاطين أنفسهم، فلماذا لا يتم الاستفادة منها؟ هذا سؤال الشياطين، ولم تكن الإجابة سوى الكهانة، ادعاء بأنهم القيمون على الملكوت، الوسطاء إلى الله، فمن أراد الله قصدهم، ومن تطلع إلى عونه ناجاهم، ومن أخطأ كان عليه الاعتراف والتطهر أمامهم، ومن لم يفعل طاردوه حتى طردوه من رحمة قصروها على أنفسهم، ومنحوها لزبائنهم، باعوها لمن أراد، ومنحوها لمن نثرهم بالنقد والثمر، وكأن الله يقبع فى قلب السوق رهن مشيئتهم. ولدت الكهانة حول كل معبود، فكان السدنة حول كل بيت للرب، يقيمون مذابح يدعون أنها مذابحه، ويطلبون ذبائح يدعون أنها مطلبه، عبر صيرورة طويلة أثقلت كاهل المؤمنين الباحثين عن الله فى كل حدب وصوب، قبل أن ينزل الله وحيه إلى العالمين. وحتى عندما نزل الوحى الإلهى، فقد حاول اليهود سرقته من الإنسانية، كى يبقوا وحدهم المؤمنين، شعب الله المختار، وما عداهم ليسوا إلا أغيارا، كفارا، طريدى الملكوت، وكى يبقى الله إلههم الوحيد وكأن هناك إلهة أخرى، وإن لم تمت لهم بصلة! وكما لعب الفريسيون دور الكاهن فى حياة اليهود، بإيمان شكلى وطقوس مزيفة حاولوا أن يجعلوها جوهرا للدين، كى يصيروا حراسا طبيعيين عليه، حاول اليهود فى العموم لعب دور الكاهن فى حياة الإنسانية كلها، ليكونوا حراسا على الملكوت الإلهى برمته. وهو الدور نفسه الذى لعبته الكنيسة فى العصور الوسطى، عندما ادعت بأنها جسد المسيح، وموطن الخلاص، ثم أخذت تقنن عقائدى، إثباتا ونفيا، تحكما وتسلطا، نكوصا عن الروحانية المسيحية الأولى. وهو كذلك الدور الذى تسعى جماعات الإسلام السياسى اليوم إلى ممارسته فى حياة المسلمين، الذى يكشف عنه حجم التشوهات التى يلحقها هؤلاء بروح النص القرآنى، وبصورة الإسلام المشرقة، بما يمارسونه من دروب الوصاية على ضمائر الناس، تنفى ذواتهم الفردية وحقوقهم فى الحرية، فيتحول الإيمان من طاقة تحرير للإنسان إلى وسيلة لقمعه وسلب وعيه. تبدأ الأشكال الوصائية المنحرفة هذه من دعوى الأمر بالمعروف، إذ يفهمونها فهما جامدا لا تاريخيا، متصورين لأنفسهم سلطة على الإيمان، وسلطان على الضمير، تحاسب وتعاقب، تحاكم وتقتل، باسم الله، مستحلة أحيانا دماء لعلها أذكى من دمائهم، وأرواح لعلها أطهر من أرواحهم، وسرائر لعلها أنقى من سرائرهم.. يتجاهل هؤلاء أن الأمر بالمعروف لا يكون إلا بالحكمة التى يفتقرون إليها، والموعظة الحسنة التى لا يقدرون عليها. كما يغفلون عن حقيقة أن المعروف، كالمرذول، لم يعد سرا دفينا، بل صار أمرا منشورا تتناقله قنوات التلفزة، وأثير الإذاعة وأوراق الصحف ليل نهار، وأن الفضيلة صارت تحتاج إلى إرادة، بأكثر مما تحتاج إلى معرفة، وإذا كان من حق الإنسان أن يكفر، فإن من حقه أن يفجُر، ولا سلطان لأحد عليه سوى الله، وكل سلطان آخر ليست إلا من بنات الدولة الدينية، ما يعنى أن دورهم المزعوم لم يعد له محل فى ثقافتنا الحديثة التى يريدون وأدها، وفى دنيانا الواسعة، التى يسعون إلى تضييقها.