وزير الأوقاف يجتمع بمديري المديريات ويوجه بمتابعة جميع الأنشطة الدعوية والقرآنية    «شعبة الأسماك»: 50% ارتفاعًا بسعر الفسيخ عن العام الماضي.. والإقبال أقل من المتوقع    محافظ قنا يتفقد مزرعة الخراف لطرحها للبيع قبل عيد الأضحى    أبرز مستجدات إنشاء وتطوير الموانئ لتحويل مصر لمركز إقليمي للنقل وتجارة الترانزيت    الري تفتح الحدائق والمزارات أمام المواطنين في احتفالات شم النسيم    أحمد إمام يفوز بعضوية مجلس إدارة الاتحاد المصري لتمويل المشاريع المتوسطة والصغيرة    الأنباء الفرنسية: إسرائيل تقصف منطقتين طالبت بإخلائهما في رفح الفلسطينية    افتتاح دار واحة الرحمة في العاصمة الإدارية (صور)    نزوح أكثر من ألف أسرة بسبب الفيضانات في أفغانستان    باحث فلسطيني: صواريخ حماس على كرم أبو سالم عجّلت بعملية رفح الفلسطينية    رقم خرافي.. عرض قطري ضخم ل"علي معلول" يقربه من الرحيل عن الأهلي    فان دايك يكشف موقفه من الرحيل عن ليفربول نهاية الموسم    زياد السيسي يحقق ذهبية تاريخية لمصر في بطولة الجائزة الكبرى للسلاح    مع شم النسيم.. ضبط محل بحيازته سجائر أجنبية غير مصرح ببيعها بالإسكندرية    10 تعليمات من تعليم القاهرة لطلاب الصفين الأول والثاني الثانوي قبل الامتحانات    مصرع شخصين وإصابة 3 آخرين في حادث بالوادي الجديد    تعرف على إيرادات فيلم السرب ل أحمد السقا في خامس أيام عرضه    كيف دعم تركي آل الشيخ صديقه محمد عبده بعد إعلان إصابته بالسرطان؟    6 مشروبات مهمة يجب تناولها عقب وجبة الرنجة والفسيخ في شم النسيم    ختام فعاليات المؤتمر الرابع لجراحة العظام بطب قنا    معهد أمراض العيون: استقبال 31 ألف مريض وإجراء 7955 عملية خلال العام الماضي    حبس المتهمة بقتل زوجها بسبب إقامة والده معها في الإسكندرية    مصر تحقق الميدالية الذهبية فى بطولة الجائزة الكبرى للسيف بكوريا    وزير الشباب يشهد "المعسكر المجمع" لأبناء المحافظات الحدودية بمطروح    «الصحة»: إجراء 4095 عملية رمد متنوعة ضمن مبادرة إنهاء قوائم الانتظار    "دور المرأة في بناء الوعي".. موعد ومحاور المؤتمر الدول الأول للواعظات    متى يُغلق باب تلقي طلبات التصالح في مخالفات البناء؟ القانون يجيب    متروكة ومتهالكة في الشوارع.. رفع 37 سيارة ودراجة نارية بالقاهرة والجيزة    أسهلها الدفع أونلاين.. تعرف على طرق حجز تذاكر القطارات لكافة المحافظات (تفاصيل)    على مائدة إفطار.. البابا تواضروس يلتقي أحبار الكنيسة في دير السريان (صور)    5 ملفات تصدرت زيارة وفد العاملين بالنيابات والمحاكم إلى أنقرة    إيرادات علي ربيع تتراجع في دور العرض.. تعرف على إيرادات فيلم ع الماشي    "كبير عائلة ياسين مع السلامة".. رانيا محمود ياسين تنعى شقيق والدها    في ذكرى ميلادها.. محطات فنية بحياة ماجدة الصباحي (فيديو)    لماذا يتناول المصريون السمك المملح والبصل في شم النسيم؟.. أسباب أحدها عقائدي    مفاجأة.. فيلم نادر للفنان عمر الشريف في مهرجان الغردقة لسينما الشباب    وسيم السيسي: قصة انشقاق البحر الأحمر المنسوبة لسيدنا موسى غير صحيحة    زيادة قوائم المُحكمين.. تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    طارق العشرى يُخطط لمفاجأة الأهلي في مواجهة الثلاثاء    جامعة أسيوط تنظيم أول مسابقة للتحكيم الصوري باللغة الإنجليزية على مستوى جامعات الصعيد (AUMT) 2024    الرئيس الصيني: نعتبر أوروبا شريكًا وتمثل أولوية في سياستنا الخارجية    هل أنت مدمن سكريات؟- 7 مشروبات تساعدك على التعافي    ضبط 156 كيلو لحوم وأسماك غير صالحة للاستهلاك الآدمي بالمنيا    التعليم تختتم بطولة الجمهورية للمدارس للألعاب الجماعية    الشرطة الأمريكية تقتل مريضًا نفسيًا بالرصاص    فشل في حمايتنا.. متظاهر يطالب باستقالة نتنياهو خلال مراسم إكليل المحرقة| فيديو    موعد عيد الأضحى لعام 2024: تحديدات الفلك والأهمية الدينية    مفاجأة عاجلة.. الأهلي يتفق مع النجم التونسي على الرحيل بنهاية الموسم الجاري    إزالة 9 حالات تعد على الأراضي الزراعية بمركز سمسطا في بني سويف    مقتل 6 أشخاص في هجوم بطائرة مسيرة أوكرانية على منطقة بيلجورود الروسية    ولو بكلمة أو نظرة.. الإفتاء: السخرية من الغير والإيذاء محرّم شرعًا    رئيس لجنة الدينية بمجلس النواب: طلب المدد من ال البيت أمر شرعي    "احنا مش بتوع كونفدرالية".. ميدو يفتح النار على جوميز ويطالبه بارتداء قناع السويسري    بالصور.. الأمطار تتساقط على كفر الشيخ في ليلة شم النسيم    أول تعليق من الأزهر على تشكيل مؤسسة تكوين الفكر العربي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    قصر في الجنة لمن واظب على النوافل.. اعرف شروط الحصول على هذا الجزاء العظيم    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شرعية الخلافة أم تاريخية السلطة؟ .. الدولة المدنية بين العلمانية السياسية والشمولية الإسلامية!
نشر في الأهرام اليومي يوم 18 - 11 - 2015

تتفق الفرق الكلامية على وجوب «الإمامة الكبرى» غير أنهم لا يصنفونها ضمن العقائد، التى يكون معيار الخلاف فيها هو الإيمان والكفر، بل ضمن الفروع، حيث معيار الاختلاف هو الصواب والخطأ.. أما الشيعة وحدهم فيردونها إلى النص، أو الوجوب الإلهي، مع ما يترتب على ذلك من العصمة والكمال.. وهكذا يقع السلفيون من دعاة الدولة الدينية ، فى فخ الشيعة الذين يتصورون أنفسهم نقيضا لهم!
تحققت جل الفتوحات السياسية والإنجازات الحضارية للعرب المسلمين خلال العصرين: الأموي، والعباسى الأول، فى ظل الاستبداد السياسي، وهو أمر لا يرجع إلى ميزة خاصة فى الاستبداد نفسه، بل إلى روح العصر الذى تحققت فيه، حيث كان الاستبداد يعم أرجاء المعمورة ولم تكن فكرة الحرية قد نضجت فى التاريخ بعد، وبالتالى لم يكن المسلمون متخلفين عن مسارها قياسا إلى غيرهم، بينما تميزوا عليهم بقوة دفع الدين الجديد الذى منح الجماعة المسلمة حيوية حضارية كبرى طيلة دورة تاريخية كاملة، حتى إذا ما استُنفدت تلك الاندفاعة الكبرى، وآلت حركتها إلى الركود شيئا فشيئا، كان ذلك بمثابة الانقلاب الجذرى فى دورة التاريخ العربى.
وهنا تكمن المفارقة التى تفسر كيف أمكن للخليفة معاوية أن ينجز مصلحة الأمة بالاستبداد فى بداية تاريخها، وكيف أوقعها صدام حسين فريسة لغيرها من الأمم بفعل الاستبداد نفسه فى حاضر زمانها.. إنها الأبنية التاريخية وقد تغير منطق عملها بفعل أثير الحرية، الذى كان غائبا عن كل العصور قبل الحديثة، ولكنه استمر غائبا كذلك عن الزمن العربى الحديث، وبغيابه استمر الأسلوب القديم فى صياغة الشرعية، أو لنقل فى تجاوز مسألة الشرعية حتى وصلت الثقافة السياسية العربية إلى القرن العشرين مرهقة، قابلة لنموذج المستبد العادل الذى كان الإمام محمد عبده قد أومأ إليه، متنازلا عن الحرية طلباً للعدل. غير أن التاريخ كله، وهنا تكمن المشكلة، لم يشهد ذلك التزاوج السلس بين الإستبداد والعدل. فقد يأتى مستبد عادل فعلا، ويكون عهده زاخرا بالرخاء حقا، ولكنه يبقى صدفة رائعة لا تتكرر كثيرا. أما الإستبداد نفسه فهو بنية معقدة، تقود إلى الفساد والترهل والركود، وهكذا يعجز الحاكم المستبد، ولو كان عادلا، عن إقامة مجتمع عادل، بفعل قيدين أساسيين:
الأول: يتعلق بطبيعة المجتمع الحديث، الموسوم بالاتساع الكبير والقائم على التخصص وتقسيم العمل، بحيث يصعب على الحاكم الفرد ممارسة عدله على كامل نطاق دولته، فطاقته الإنسانية محدودة، وقدرته على المتابعة ضئيلة. كما يصعب عليه فهم كل الظواهر المحيطة به، لشدة تخصصها. ومن ثم فهو إما غير قادر على رؤية كل شىء بنفسه، وإما أنه غير قادر على فهم حقيقة كل ما يراه. وفى الحالين يكون مضطرا للإستعانة بآخرين، إما لينقلوا إليه ما لم يره بنفسه وهم (رجال السياسة والإدارة) أو ليحللوا له ما استغلق عليه فهمه وهم (رجال العلم والمعرفة). وهكذا يتحول هؤلاء الرجال من الصنفين، إلى حكام حقيقيين سرعان ما يصطبغون بالبيئة السياسية التى يعملون فى سياقها: فهى إما بيئة حرية وسيادة قانون، تجعل منهم نخبة حاكمة جيدة، خشية عقاب القانون ورقابة البرلمان، وسطوة الإعلام، وضغوط الصحافة.. وإما بيئة تسلط وفساد، يتحولون فيها إلى بطانة سوء، وجماعة مصلحة، لا تتنافس مع آخرين للفوز بالسلطة، بل تجد السلطة فى يدها، كثمرة يانعة، تقبض على زمامها بسهولة لتدبر بها منافعها.
أما الثانى فيتعلق بالطبيعة الإنسانية المحدودة بالزمن، فالحاكم مهما كان صحيح البدن له عمر لا يستطيع تجاوزه، وعندها يرثه آخرون غالبا ما يكون استبدادهم أمرا مؤكدا، وعدلهم أمرا استثنائيا.. وهكذا يعطينا التاريخ درسه، كاشفا لنا عن حكمته.. أن المستبد العادل محض صدفة سعيدة قد تواتى بعض المجتمعات، يستحيل انتظارها. أما العدل فقيمة كبرى يتعين على المجتمعات تأسيسها، كى تبقى سيدة لنفسها، مالكة لمصيرها، عصية على الغواية والخداع.. ولعل حكمة التاريخ هذه هى غاية "الدولة المدنية" الحديثة، حيث القواعد الواضحة تنظم عمل الحاكم والمحكوم، والقوانين الصارمة تضبط المسافة بينهما على المقياس الصحيح.. إنها الدولة التى نسعى هنا إلى استجلاء حقيقتها، بهدف استعادتها من قبضة الدولة الدينية التى صارت ترقص حولها، على امتداد الخرائط العربية، رقصة شيطان يسعى لالتهامها، بذريعة علمانيتها، التى لا ننفيها بل نؤكد عليها، وبتهمة مجافاتها لشمولية الإسلام، والتى نتصدى لها، عبر تمييز ضرورى بين علمنة السياسة التى لا تحول دون شمولية الإسلام الوجودية، وبين علمنة الوجود التى لا تبقى دورا للإسلام أو أية رؤية روحانية للوجود..
تاريخية السلطة أم إسلامية الدولة
لكل دين عبقريته الخاصة فى البحث عن معنى أو قيمة كلية تحقق وجوده فى التاريخ. قد تنبع تلك العبقرية من التحديات التى يواجهها، أو الغايات التى يستهدفها، أو الدور التاريخى المنوط به. ولأن المشروع الإسلامى هو محاولة لخلاص التاريخ من الانحطاط والفوضى الحتمية التى تنجم عن غياب قوانين العدالة والمساواة، كان للسياسة أهميتها المبدئية فى الإسلام. ومن ثم كانت الدولة، كآلية لتنظيم المجتمع وإدارته، محورية فيه. غير أن شكل هذه الدولة، ومصدر شرعيتها، وكيفية عملها، جميعها أمور لم تحدد بوضوح فى النص الإسلامى المركزى (القرآن الكريم)، ولم يتوفر حولها الإجماع فى التجربة التاريخية المؤسسة/ الراشدة، الأمر الذى جعل الشأن السياسى فى الإسلام أكثر المجالات إشكالية فيما يتعلق بقضية التجديد والاجتهاد، الحاكمية والتقليد. ولعل هذا هو موضع الخلاف بين التيار العقلانى فى الفكر العربى الإسلامى، الذى يضع الدولة فى عهدة الاجتماع البشرى، باعتبار أن جل المجتمعات الإنسانية أقامت لنفسها سلطات جد مختلفة تقوم على أمورها بمجرد أن تجاوزت حال البداوة، وعلاقات العشيرة، وبين التيار السلفى بتجلياته المختلفة، والذى يضع الدولة فى عهدة الشرع، بحيث يقتضى وجود مجتمع مسلم قيام سلطة سياسية مائزة، ذات سمات متعالية على التاريخ، وبالأخص عندما يتصور هذا التيار فى التراث السياسى ملامح (خلافة دينية) يعتقد فى إمكانية استعادتها كترجمة لما يدعونه ب(الحاكمية الإلهية)، على حساب الدولة العصرية (المدنية) التى تجسد، فى اعتقادهم، حاكمية الإنسان غير الشرعية على الأرض، وهو أمر يرد عليه تحفظان أساسيان:
الأول: أن قضية الحكم أو (الإمامة الكبرى) لا تصنف ضمن العقائد، التى يكون معيار الخلاف فيها هو الإيمان والكفر، بل ضمن الفروع التى تتعدد فيها الاجتهادات، ويكون معيار الاختلاف فيها هو الصواب والخطأ، وفى الأول أجران وفى الثانى أجر، حتى إن الإمام الغزالى نفسه، ممثلا للمدرسة الأشعرية المحافظة، قد أكد أنها ليست من المهمات، وليست من فن المعقولات، بل من الفقهيات (الفروع)، حيث إن أصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله، وبرسله، وباليوم الآخر، وما عداها فروع. ومن ثم فإن الخطأ فى أصل الإمامة وشروطها وما يتعلق بها، لا يوجب التكفير.
وتكاد تتفق الفرق الكلامية الإسلامية، على وجوب (الإمامة)، وعلى أنها فرض كفائى يلزم الناس جميعاً والتخلف عنه يجعل الجميع آثمين. غير أن هذه الفرق تختلف كثيرا فيمن تجب له ولاية أمور المسلمين، فأهل السنة يردونه إلى إجماع الصحابة عليه فأصبح سنة تحتذى وفرضاً واجباً مصدره الشرع. أما المعتزلة فيردونه إلى العقل الذى سبق إلى إدراك ضرورة الإمامة/ الدولة، بينما جاء الشرع مؤيداً له، لأن من ضرورة الاجتماع التنازع لازدحام الأغراض، فما لم يكن هناك حاكم وازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر وانقطاعهم، مع أن حفظ النوع هو من مقاصد الشرع الضرورية، بينما ذهب بعضهم، كالجاحظ، إلى أنها واجبه عقلاً وشرعاً دون تفاوت فى الزمن أو المرتبة.
وحدهم الشيعة هم من يردون الإمامة الكبرى إلى النص، أو الوجوب الإلهي، مع ما يترتب على ذلك من العصمة والكمال. وقد حصروه فى آل البيت، فلا يتم الإيمان إلا به، إذ يتفقون، بحسب ابن خلدون، على أنها ليست من المصالح العامة التى تفوض إلى نظر الأمة، بل هى ركن الدين وقاعدة الإسلام، فلا يجوز لنبى تفويضه إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين إمام لها، يكون معصوماً من الكبائر والصغائر. وأن عليا رضى الله عنه هو الذى عينه صلوات الله وسلامه عليه"، استنادا إلى نصوص تنقسم إلى جلى مثل قوله (صلى الله عليه وسلم) (من كنت مولاه فعلى مولاه)، وخفى من قبيل بعث الرسول (صلى الله عليه وسلم) عليا لقراءة سورة براءة فى الحج حين أنزلت". وكان هذا الاستناد الشيعى إلى النص، من أهم الأسباب التى أورثت الخلافة طابعاً دينياً وأضفت عليها قداسة غير قائمة لا على وجه الشريعة، ولا على وجه الحقيقة.
والتحفظ الثانى: هو أن حاكمية الإنسان على الأرض مفوضة له، باعتباره الطرف الثانى فى عهد استخلاف يمثل الله طرفه الأول، ما يسمح للإنسان بتأسيس سلطته الزمنية على اجتماعه البشرى، كمجال لفاعليته وحضوره الواعى فى التاريخ. وهى حاكمية غير منكرة طالما ظلت خاضعة لسنن الله فى الكون. فإذا ما تحررت من بنود عهد الاستخلاف صارت مُنكَرة إذ تخضع الاجتماع البشرى هنا لنزعات دنيوية بحتة، وتصورات أخلاقية غالبا ما تكسر حاجز الفطرة/ الطبيعة الإنسانية. ومن ثم تعنى الحاكمية الإلهية مرجعية المنظومة القيمية الإلهية، ولكنها لا تفرض حضورا سياسيا مائزاً لسلطة بعينها، ذات سمات قدسية، تقوم على تطبيق تلك المنظومة القيمية، ولدينا على ذلك، دليلين، أحدهما نظرى والآخر تاريخي:
فنظريا يبقى الإنسان متدينا ولو عاش منفردا لأن الإيمان اعتقاد فردى، وطالما خلا الدين من الكهانة فإنه يصبح قادرا على البقاء دون سلطة وتلك فضيلة إسلامية. ولو أننا تصورنا مجتمعا مثاليا يحكم الناس فيه ضمائرهم فقط، لن نكون بحاجة إلى سلطة من الأساس، فالسلطة مطلوبة لتنظيم حركة المجتمع، وفرض سيادة القانون حتى لا يحدث التنازع، أو تثور الفوضى، وليست مطلوبة للتحكم بضمير المؤمن، أو فرض الإسلام على المنكرين. وقد عاشت الأقليات الدينية فى كثير من المجتمعات، وضمنها مجتمعات إسلامية، محافظة على إيمانها. بل أكثر من ذلك نجد أن المتدينين بعقيدة ما يصبحون أكثر تمسكا بها إذا ما تعرضوا للاضطهاد الدينى، والمسلمون أنفسهم فى المرحلة المكية، قبل تكوين مجتمع/ دولة المدينة، لا يخرجون على هذه القاعدة.
وتاريخيا تعددت التطبيقات التى جسدت مفهوم الدولة فى التجربة الإسلامية الباكرة، والتى لا يمكن اعتبار إحداها هى الصحيحة وتخطئة ما عداها. فقد جسدت دولة المدينة سياقاً تاريخيا جمع بين النبوة والحكم، وكان على رأسها رسول يستلهم الوحى الذى يوجهه ويعاتبه، بقدر ما كان يوجب على المؤمنين طاعته، وهذا بالطبع ما لا يتأتى لأى دولة أخرى، حيث انتهت هذه الدولة الفريدة بموت النبى الذى لم يكن حاكماً بقدر ما كان رسولا، وقاضيا. وبعد وفاته لم تكن هناك تقاليد (شرعية) لاختيار خلفائه (الراشدين)، ولا تقاليد (دائمة) لانتقال السلطة إليهم، حيث تولى كل منهم الخلافة فى ظل ملابسات سياسية مغايرة لسابقه. فقد رأينا كيف بايع عمر أبا بكر فى اجتماع السقيفة. وكيف اختار أبو بكر عمرا، فبايعه المسلمون. وقبل وفاته رشح الفاروق ستة من كبار الصحابة ليختار المسلمون من بينهم، فاختاروا عثمان بن عفان، فكانت الفتنة التى أودت به. ولما تولى الإمام على وقعت فتنة معاوية، الذى خرج على الإمام وحاربه حتى انتصر عليه بالخديعة، ليقبض على الحكم محولا الخلافة إلى ملك عضوض. ومع يزيد بن معاوية بات التحول كاملا، وعاصفا نحو الملك الوراثى الذى جمع بين أدوات الإستبداد ومظاهر الظلم رغم النجاح الأموى ثم العباسى فى حركة الفتوح، وفى توسيع رقعة الدولة إلى آفاق إمبراطورية. غير أن هذا الملك الوراثى قد تحول منذ العصر العباسى الثانى إلى نموذج قروسطوى كامل فى الحكم جرى وصفه ب(السلطة الرعوية)، وجوهره أن تقوم فئة ما لها تميزها الخاص بأداء الوظيفة الأمنية حيث تقوم بحماية المجتمع والذود عنه، وفى المقابل تتحكم فى سلطته السياسية وغالباً فى موارده الاقتصادية. وقد حدث ذلك مع تدهور الحكم العباسي، حيث أخذت السلطة السياسية تنفصل تدريجياً عن المجتمع العربى المتمدين وترتبط فى المقابل بالعناصر التركية التى شكلت شيئاً فشيئاً، نخبة عسكرية حاكمة. وهنا ساد فقه رجعى متحالف مع نخبة الحكم القبلية ثم الرعوية المنتمية إلى غير جذور عربية، والتى فرطت فى العدل الذى هو أساس الملك وعاشت على الجباية، وقمعت الاجتهاد فذبل نور العلم ثم مشعل الحضارة، بعد أن وُأدت الشورى على أيدى فقهاء برروا (السلطان الغشوم) بالخوف من (فتنة قد تدوم) حتى جعلوا ستين عاما طوالاً من سلطان جائر أهون على الأمة من (ليلة بلا سلطان).
فى هذا السياق أفلت العالم العربى من قبضة المد الديمقراطى الذى فاض على التاريخ الحديث فى موجات عدة: أولاها وضعت أسس الحداثة السياسية فى نهاية القرن الثامن عشر من خلال الثورتين الفرنسية والأمريكية. وثانيتها أنضجت تلك المثل فى معظم أرجاء أوروبا فى الثلث الثانى للقرن التاسع عشر. وثالثتها التى أعادت صوغ العالم عقب الحرب العالمية الثانية. أما رابعتها فهى التى هبت على العالم بنهاية الحرب الباردة فى العقد الأخير من القرن الماضى، لتقتلع معظم النظم الشمولية سواء الإيديولوجية ضمن الكتلة الشيوعية المهترئة، أو التسلطية الفجة المهيمنة على بلدان العالم الثالث، تلك القائمة على النظم الأبوية والعسكرية، وتمدد الجيش فى الحياة المدنية. وهنا أخذ الكثيرون داخل العالم العربى، وخارجه يتحدثون عن الاستعصاء الديمقراطى العربي، أى استمرار العالم العربى خارج إطار التحول فى التاريخ العالمي، الأمر الذى يكشف عن حاجتنا إلى قراءة عصرية، حية ومستقبلية، لتجربة الحكم وظاهرة السلطة فى المجتمعات العربية المعاصرة، تجمع بين جوهر الرؤية الإسلامية للوجود، وبين معطيات الحرية الإنسانية المتنامية فى التاريخ، وتزيل التناقض المزمن بين المقولتين اللتين طالما تصارعتا على وجودنا السياسي: مقولة الشمولية الإسلامية التى يتمحور حولها دعاة الدولة الدينية. ومقولة العلمانية السياسية التى يلتف حولها دعاة الدولة المدنية.
شمولية الإسلام .. وجودية لا سياسية
يتأسس الإدعاء بالدولة الدينية أو (دولة الشريعة) على مفهوم "شمولية الإسلام"، أو لعله يمثل استنتاجا متعسفا من مقدمة صحيحة. أما المقدمة فهى أن الإسلام دين شامل وهذا ما لا خلاف عليه. وأما النتيجة المتعسفة فهى أن الدين يكون شاملا فقط عندما يتحدث فى كل شىء، ولا يسكت عن أى شىء، وعندما يطرح كل الأسئلة ويقدم كل الإجابات، وهو ما نخالفه تماما، فالدين يكون شاملا حقا عندما يصمت عن التفاصيل، ويتسامى على الوقائع المتغيرة، ولا يطرح إجابات إلا على الأسئلة الوجودية الكبرى حول البدايات والنهايات، والمثل والغايات، والمصائر النهائية. وفى المقابل يتوقف عن طرح الأسئلة العلمية عن الكيف، والعملية عن الوسائل، فما يراد له أن يكون شاملا لابد له أن يكون عاما، ينشد المبادئ المؤسسة، ويصمت عن وسائل وكيفيات إنزالها على دنيا الناس.
ولعل هذا الطريق هو ما سلكه الإسلام فكان حقا دينا شاملا، إذ لم يدع لنفسه خصوصية سياسية تبرر القول ب(إسلامية الدولة) وإن وجدت دوما غايات ومثل عليا لمباشرة السلطة السياسية كالعدل والشورى وزهد الحاكم، يمكن القول بأنها إسلامية، إذ تتعلق بتمكين الإنسان من العمران، وزيادة الخير العام، أو تحقيق العدالة والمساواة وتحرير الإرادة الإنسانية من القهر والسيطرة كى تتمكن من حرية الاختيار المبرر للحساب. تلك الغايات والمثل إنما تنبع من شمولية الإسلام "الوجودية" وانشغاله بالمصير الإنسانى، ومن ثم تستعصى على التغير، فقيمة كالعدل لم تتراجع أهميتها منذ بداية التاريخ بل ازدادت. أما قيمة الشورى فلم تتوار قيمتها بل تعمقت. وأما زهد الحاكم فلم يذبل دوره بل تنامى بفعل تعدد أبواب الفساد حوله، على نحو ما رأينا وسمعنا فى كل العصور. أما عالم الناس فمتغير بالضرورة، ولذا فإن الآليات المطلوبة لإنزال تلك المثل والغايات على وقائعه، لابد أن تتبدل، لزيادة قدرتها على تحقيق التناغم والانسجام مع طبيعة وحركة المجتمع.
ففى دولة المدينة اليونانية، مثلا، كان ممكنا جمع رجالها الأحرار فقط، دون العبيد والنساء ناهيك عن الأطفال، باعتبارهم المواطنين، فى ميدان عام للتشاور واتخاذ القرارات الكبرى. ولم تبعد دولة المدينة المنورة كثيرا عن دولة المدينة اليونانية وإن اختلف السياق، ولذا كانت الشورى أمرا ممكنا. أما اليوم، فى ظل التقدم الصناعى، والنمو السكانى، والاتساع الجغرافى ناهيك عن سيادة النزعة الإنسانية والأفكار المساواتية التى أنهت ظاهرة العبودية، ومنحت النساء حقوق المواطنة كاملة، فقد صارت الديمقراطية الأثينية، كالشورى الإسلامية، أمرا مستحيلا، وصار البديل الأكثر منطقية يتمثل فى الديمقراطية التمثيلية، والتى يتم من خلالها اجتماع الشعب عبر نوابه تحت قبة برلمانية بديلة عن ميدان أثينا وعن صحن مكة أو المسجد النبوى، للتشاور واتخاذ القرارات الحاكمة.
ولعل الأمر المؤكد، طالما كان التاريخ مفتوحا، أن هذا النمط التمثيلى نفسه ليس نهائيا، والأغلب أن يشهد هو نفسه تحولات عديدة مستقبلا، فطريقة التصويت أخذت فى التغير الآن، وإن جزئيا، بفعل التطورات التكنولوجية. وربما ساعدت هذه التطورات مستقبلا، حال تسارعها وتراكمها، على إنتاج أشكال جديدة للحكم تتجاوز النظرية التمثيلية، ربما فى اتجاه العودة إلى الديمقراطية المباشرة ولكن بصورة جديدة تتفق وبنية المجتمعات الكبيرة، من دون أن يعنى ذلك تغييرا فى الغايات الأساسية والمثل العليا للحكم الرشيد، التى كانت قائمة فى الماضى، ولا تزال صالحة للحاضر والمستقبل كالعدالة والحرية والمساواة. فبينما تمثل النظرية السياسية الديمقراطية، كآليات تنافس وإجراءات ممارسة، جزءا من "التقنية/ المعرفة السياسية" المتغيرة بطبيعتها، تعكس هذه المثل والغايات جوهر "الرؤية الأخلاقية للوجود"، والتى هى مجال عمل الدين عموما، ومدار انشغال الإسلام خصوصا.
وعلى هذا تقودنا القراءة النقدية للنص الإسلامى إلى القول بغياب أى نظرية إسلامية فى (المعرفة السياسية)، تحتكر وصف (الشرعية)، فمثل تلك النظرية كانت تقتضى التفصيل فى أمور عديدة، وتقديم حزمة من المقولات الفرعية حول طبيعة السلطة وكيفية تشكيلها، وأشكال العلاقة بين فروعها، وكيفية تحقيق التوازن بين تلك الفروع، وكيفية ممارسة الرقابة عليها.. إنها أسئلة الكيف التى تشكل ما نسميه بالتقنية السياسية التى تتحدث عنها تفصيلا النظريات الحديثة فى الحكم.
بل يمكن الإدعاء بأن تلك النظرية التقنية قد غابت كذلك عن الفقه الإسلامى نفسه، والذى توقفت عملية تشكيله التاريخى قبل قرون عديدة من بروز مفهوم الدولة بالمعنى الحديث، وهو التطور الذى كان يتطلب فقهاً سياسياً بديلاً للفقه القديم الذى تشكل حول مفهوم الجماعة المسلمة وليس مفهوم الدولة الوطنية، بما يتضمنه ذلك من إعلاء لقيم العدل، والمصلحة على قيمة الحرية الفردية والصراع الطبقى، وغيرها من المفاهيم التى تشكل الثقافة السياسية المعاصرة. فالدولة تكاد لا توجد فى الفقة السياسى الإسلامى الذى يُنظَِر للجماعة المسلمة الممتدة عبر جغرافيا واسعة تتوقف فقط عندما تصطدم بآخر غير مسلم. أما التجسدات الأولية لها من قبيل: الولاية والإمارة والسلطنة، فوجدت واقعياً فى التاريخ الإسلامى، مثلما اتخذت دلالة سلبية فى سياقه؛ إذ اعتبرت عمليات انشطارية للدولة الأم كان الاعتراف بها اضطراريا.. إما تحت وطأة الجغرافيا نتيجة لتباعد المسافات وتباين الظروف، وإما تحت وطأة الصراع السياسى الذى أدى إلى انقسام وانشطار العديد من الأطراف عن المراكز السياسية والحضارية حول دمشق وبغداد والقاهرة على وجه الخصوص. فنحو عام 332ه، أى فى بداية القرن الرابع الهجرى، ومنتصف القرن العاشر الميلادى لم يكن تحت السيطرة المباشرة لخليفة بغداد المتقى بالله إبراهيم بن المقتدر سوى منطقة بغداد نفسها حيث أخذت عدة دول/ أقاليم تصعد سياسيا، وتحقق استقلالها الرسمى أو الفعلى كالإخشيدية فى مصر والشام، والفاطمية فى المغرب وشمال أفريقيا ثم فى مصر بعد وقت غير طويل، والبويهية فى فارس بينما كانت الأندلس فى يد عبد الرحمن الناصر، والسامانية فى خراسان ودولة القرامطة فى البحرين وفى اليمامة.
وبينما كانت هذه الانشطارات بحاجة إلى فقه جديد يواكبها، فقد حدث العكس حيث تم إغلاق باب الاجتهاد كنتيجة لتراجع الروح السمحة التى جسدتها الثقافة الإسلامية المركزية أمام الثقافات المحلية للأقاليم، والتى كانت جد متمايزة بين ثراء الحضارات القديمة كمصر، وفارس، وبين فقر الصحراء كاليمامة والبحرين، ولكن جميعها اشتركت فى التشبع بروح الاستبداد. وهكذا غاب أى فكر سياسى حديث قادر على التعاطى مع مفاهيم مثل: الدولة القومية والنزعة الفردية والحرية والطبقة والرقابة والمسئولية. وفى المقابل استمر الفكر السياسى التقليدى يبحث فى شروط البيعة ومواصفات الإمام، مفترضا وجود جماعة مسلمة موحدة، يغطى تجانسها الدينى على كافة التقسيمات الجغرافية والتناقضات الاجتماعية والطبقية والنفسية الناجمة عن طبيعة الأبنية التاريخية فى العالم الحديث.
نعم يقدم القرآن الكريم قيما ومثلا عليا للممارسة السياسية، كالشورى والزهد والعدل، وجدت تجسيدها فى العصر النبوى وبداية عصر الراشدين خصوصا الحقبة المؤسسة للفاروق عمر، ولكنها أخذت فى التدهور نسبيا مع الخليفة الثالث عثمان بن عفان خصوصا على صعيد العدل بميله النسبى إلى ترقية بنى أمية، ثم بعد ذلك على صعيد الشورى مع ولاية معاوية الأموى، ثم ابنه يزيد. وهنا يكمن الالتباس العميق لدى كثيرين بين فقدان (المثل العليا للحكم فى الإسلام)، وبين فقدان ما يتصوره البعض (دولة الإسلام الشرعية)، فما حدث فى التاريخ ابتعادا عن تجارب الحكم الإيجابية والفعالة (الراشدة)، والذى يبكى العقل السلفى على أنقاضها، لم يكن تنازلا عن (الخلافة الشرعية) ولا إهدارا لنظرية الإسلام السياسية، بل تدهورا فى قدرة الحكام المسلمين، على تجسيد هذه المثل، بفعل التخلف الحضارى والاستبداد السياسي، وهى مثل خالدة رغم ذلك، تبقى بانتظار من يجسدها عبر أى جسد سياسى، فالمهم إذن فى الإسلام ليس شكل الدولة، لأنه أمر تاريخي، بل المثل العليا الإسلامية المتجاوزة للتاريخ، والقادرة دوما على إلهامه.
ولعل الفارق الجوهرى هنا بين مفهوم "السلطة" كنتاج تاريخى للاجتماع البشرى وإن اهتدت بالمثل العليا الإسلامية، وبين مفهوم "الخلافة" كنموذج (شرعى) متعين للدولة الإسلامية، إنما يكمن فى مصدر الشرعية وهل هو الناس/ الشعب/ الأمة كوجود حى قادر على تقرير مصيره فى التاريخ، أو هو الشريعة نفسها. فإذا كانت الأمة هى مصدر شرعية الاجتماع السياسى فى عالم الإسلام، كأى اجتماع آخر، وظلت الشريعة بمثابة الأصل القيمى/ المرجعى الذى يشى بإسلاميته، تتصالح الدولة الحديثة كمعطى تاريخى مع مفهوم السلطة كمطلب شرعى وتنحل الإشكالية، فيستطيع المسلمون آنذاك إقامة سلطتهم الضرورية على أمورهم فى كل مرحلة تاريخية، شرط أن تقوم هذه السلطة، أيا كان شكلها، أو كيفية تشكيلها، على حفظ المقاصد العليا للشريعة. وهنا يبقى الإسلام محققا شموله الوجودى للدين والدنيا، ولكنه يصير علمانيا بالمعنى السياسى، متصالحا تماما مع التاريخ الإنسانى.
وأما القول بأن الشريعة هى مصدر الشرعية وليس الأمة، فيفتح الباب تلقائيا بعد خطوة واحدة أو اثنتين على الدولة الدينية، لأن الشريعة لا تفصل ولا تمارس إلا من خلال بشر. وهنا ينمو الكهنوت السياسى عبر تأويلات واختزالات متتالية فى خضم الإجابة على أسئلة من قبيل: من الذى يستقى جوهر الشريعة من النص القرآنى؟. وإذا كانت الإجابة الجاهزة هى أهل الحل والعقد يبقى السؤال.. ولكن من الذى يختارهم أو يحدد صفاتهم فى كل عصر؟ وكيف يتفقون إذا ما اجتمعوا وهم قد اختلفوا إلى درجة التقاتل فى عصر الصحابة، فما بالك بزماننا المفرط فى أنانيته. وإذا ما اختلفوا فإلى من يحتكمون لحسم الخلاف بينهم؟.. وهل هناك من هو أكثر فقها منهم ليكون مرجعا لهم يقرر مصير خلافاتهم؟ وهل هم مقتنعون بعلو قامته كى يطيعوا أمره أو حكمه فيهم؟.. وهكذا أسئلة. وحتى إذا كان اتفاقهم ممكنا بعد هذا كله حول ما نزل فيه نص فكيف يكون الأمر فيم أتى به الزمان من معطيات ووقائع جديدة.. هل يحتكمون فيها إلى أولى الاختصاص لتقرير مصالح الناس، أم يهدرون المصالح على مذبح الشريعة، فإذا ما أهدروا المصالح يكونون قد أهدروا الإسلام لأن الإسلام ليس إلا المسلمين فى النهاية. وإذا لجأوا إلى المختصين فى كل أمر حياتى خارج عن أصول الشرع ففيم يكون جوهر حاجتنا إليهم، وما الفارق الموضوعى الذى يميزهم هنا عن سلطة الأمة "المدنية"، التى يختارها الناس بطريقتهم، ويعزلونها بطريقتهم، حسبما يتيحه لهم زمانهم؟.
لعل الفارق هنا لصالح سلطة الأمة التى تتوافر لها فضائل ثلاث أساسية قياسا إلى سلطة أهل الحل والعقد: الأولى كونها اختيار بشر، ومن ثم فهم يستحقونها إذا كانت خيرا جزاء يقظتهم، أو شرا عقابا على غفلتهم، تكريسا لحرية الإرادة الإنسانية. والثانية أنها قابلة للتغيير من دون خشية الوقوع فى الإثم أو الاتهام بالكفر، ما يحفز ديناميكية الفعل ورغبة التأثير فى التاريخ. والثالثة أنها لا تسىء إلى الشريعة فيما لو أساء الناس الاختيار، حيث يبقى الإسلام بريئا من غفلتنا، ومشيئة الله متسامية على فسادنا، فلا تستحيل شرعية المقدس غطاء لخطايا التاريخ.
علمانية الإسلام .. سياسية لا وجودية
ندعى هنا بأن المجتمع الإسلامى قد تحرك باتجاه نوع من العلمنة السياسية منذ نهاية حكم الراشدين على أقصى تقدير، فلم تكن هناك أى مؤسسة دينية مهيمنة سياسيا، ذات طابع هيراركى يثير الرغبة الحارقة فى نفى تسلطها، بل على العكس بدت السياسة مهيمنة على فهم الدين، وفاعلة فى أغلب الصراعات التى دارت آنذاك بين المذاهب الفقهية بل وأنتجت الفرق الكلامية. ولعل ما قام به الخليفة المأمون إبان محنة خلق القرآن، مثلا، من قهر للإمام أحمد بن حنبل لصالح التيار المعتزلى، لم يكن ليفترق كثيرا عما قام به قبل ذلك الإمبراطور قسطنطين ضد القديس آريوس بسبب الخلاف حول طبيعة السيد المسيح، لصالح القديس إثناسيوس السكندرى مع فارق زمنى أقل بنحو القرن لصالح الإسلام بين وقوع كلا الحدثين وبين رحيل رأس الديانة (عيسى المسيح، ومحمد بن عبد الله)، ما يؤكد أن الإسلام لم يكن مانعا لصيرورة العلمنة السياسية.
ولأن مفهوم العلمانية يحمل فى الفضاء العربى سمعة سيئة، تكاد تربطه بالإلحاد، إلى درجة جعلته ثقيلا على اللسان، قابضا للقلب، مستفزا لعموم الناس، كما دفعت البعض إلى استبداله أو التغطية عليه بمصطلح الدولة المدنية، فلابد من وقفة تحرر المفهوم وتكشف عن جذوره وتحولاته، باعتباره أحد المفاهيم الأساسية لإعادة صياغة العلاقة بين الدين والدنيا، تجاوزا للاستبداد القروسطوى الذى صاغه التحالف المشين بين الكنيسة الكاثوليكية والإقطاع الأوروبى، وفى سياقه تم قمع الحرية الإنسانية بسلطة الخلاص الكنسية، وممارسة الإستبداد بقوة ادعاءات الحق الإلهى المقدس فى حكم الشعوب.
لقد نمى مفهوم العلمانية فى سياق حركة الإصلاح الدينى، وتم تقنينه فى صلح وستفاليا الذى أنتج مفهوم الدولة القومية، واستقر تماما بسطوع فلسفة التنوير، ونضوج تجربة الحداثة، مثلما ترسخ واقعيا بفعل الثورة الفرنسية. ولأن التنوير الذى كرس لتجربة الحداثة لم يكن صيغة واحدة بل صيغ عدة، تباينت بين القرائح الثقافية من رؤية يعقوبية أحادية معادية للدين فى فرنسا الكاثوليكية، إلى رؤية مثالية متصالحة معه فى ألمانيا البروتستانتية، إلى رؤية إنجليزية متكافلة معه إلى الدرجة التى جعلت رأس الكنيسة الإنجليكانية هو نفسه رأس المملكة البريطانية.. ولأن الحداثة نفسها لم تنضج فجأة أو تكتمل نهائيا فى لحظة بذاتها بل تجسد صيرورة تاريخية ممتدة، فإن أشكال العلمانية المتولدة عنها قد تباينت على مر القرون. وعلى سبيل الإجمال، وربما التبسيط غير المخل، يمكن القول بأن للعلمانية مستويين أساسيين:
الأول هو ما كان د. عبد الوهاب المسيرى قد ألمح إليه باعتباره "العلمانية الجزئية"، ولكننا نفضل تسميته ب"العلمانية السياسية" كونه أكثر مباشرة فى التعبير، ووضوحا فى الدلالة على مستوى من العلمنة يقتصر على الفضاء السياسي، ويعكس المثل السياسية للحداثة، النازعة إلى تكريس الحرية الفردية والديمقراطية السياسية عبر القرون الأربع الأخيرة. أما الثانى فهو ما كان د. المسيرى قد أشار إليه باعتباره "العلمانية الشاملة" ونفضل تسميته ب"العلمانية الوجودية" للدوافع نفسها، ويعكس مستوى من العلمنة لا يتعلق بكيفية تنظيم المجال العام، ولا يخضع لأدوات عمل الدولة، بل من يتولد من قلب المجتمعات نفسها، ويتطور تلقائيا بتأثير توالى الثورات العلمية وارتقاء الأدوات التكنولوجية، والنظم الإدارية التى تنتهجها فى إدارة العلاقة بين أطرافها ومكوناتها.
تسعى العلمانية السياسية فقط إلى دفع الدين إلى حيز الوجود الفردى بعيدا عن المجال العام، من دون رغبة فى اقتلاعه من الوجدان الشخصى طالما لم يسع إلى تحدى النظام السياسي، فغايتها الأساسية نفى التسلط باسم الدين، والتصدى لمقولة الحق الإلهى المقدس فى حكم الشعوب. أما العلمانية الوجودية فتسعى، من دون إعلان عن ذلك، وأحيانا من دون وعى به، إلى نفى الدين من الوجدان الفردى والوجود الاجتماعى، والدفع به إلى أكثر المواقع هامشية فلا تنحيه فقط عن التدخل فى نظم كالاقتصاد والسياسة، بل تحرمه أيضا من دوره فى صوغ نظم القيم السائدة، التى طالما عبرت عن نفسها اجتماعيا فى قوانين الزواج والطلاق، وأنماط العيش المختلفة.
نتجت العلمانية السياسية عن التصورات الباكرة لمستقبل الدين فى المجتمعات الصناعية، كما تتجذر فى فلسفات الحداثة المثالية والنقدية، التى جسدت تيار التنوير الروحى، وتحدثت عن التجاوز الضرورى لمركزية الدين (فقط مركزيته) فى التاريخ الإنساني، وذلك على طريق عقلنة الظواهر الطبيعية بإخضاعها للعلم التجريبى، وعقلنة الظاهرة السياسية، بإخضاع المجال العام لإدارة محترفة تديره بما هو سياسي. أما العلمانية الوجودى فتنمو فى مجتمعات الما بعد (ما بعد الصناعة، ما بعد الحداثة.. الخ)، كما تتجذر فى فلسفات التنوير المادية التى صاغت التصورات العدمية لمستقبل الدين، عندما تحدثت عن تجاوز (الدين نفسه) إذ لم تتصوره نتاجا لوحى إلهى متعال، بل نتاجا لخوف إنسانى غريزى من الطبيعة، أو جهل معرفى بقوانينها، أو شعور بالاغتراب فى فضائها الواسع، فما أن يتجاوز الإنسان جهله عبر العلم التجريبى الحديث، وخوفه عبر التنظيم المدنى المعاصر، واغترابه عبر التقدم التكنولوجى الهائل، فسيتجاوز بالضرورة حاجته إلى الدين، الذى لا يعطيه سوى وهم زائف على حد قول فرويد، ولا يمثل له سوى أفيون مخدر على نحو ما ذهب ماركس.
وفى هذا السياق نتبين عمق التباين بين مستويى العلمنة هذين: فالأول منهما يمثل ضرورة لأى مجتمع ديمقراطى، لا تقوم للحرية قائمة فى غيابه، إذ يخاطب الفضاء السياسى وحده، وهدفه الرئيسى هو تحرير الإرادة الإنسانية من الكهانة الدينية التى تطرح نفسها بالضرورة عبر الهياكل الصريحة للعصور الوسطى الأوروبية، وإنما عبر صيغ مغايرة على منوال تلك المضمنة فى التصورات الرجعية لأطراف الإسلام السياسى الذين يحاكمون الشأن السياسى بمعايير الحلال والحرام، أو يبررون تصويتا معينا باسم الكفر والإيمان، وغيرها من عمليات تزوير الوعى وتدنيس المقدس. أما الثانى فيسعى إلى فك الارتباط بين الإنسان وبين المقدس، بحيث تتراجع منظومة القيم الروحية لصالح أخرى متطرفة فى ماديتها، وفى نسبيتها، يتحول الإنسان معها إلى مشرع لنفسه، فيصير الخير ما يراه هو خيرا والشر ما يراه شرا. وهنا قد تكثر التشريعات المتحررة من قيود الفطرة الإنسانية كرفض إعدام القاتل، مع أن القصاص هو الطريق الوحيد لشفاء روح ولى الدم، وتوقيف دائرة الثأر، ومن ثم منع الإفساد فى الأرض. أو تنمو أخلاق "ما بعد الطبيعية"، كالشذوذ الجنسى على سبيل المثال، والتى صارت تسمى بالمثلية الجنسية، على سبيل التهذيب أو الأنسنة، فطالما استقرت إرادة طرفى العلاقة على ممارستها صارت خيرا، من دون نظرة واسعة تضع الخير العام فى الاعتبار، حيث يفسد الكون كله إذا ما سادت هذه الأخلاق ضد الطبيعية، ولكنها الوضعية المتطرفة القاصرة عن الخير الكونى العام الذى ترعاه الحكمة الإلهية.
حسب هذا الفهم ندعى بأن الإسلام لا يقبل فقط بالعلمانية السياسية، بل ينطوى عليها بدئيا. وفى المقابل يرفض العلمانية الوجودية التى تنال من الرؤية الإيمانية للوجود. غير أن علمانية الإسلام السياسية التى كشفت عنها تجارب المسلمين عبر التاريخ، ليست هى العلمانية الحديثة الموشاة بالليبرالية والديمقراطية، بل صور بدائية منها، هى التى سمح التطور التاريخى بوجودها آنذاك. وعلى هذا فإن تطويع الإسلام للقيم الديمقراطية المعاصرة كفن حديث لإدارة المجتمعات الإنسانية لا يبدو فقط أمرا ممكنا بل يمكن اعتباره مطلبا دينيا أيضا؛ فكل فكرة تُمكن الإنسان من ممارسة أكثر إبداعية لعهد استخلافه على الأرض، هى فكرة إسلامية بالضرورة. وهكذا تصير علمانية الإسلام السياسية موقفا وسطيا بين موقفين متطرفين:
أولهما هو موقف التيار القائل بحاكمية الشريعة، والذى يضعها فى يد نخبة بذاتها تحتكرها، وتفرض وصايتها على الناس بحجة أنها الأقدر على تفسير نصوصها كما كانت (الكنيسة) أو الأكثر عصمة فى الحديث باسمها كما كان (البابا)، وهو أمر يرفضه الإسلام. فكما أن من حق كل مسلم صحيح أن يقرأ القرآن ويفسره إذا امتلك مؤهلات ذلك، يكون من حق كل جماعة أن تمارس السلطة بتفويض منا نحن حسب إبداعية برامجها فى مواجهة أزمات واقعنا، وشرط حضورنا التاريخى. وإذا كان الفقيه المجتهد يبقى قابلاً للوقوع فى الخطأ فيصيب أجراً واحدا ويحرم من الثانى، فإن سلطة الأمة تبقى معرضة للفساد، ولكن تبقى فضيلتها الأساسية كامنة فى خلوها من القداسة على نحو يسمح بمراجعتها وإعادة توجيهها. وكما أننا نستطيع أن نرفض اجتهاد فقيه من دون أن يكون قادراً على الادعاء بامتلاكه الحقيقة المطلقة، فإننا نستطيع كذلك تغيير السلطة الحاكمة من دون وقوف عند أى ادعاء بامتلاكها شرعية مقدسة.
وثانيهما هو موقف القائلين بعلمنة الوجود لا السياسة فقط، حيث يتمزق الجسر الرابط بين الأصل الإلهى والوجود الإنسانى، وتهيمن نزعة دنيوية بحتة متحررة من أى مرجعية أخلاقية، ونازعة إلى تحرير عالم الشهادة من متطلبات عالم الغيب، كما تنعكس فى النزعات المادية المتطرفة داخل تجربة الحداثة الغربية. هذا الموقف قد يقود إلى الدولة التنين بتعبير توماس هوبز، أو الدولة المطلقة حسب هيجل، والمشترك الذى يجمع بينهما أن الدولة تصبح مرجعية ذاتها، وأن قيمها وغاياتها، التى قامت هى بتحديدها، تمثل المحور الذى يجب على الجميع الدوران حوله، والتحرك فى فلكه، لأن التماهى مع هذه الدولة هو الطريق الوحيد إلى تصالح كل فرد مع الآخرين، ومع نفسه أيضا، إذ لا حرية لفرد، إلا فى سيادة الدولة.
وعلى هذا النحو، فإن علمانية الإسلام السياسية تمثل قيدا مزدوجا سواء على النزعات الأكثر انحرافا لدى السلطة القائمة، والتى قد ترتدى ثياب الكهانة، أو على الرغبات الأكثر دنيوية لدى الإنسان والتى تكتسى أحيانا بصبغة ميتافيزيقية تفوق الميتافيزيقا الدينية نفسها، على النحو الذى تمثله إيديولوجيا السوق الحرة، والرأسمالية المنفلتة من كل قيد، حتى من قبضة الدولة التى زرعتها وأنمتها، باتجاه صياغة وعى نفعى يحتكر الثروة العالمية لصالح قلة من البشر، بما يسببه ذلك من ألم إنسانى عميق تجسده الأزمات المالية المتوالية، وتعكسه صور ضحاياها المتبطلين، والمفلسين، المتحركين إلى أسفل خط الفقر بفعل أخطاء لم يرتكبوها أصلا. وهكذا يستطيع الإسلام انطلاقا من علمانيته السياسية (المعتدلة) الإسهام فى تقديم نقد أخلاقى لمسيرة الحداثة السياسية، على طريق الانعتاق من كوابيس السلطة الدينية القروسطوية، وسطوة الدولة التنين المدعية بالحق الإلهي، وقبضة فساد وول ستريت وغيرها من البنيات التى تعكس مدى تفسخ دولة العقد الاجتماعى فى صورتها المعولمة، ليصبح الإسلام بذلك أحد مصادر تصحيح المسيرة الإنسانية المتأرجحة على طريق التقدم، فيما تمثل دعوى الحاكمية السياسية للشريعة، ونقيضتها القائلة بالعلمنة المطلقة للوجود، عقبتين كبريين على هذا الطريق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.