هل عقد المؤتمر الدولى الرابع والعشرين ل «الجمعيات الفلسفية الناطقة باللغة الفرنسية» فى الفترة من 27 أغسطس إلى أول سبتمبر من عام 2002 بجامعة نيس صوفيا- أنتيبوليس على علاقة بأحداث 11 سبتمبر التى دمرت مركز التجارة العالمى من قِبل نفر من الأصوليين الاسلاميين؟ والذى يدفعنى إلى هذا التساؤل هو أن الأصولية الاسلامية تُهمل العقل، وتكتفى بالحس وترادف بينه وبين العقل بناء على تعليمات من ابن تيمية الفقيه من القرن الثالث عشر وما بعده حتى القرن العشرين بحكم تحكمه فى الوهابية من القرن الثامن عشر إلى الاخوان المسلمين من القرن العشرين. والسؤال اذن: هل كانت الأصولية الاسلامية هى الدافع الخفى وراء اختيار قضية ذلك المؤتمر عن «مستقبل العقل». وفى صياغة أوضح: هل العقل، مع بداية القرن الحادى والعشرين، يدخل فى أزمة؟ واذا كان الجواب بالإيجاب فما هى هذه الأزمة؟ فى مفتتح الجلسة الأولى من المؤتمر أثيرت العلاقة بين العقل والدوجماطيقية، أو بالأدق بين العقل وتوهم امتلاك الحقيقة المطلقة. إلا أن هذه الإثارة لم تكن تهدف إلى إنكار هذه العلاقة، إنما إلى تبريرها فى إطار ما هو موجود فى العلم من معارف أولية ترقى إلى مستوى الدوجما، أى إلى مستوى المطلق. ومع ذلك فان هذه المعارف ذاتها كانت فى حالة مراجعة متواصلة من أجل إخضاعها للنقد وتغييرها إن لزم الأمر، ومن ثم فان العقل وهو يسقط فى هوة الدوجماطيقية قادر على الخروج منها. ومن هنا تكمن أهمية البحث المعنون «العقلانية والدوجماطيقية» لفيلسوف فرنسى اسمه جيل جاستونجرانجيه. يعَرف الدوجماطيقية بأنها أحد أساليب الفكر الذى يبرر وجود مبادئ وقواعد لا علاقة لها بأحوال تطبيقاتها لأن الدوجماطيقية تملك إرادة فرضها على الآخرين. ومع ذلك فان الدوجماطيقية ذاتها بحكم جمودها قابلة، فى الأغلب الأعم، للإصابة بالفشل لأنها تكبل العقل بالضرورة، والبحث العلمى قيمته فى العقل. اذن ثمة تناقض بين الدوجماطيقية والعقلانية، ولكنه ليس تناقضاً بمعنى إقصاء أحد الطرفين وإبقاء الآخر، إنما هو تناقض رخو بمعنى اقرار التناقض بين الطرفين مع محاولة إزالته بإبداع طرف ثالث يؤلف بين الطرفين المتناقضين. وفى نهاية المطاف تبقى العقلانية دون إزاحة الدوجماطيقية، ومن ثم يمكن القول بأن الابداع يولد من ذلك التناقض الرخو، وبالتالى تصبح الدوجماطيقية ظرفاً عارضاً دون أن تكون دائمة. والسؤال اذن: كيف تكون الدوجماطيقية فى العلم ظرفاً طارئاً؟ جواب جرانيه أن ذلك مردود إلى أن العلم يستند إلى مبادئ تكون هى نقطة البداية دون أن تكون نقطة نهاية. مثال ذلك: ما حدث فى هندسة أقليدس فى القرن التاسع عشر. كانت هذه الهندسة تزهو بأن دوجماطيقيتها، أى يقينها المطلق، لم تهتز لمدة ألفى عام، ومع ذلك فهذا الزهو قد توارى بعد أن اكتشف علماء الهندسة أن ثمة تصوراً للمكان مغايرا لتصور هندسة اقليدس وهو المكان المنحنى فى الفضاء بالإضافة إلى المكان المسطح على الأرض. ومن هنا تأسست هندسة أخرى اسمها الهندسة اللااقليدية يكون فيها مجموع زوايا المثلث أكبر من قائمتين أو أقل، وأنه من نقطة خارج خط مستقيم يمكن رسم أكثر من خط موازٍ. وكان من شأن ذلك أن اكتفينا بالمصادرات دون البديهيات لأن تعريف المصادرة أنها قضية ليست واضحة بذاتها وليس فى الامكان البرهنة على صحتها. و معنى ذلك أن المصادرة تخلو من اليقين المطلق. أما تعريف البديهية من حيث هى قضية واضحة بذاتها وليست فى حاجة إلى برهان فإنها فى هذه الحالة تتميز باليقين المطلق وهذا ممتنع بحكم تطور العلم. وقد ترتب على هذه المقارنة بين المصادرة والبديهية الغاء البديهية، أى الغاء اليقين المطلق، والاكتفاء بالمصادرة لأنها خالية من ذلك اليقين. ويمكنك بعد ذلك أن تقول عن الفيزياء ما قلناه عن الهندسة.فقد استمتعت ميكانيكا نيوتن باليقين المطلق لمدة ثلاثة قرون بحكم استنادها إلى أن كلا من الزمان والمكان مطلق. ثم جاء أينشتين ودلل على أن كلا من الزمان والمكان نسبي. والرأى عندى أنه ليس فى الامكان الحديث عن مستقبل العقل من غير الحديث عن مستقبل الحضارة. والحضارة، فى أصل نشأتها، مردودة إلى عقل مبدع كان قادراً على تغيير البيئة من بيئة غير زراعية إلى بيئة زراعية، ومن ثم قيل عن الحضارة إنها زراعية. ثم تطورت إلى حضارة صناعية ومن بعدها إلى حضارة الكترونية بفضل احالتها اللغة اللفظية إلى لغة رمزية. وكان من شأن هذه الحضارة الرمزية الالكترونية أن أسهمت فى تمكن عقل الانسان من الانطلاق نحو الفضاء الكونى بحيث يمكن أن يقال عنه إنه عقل كونى فى إمكانه تمثل الكون فى بُعده «الزمكاني» باعتبار أن الزمان هو البُعد الرابع للمكان. ومن شأن هذا التمثل أن يسمح للإنسان برؤية الأحداث قبل أن تقع فتزول غربة العقل عن الكون. إلا أن الأصولية تقف عائقاً إزاء زوال هذه الغربة بحكم أنها تريد العودة إلى ما قبل الحضارة الصناعية التى فى رأيها أنها حضارة مريضة. لمزيد من مقالات مراد وهبة