فى عام 1918 أرسل فرويد خطابا إلى أحد أصدقائه جاء فيه هذا السؤال: «بالمناسبة وبهدوء، لماذا لم يخترع أحد المؤمنين التحليل النفسى؟». وفى عام 1927 قال فرويد لأحد تلاميذه: هل التحليل النفسى فى ذاته يفضى بالضرورة إلى التحرر من الدين؟ وفى عام 1928 أرسل فرويد خطابا إلى الأميرة مارى بونابرت وردت فيه هذه العبارة «أنت على حق، فثمة خطر من شيوع التيارات المضادة للتدين بين المثقفين. وأنا على قناعة بذلك عندما لاحظت ردود الفعل على كتابى المعنون «مستقبل ،وهم (1928) حيث جاء فيه أن المستقبل للعلم وليس للدين». فى هذه الخطابات الثلاثة ثمة سؤال كامن فى حاجة إلى جواب: هل كان اختراع فرويد للتحليل النفسى سببا فى إلحاده أم أن إلحاده كان السبب فى اختراعه للتحليل النفسى؟ لقد برأته ابنته أناَ فرويد من تهمة الإلحاد ولكنها لم تبرئه من أن التحليل النفسى علم يهودى. أما حفيده هارى فقد قال عنه إنه لم يكن ملحدا إنما كان ضد المعتقدات المنغلقة على ذاتها وضد الطقوس والشعائر الدينية. والسؤال بعد ذلك: ماذا كان رأى فرويد؟ أستعين فى الجواب عن هذا السؤال بكتاب عنوانه الرئيسى «يهودى ملحد» وعنوانه الفرعى «فرويد والإلحاد واختراع التحليل النفسى» ( 1986) لمؤلِفه بيتر جراى أستاذ التاريخ بجامعة ييل بأمريكا. كان فرويد يقول إنه ملتزم برؤية كونية علمية لا تتوقف عن التطور. ومن هنا أولاً كان يقول عن التحليل النفسى إنه أدى دوراً لافتاً للانتباه فى نقد الرؤية الكونية الدينية. إنه لم يكن فى ذلك ماركسياً ومع ذلك كان يقول عن ماركس إنه كان على حق عندما أعلن أن نقد الدين يأتى فى الصدارة إذا قورن بأى نقد أيا كان، وأن عقله هو الله، وأن دارون يأتى فى مقدمة القديسين المعاصرين. ومن هنا ثانيا كان يصف نفسه بأنه مؤمن ب «التقدم» وبأن العلم هو المصدر الوحيد للحكمة. ومن هنا ثالثا قيل عن فرويد إنه استوعب كل متطلبات التنوير فى القرن الثامن عشر من حيث المصطلحات ومن حيث الأفكار. ولهذا قيل عنه إنه آخر فلاسفة التنوير. وتأسيسا على ذلك يمكن القول إن الداروينية والفرويدية قد أدت كل منهما دوراً فى إضعاف منافسة الدين للعلم. ولكن مع بداية القرن الحادى والعشرين وأحداث 11/9 بزغت الأصوليات الدينية بإرهابها إلى الحد الذى انتهيتُ فيه إلى القول إن الإرهاب أعلى مراحل الأصوليات الدينية. وإذا كان الإرهاب ينطوى على قنابل بشرية انتحارية فالموت أصبح فى الصدارة ومستخفاً بحق الإنسان فى الحياة. والمفارقة هنا أن كتاب فرويد المعنون «الحضارة وبؤسها» يمكن أن يكون تبريرا للإرهاب الأصولى. كيف؟ إن الفكرة المحورية فى هذا الكتاب تدور على التناقض الحاد بين متطلبات الغريزة والقيود المكبلة للحضارة. فثمة محرمات مضادة للحضارة ومهمة الحضارة إبعادها. وإذا لم توفق الحضارة فى ذلك فإنها تكون مسئولة عن مرضها نفسيا بسبب عجزها عن تلبية متطلبات الغريزة الجنسية، الأمر الذى يستلزم ضرورة كبتها. والأنا الأعلى أو ما يسمى الضمير هو الذى يمارس عملية الكبت إلى الحد الذى فيه يعانى الإنسان الإحساس بالذنب إذا لم يمارس ذلك الكبت. ويختتم فرويد كتابه بهذه الفقرة: «إن السؤال المحورى الذى ينشغل به الجنس البشرى هو على النحو الآتى: إلى أى حد يمكن للتطور الثقافى أن يكون متحكما فى غريزة الموت، أى فى تدمير الذات؟ فى سياق هذا السؤال يمكن القول إن الإنسان قد تمكن من التحكم فى قوى الطبيعة إلى الحد الذى أصبح فيه بفضل هذه القوى قادراً على افناء الإنسان لأخيه الإنسان حتى لا يبقى أى إنسان على كوكب الأرض. والإنسان على وعى بهذا المصير ومن هنا إحساسه بالقلق والتعاسة. ولكن من المتوقع أن غريزة الحب (الايروس باللغة اليونانية) ستبذل قصارى جهدها فى تأكيد ذاتها فى صراعها مع عدوها الأبدى «الثاناتوس». ولا أحد فى إمكانه التنبؤ بانتصار أى منهما. ومن هذه الزاوية يمكن القول إن الصراع القادم فى القرن الحادى والعشرين لن يكون صراعا بين العلم والدين أو بين الإلحاد والإيمان إنما سيكون صراعا بين الأصوليات الدينية والحضارة الإنسانية فى إطار الصراع بين الثاناتوس والايروس. ويترتب على ذلك أن يتوارى حوار الأديان أو حوار الحضارات أو حتى حوار الثقافات. وتصبح المهمة الجوهرية للبشرية كيفية القضاء على الإرهاب الأصولى أو بالأدق القضاء على الأصوليات الدينية باعتبارها مصدرا للإرهاب استناداً إلى أن هذه الأصوليات تتوهم أنها مالكة للحقيقة المطلقة وبالتالى فإن القضاء عليها لازم للقضاء على الإرهاب. وليس فى الامكان تحقيق ذلك إلا بترياق مضاد وهو العلمانية من حيث إنها نقيض الأصولية. ويبقى بعد ذلك سؤال: إذا قضينا على الأصوليات الدينية ماذا يبقى من الدين؟ يبقى الايمان برسالة دون تحويلها إلى معتقد أو لا يبقى الإيمان من غير اتهام بالإلحاد. والآية القرآنية الكريمة دليل على ما نذهب إليه «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». لمزيد من مقالات مراد وهبة