مات مؤسس التحليل النفسى سيجموند فرويد فى عام 1939، ولكنه مازال حيا ومؤثرا فى قضايا القرن الحادى والعشرين، إذ صدر عنه كتاب لعالم أمريكى اسمه مارك ادموندصن عنوانه الرئيسى «موت سيجموند فرويد» وعنوانه الفرعى «الفاشية والتحليل النفسى وصعود الأصولية». يفتتح كتابه بالعبارة الآتية: فى نهاية خريف 1909 كان فى فيينا بالنمسا رجلان كل منهما يريد تغيير العالم، وكانا فى الوقت نفسه عدوين روحانيين، أحدهما هو فرويد خالق التحليل النفسى والمشهور بإثارة قضايا كانت موضع نزاع فى القرن العشرين. أما الآخر فقد جاء إلى فيينا فقيرا ولكن على أمل أن يكون مهندسا أو فنانا، ولكنه فشل. وقيل عن سبب فشله إنه بلا موهبة، أما هو فكان مصرا على أن يحافظ على «شعلة الحياة» نقية من أى تلوث جنسى. وقيل عنه بسبب ذلك إنه مجنون. هذا الرجل هو أدولف هتلر الذى انتخب رئيسا لألمانيا فى عام 1933. وبمجرد انتخابه بدأ فى اضطهاد فرويد. وقيل عن سبب هذا الاضطهاد أنه مردود إلى أنه يهودى، وإلى أن التحليل النفسى الذى خلقه هو علم يهودى، وأن نظرياته لم تكن صالحة للتطبيق إلا على اليهود. والسؤال إذن: ما هو هذا التحليل النفسى الذى خلقه فرويد؟ فى كتابه المعنون «ال أنا وال هو» (1927) يرى فرويد أن الوعى ليس هو جوهر الحياة النفسية بل ثمة اللاوعى وهو الجزء العميق من هذه الحياة، ووظيفته تكمن فى ممارسة الكبت على ما هو محرم. وفى هذا السياق يقسم فرويد الحياة النفسية ثلاثة أقسام: ال «أنا» وال «هو» وال «الأنا الأعلى». ال «هو» مملوء بالرغبات المكبوتة لأنها محرمة، و «الأنا الأعلى» يمثل السلطة الداخلية المقاوِمة لتذوق هذه الرغبات، و«الأنا» يحاول التوفيق بين ال «هو» و« الأنا الأعلى» ولكن بصعوبة، ولهذا فهو تعس لأن كلا من ال «هو» و«الأنا الأعلى» يعملان خارج وعى «الأنا». ومن هنا فإن حياة الانسان فى صراع، ومن ثم يلزم ضبط هذا الصراع. والمكلف بهذا الضبط زعيم يزعم أنه مالك للحقيقة المطلقة، ومن ثم تشتهيه الجماهير وتخضع له بلا تردد. وقد كان هذا الزعيم فى رأى فرويد هو لينين وموسولينى وهتلر ثم ستالين وماو. وفى هذا السياق تنبأ فرويد بمولد الأصولية الدينية فى القرن العشرين وفى القرن الحادى والعشرين. والسؤال إذن: لماذا؟ لأن فرويد كان يتوقع أن يكون الدين مسألة تخص الفرد دون الدولة، ولم يحدث بل حدث ماهو على الضد من ذلك وهو بزوغ الأصولية الدينية فى قوة جاذبيتها للالتزام بها من غير تساؤل أو تشكك. وكان من شأن ذلك دفع فرويد إلى أن يكون العلم هو البديل، وعندئذ أصدر كتابه المعنون «مستقبل وهمس (1928)، أى بعد عام من صدور كتابه عن «الأنا والهو». والسؤال اذن: أين يكمن الوهم؟ فى رأى الجمهور الاكتفاء بالعلم وَهْم بسبب تغير قوانينه، فما كان قانونا اليوم يصبح كاذبا فى الغد ونضطر بعد ذلك إلى البحث عن قانون جديد. أما فى رأى فرويد فإن تغيير القانون هو من أجل التقدم وليس من أجل التخلف، لأن القانون الجديد يكون أكثر رحابة واتساعا من سابقه بل أكثر اقترابا مما ينشده من كمال. ومن هنا يختتم فرويد كتابه بهذه الفقرة «كلا، فالعلم ليس وهمًا إنما الوهم يكمن فى تصورنا أنه يمكننا الذهاب إلى مجال آخر يعطينا ما يعجز العلم أن يعطينا إياه». والسؤال اذن: ما هو هذا المجال الآخر؟ جواب فرويد على نحو ما يرى مارك إدموندصن هو الدين الأبوى، أى الدين الذى يكون فيه الإله يرمز إلى الأب الطاغى المعبر عن النظام البطريركى، أى عن النظام الأبوى. وهنا يضيف فرويد تحفظا وهو عدم تصور هذا الإله على أنه الإله اليهودى، إذ هذا الإله اختراع مصرى. إنه الإله الذى آمن به أمنحتب الرابع الذى غيَر اسمه إلى إخناتون وأطلق عليه اسم آتون ، وأمر المصريين بعبادته هو وحده ليس إلا، حتى يكون بديلا عن الإله آمون. والسؤال إذن: هل الأصولية كامنة فى الدين منذ البداية؟ الرأى عندى أن الدين فى جوهره رسالة موجهة إلى البشر فمن يقبلها يؤمن بها ومَنْ يرفضها فهو لا يؤمن بها. اذن المسألة فى البداية تقوم فى الإيمان من عدمه. وتبقى بعد ذلك مرحلة تالية وهى إعمال العقل فى الرسالة بعد مرحلة الايمان من أجل فهم مغزى الرسالة. وهذه المرحلة التالية هى المرحلة التى يتحول فيها الايمان إلى معتقد مطلق يلتزم به المؤمن دون أن يُلزم به الآخرين. ولكن إذا تجاوز المؤمن هذا الالتزام فإنه يدخل بالضرورة فى صراع بين مطلقه وأى مطلق آخر. ولكن فى إطار ظاهرة الكوكبية، حيث موت المسافة زمانيا ومكانيا فالمسائل كلها تصبح نسبية، ومن ثم فإن الأصولية تتوارى دون أن يتوارى الايمان. ولكن هل هذا ممكن؟ إذا كان الجواب بالايجاب فهل يدخل هذا الجواب فى تجديد الخطاب الدينى أم فى الثورة الدينية أم فى الثورة الفكرية؟ أظن أن الجواب عن هذا السؤال مرهون بالكشف عن البُعد الفكرى للارهاب، وهذا الكشف هو رسالة المثقفين فى القرن الحادى والعشرين. والسؤال إذن: هل فى الامكان انجاز هذه الرسالة؟ هذا السؤال هو التحدى الموجه إلى المثقفين. لمزيد من مقالات مراد وهبة