عرضنا فى المقال السابق بعض الملاحظات والأفكار التى تخص ملف التعليم قبل الجامعى ولنا عودة أخرى لمناقشة تفاصيل هذا الملف الشائك لكننا فى هذا المقال سوف نتناول بعض الملاحظات المرتبطة بملف التعليم الجامعى والذى يهم ملايين الأسر فى هذا الوطن, فالتعليم الجامعى المصرى على مدار أكثر من 75 عاماً كان المصدر الرئيسى لقوة مصر الناعمة، وكالعديد من مصادر قوتنا اعتراها عوامل ضعف عديدة جعلت من مهمة إصلاحه أمر أساسيا وواجبا إذا اردنا بحق أن نجعل ملف التعليم فى مصر له الريادة والأولوية وهو يستحق ذلك. أولاً: ينظم التعليم الجامعى فى مصر العديد من القوانين من أهمها قانون تنظيم الجامعات الصادر عام 1972 أى منذ ما يقرب من خمسين عاماً وخلال هذه المدة الطويلة طرأت العديد من الحوادث والمتغيرات والظروف التى تجعل هذا القانون لا يتواءم مع بيئة التعليم الجامعى المعاصرة وهو ما أدى الى إجراء العديد من التعديلات على هذا القانون عندما تستجد بعض الأمور فأصبح قانوناً مشوهاً بلا هوية أو رؤية أو فلسفة ... ومع تعاقب وزراء التعليم العالى خلال الثمانى سنوات الأخيرة ( أكثر من ثمانية وزراء) الا اننا لم نشهد محاولات جادة لوضع قانون جديد للتعليم العالى فى مصر يضم شتات العملية التعليمية بمختلف أنواعها والتى تتوزع مابين جامعات حكومية وأخرى خاصة وثالثة أهلية وأخيراً فروع لجامعات أجنبية ... نحن فى حاجة شديدة إلى قانون جديد عصرى مستنير للتعليم العالى له رؤية وفلسفة وأهداف واضحة على أن تتم مراجعته مرة كل 5 سنوات على الأقل حتى نضمن مسايرته للتطورات الحديثة فى مجال التعليم العالى وما أسرعها وتنوعها وقد لاحظت أنه فى معظم الدول المتقدمة تحدث عملية مراجعة للقوانين الهامة التى تؤثر فى حياة الناس مرة كل 5 سنوات على الأقل بهدف بحث امكانية احداث تعديلات على تلك القوانين بحيث تتواكب التشريعات مع مستجدات بيئة العمل فيحقق المجتمع سهولة آداء الخدمات المختلفة بأعلى درجات الكفاءة والفاعلية. ثانيا: تعد مصر من الدول القليلة على مستوى العالم التى تعتمد على مجموع درجات الثانوية العامة كمعيار وحيد للقبول بالجامعات وهذا أمر شديد الغرابة فالنتائج تؤكد صعوبة وجود علاقة ارتباط بين مجموع الثانوية العامة والتفوق فى الدراسة الجامعية ولجأت العديد من الدول (من بينها دول عربية وإفريقية مع الأسف) الى عقد اختبارات تأهيلية لدخول الجامعات بحيث يصبح للطالب مجموع كلى افتراضى يعتمد على نسبة من درجات الثانوية العامة ونسبة أخرى من درجات الامتحان القومى التأهيلى بحيث يلتحق الطالب بالكلية التى تتواءم مع قدراته و مهاراته ونقضى بالتدريج على أسطورة الثانوية العامة ... وهناك فرصة ذهبية حالية فى إطار منظومة التعليم الجديدة والتى يتم تطبيقها العام الدراسى الحالى مما يساعد على مراجعة هذا الموضوع ووضع أسس وقواعد جديدة للالتحاق بالجامعات تتماشى مع ما يحدث فى العالم حتى نحقق الانطلاق الكامل لمواهب وقدرات ابنائنا الطلاب الذين عاشوا سنوات طويلة أسرى مجموع الثانوية العامة وأسرى تقسيم الكليات إلى كليات قمة وكليات متوسطة وكليات قاع، وكذلك أسرى نكتة سخيفة تقول إن الطالب الحاصل على 98% فى الثانوية العامة لهو طالب فاشل لأن كلية الطب لها حد أدنى يبلغ 98.2% !!!. ثالثا: مصر أيضاً من الدول القليلة على مستوى العالم التى بها مكتب تنسيق مركزى ينظم عملية دخول الجامعات ... وأفهم المنطق والأسباب وراء هذا النظام الذى بدأ منذ نحو ستين عاماً ... ولكننا الآن فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين ولدينا ما يقرب من 55 جامعة يعود بعضها إلى 60 و 50 سنة من الخبرة المتراكمة ... لقد آن الأوان أن تضع كل جامعة ( أو قطاع تعليمى)شروط القبول به وعلى الطالب أن يتوجه باوراقه إلى أكثر من جامعة لكى يلتحق بنوع التعليم الذى يرغب فيه ويساعد على ذلك تعدد المعايير والشروط التى يمكن أن تفرضها الجامعات (مجموع الثانوية العامة، درجات الإمتحان التأهيلى، أبحاث علمية تجرى فى مرحلة الدراسة الثانوية ...) بحيث لا يدخل لكليات الطب والهندسة أو التجارة إلا الطلاب الراغبون فى تلك التخصصات ويمتلكون المهارات والقدرات التى تؤهل لذلك ... وإذا كان البعض يتحدث عن عدالة مكتب التنسيق فهى فى رأيى عدالة زائفة غير رشيدة فما هو المنطق من أن الطالب المؤهل لدراسة الطب ولا يستطيع لفقده نصف درجة، بينما هناك طالب آخر يمقت دراسة الطب ولكنه يدخل هذه الكلية لمجرد أن مجموعه يسمح بهذا ولا يريد أن يضيع مكاناً فى كلية القمة ... هل نتحدث عن أوائل الثانوية ودخلوا كليات القمة ... كم منهم من نجح وتألق وأصبح من العلماء وكم منهم انضم الى طابور الخريجين بلا أى تميز أو اضافة ... نظم القبول بالجامعات فى حاجة إلى تغيير وتطوير شامل إذا كنا نريد حقاً أن نلحق بالمستقبل. رابعاً: من الخبرات المشاركة لى كعميد لتجارة عين شمس ورئيس لجامعة عين شمس العريقة لاحظت ملامح الضعف الشديد فى نظم إدارة التعليم العالى فى مصر، فالقصة ليست مقررات وبرامج وأساتذة وطلاب ولكن بالأساس نظام إدارى محكم ومرن يسمح باطلاق الطاقات وربط الجامعات بالصناعة وفك الارتباط المباشر بين الجامعات الحكومية ووزارة المالية من خلال انشاء هيئة عليا مستقلة لتمويل الجامعات الحكومية كما يحدث فى انجلترا والعديد من الدول الأوروبية وغيرها من المؤسسات الواجب انشاؤها لضمان تطبيق قواعد الحوكمة ورفع مستويات الكفاءة والفاعلية لنظم إدارة التعليم العالى ... هذا المجال نحن نفتقده بشدة وكان من الممكن ان نحقق نتائج أفضل فى ملف التعليم العالى اذا تم إنشاء المؤسسات الفنية المؤهلة اللازمة لإدارة منظومة التعليم العالى وهو الأمر الذى فطنت له معظم دول أوروبا منذ نحو 25 عاماً !!!. خامساً: تم اصدار القانون الذى ينظم عملية استضافة فروع لجامعات أجنبية فى مصر على أن يبدأ ذلك بالجامعات الخاصة الجديدة بالعاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة، ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة القانون، ولكن ما أود الإشارة اليه أن معظم الجامعات الأجنبية ذات الاسم والسمعة والترتيب المتميز تفضل دائماً الدخول ببرامج ودرجات علمية محددة وليس ضخ استثمارات وإنشاء فروع، وبالتالى فالموضوع هو شراكة بين الجانب المصرى المسئول عن الاستثمارات و الانشاءات وبين الجانب الأجنبى المسئول عن المقررات والبرامج والدرجات العلمية ... وهذا من الممكن أن يحقق طفرة علمية فى تخصصات مختلفة ويجذب نوعيات معينة من الطلاب أصبحت تتوجه للتعليم فى جامعات أمريكا وكندا وأوروبا ولكن على وزارة التعليم العالى أن تتنبه اننا لا نتعامل مع جامعة خاصة أو أهلية بالمفهوم التقليدى ولكننا نتحدث عن شراكة مصرية أجنبية وهى تجربة حديثة وجديدة على الواقع المصرى فى حاجة ضرورية إلى الرعاية والاهتمام وعلاج المشكلات التى قد تطرأ بمنتهى السرعة و الكفاءة. الأمر يستدعى مناقشة مستفيضة للملاحظات السابقة، وكذلك تحليل تفصيلى لملف التعليم الفنى والذى نؤمن جميعاً بأنه مستقبل مصر الحقيقى وهو ما أتمنى أن اتناوله فى مقالات قادمة. ------------------------------------ رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب