«فى البدء كانت الكلمة» أتى هذا فى أول سطر فى التوراة ثم نزلت على الرسول الكريم فى سورة الرحمن هذه الآيات: «الرحمن علم القرآن. خلق الانسان. علمه البيان» وفى سورة «العلق» قال له تعالي: «اقرأ باسم ربك الذى خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم». تظل القراءة والكتابة هى سبيل الإنسان إلى المعرفة التى هى أساس التنوير. ويبدو أن الدكتور ثروت عكاشة كان مدركا تماما أثر القراءة وسبل المعرفة ولذلك أنشأ «المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر» واختار لرئاستها واحدة من قمم الأدب والثقافة وهى الدكتورة سهير القلماوي، كان ثروت عكاشة يعتبر أن التثقيف هدف قومى ولذلك لم يعتبر الكتاب سلعة تربح المؤسسة من نشره بل اعتبره فى المقام الأول خدمة قومية فترفق بأسعاره بالقراء وزاد من ترفقه فأصدر السلاسل الرخيصة الثمن الكبيرة القيمة مثل «أعلام العرب المسرح العالمى تراث الإنسانية المكتبة الثقافية» كانت أسعار هذه السلاسل تتراوح بين عشرة وخمسة وثلاثة قروش». كانت المؤسسة تقوم بنشر كل تصانيف الكتب، وقامت بنشر كتب التراث العربى التى كانت دار الكتب تنفرد بذلك حيث كانت دار الكتب تنشر أجزاء كتاب الأغانى بسعر الجزء ثلاثين أو خمسة وعشرين قرشا، بينما سعره فى المؤسسة عشرون قرشا، وكذلك صبح الأعشي.. والكثير من كتب التراث التى لها شهرة كبيرة. ولكن الأمر تغير الآن وأصبح يتبع وزارة الثقافة «الهيئة المصرية العامة للكتاب المركز القومى للترجمة دار الكتب «فعمت الفوضى للأسف وتعدت هيئة الكتاب على اختصاصات دار الكتب وأقحمت نفسها فى نشر كتب التراث العربى وأقحمت نفسها أيضا فى نشر الكتب المترجمة مع أن هذا من اختصاص المركز القومى للترجمة. ولم تخل دار الكتب هى الأخرى من الفوضى والتعدى على هيئة الكتاب فقامت بنشر الكتب الحديثة فى كل الموضوعات فى الوقت الذى نحن فى حاجة ضرورية إلى تحقيق ونشر مئات كتب التراث العربى فى شتى المجالات الذى يبرز مدى تميز الحضارة والثقافة العربية فى أوقاتها وفضلهما على العالم أجمع. مع الأخذ فى الاعتبار أن هذه الكتب هى مراجع للباحثين فى الجامعات ولذلك يجب الترفق فى أسعارها فإن دار الكتب هى هيئة خدمية لها أهميتها فى عصر التنوير الذى نريد أن نحققه واعتبار تقديم كتاب التراث خدمة وليست سلعة مع التدقيق فى اختيار من يحققون ومن يكتبون المقدمات لهذه الكتب. فقد قرأت مقدمة لكتاب تهافت التهافت لابن رشد للدكتور محمود إسماعيل. ولا يفوتنا فى نفس الوقت أن نطلب من الدكتور رئيس هيئة الكتاب أن يهتم بإصدار الأعمال الكاملة فى طبعات أنيقة لكبار الكتاب المصريين واصدار طبعات شعبية رخيصة كما يحدث فى الخارج وعلى رئيس هيئة الكتاب أيضا أن يهتم بنشر أعمال المبدعين النابهين من الشباب فى مجال الرواية والقصة القصيرة والمسرحية والشعر. وبمناسبة الشعر فيجب الإقلال من إصدار دواوين الشعر العامى لسوء مستواه والاكتفاء بمن هم فى مستوى بيرم التونسى وصلاح جاهين وفؤاد حداد فقط حتى نرتقى بهذا النوع من الشعر الذى يقحم فيه نفسه كل من هب ودب. كما نوصى بالاهتمام بكتب الفن السينمائى القائمة على البحث العلمى ونشر سيناريوهات الأفلام المتميزة كما يحدث فى الدول المتقدمة فى الفن السينمائى مثل أمريكاوفرنسا وانجلترا وأن تتم كتابة مقدمات لها وتكون على مستوى رفيع يقوم بكتابتها النقاد الحقيقيون الذين درسوا الفن السينمائى حق دراسته. كما نوصى للأهمية الشديدة بإصدار مجلة للفن السينمائى تكون منارة لمن يرغب فى المعرفة السينمائية ويمكن تمويلها بسهولة.ويجب على رئيس الهيئة أن يكون مدركا تمام الإدراك من أن التعليم فى مصر لن يكتمل إلا بوجود الكتاب إلى جواره وليس «التابلت» كما يعتقد وزير التربية والتعليم. ويمكن تعويض تكلفة الكتب عن طريق اخراج آلاف النسخ المكدسة فى مخازن الهيئة من الاصدارات التى مضى عليها زمن. يجب اقامة العديد من المعارض المتخصصة المتنقلة فيكون هناك معرض للكتب الأدبية ومعرض لكتب التاريخ، ومعرض لكتب الفلسفة، ومعرض للكتب العلمية، ومعرض لكتب الفنون بأسعار تكون فى قدرة الجميع كما يجب تغذية المكتبات العامة ومكتبات الكليات ومكتبات المدارس بالأنواع المختلفة من الاصدارات. فى عام 1990 استطاع الدكتور جابر عصفور وهو رجل من رجال التنوير على مستوى العالم العربى أن يقوم هو والوزير الفنان فاروق حسنى بتحقيق حلم المثقفين بإنشاء «المجلس القومى للترجمة» وقد وعد الدكتور جابر عصفور فى أثناء فترة توليه رئاسة هذا المجلس أن يصدر ترجمة ألف كتاب مثلما فعل طه حسين من قبل وأصدر سلسلة الألف كتاب المتنوعة، وحاول سمير سرحان أن يصدر الألف الثانية ولكن القدر لم يمهله. وبعد الدكتور جابر عصفور تولى رئاسة «مجلس القومى للترجمة» عدد من الرؤساء من الصعب ذكرهم إلى أن أتى الدكتور أنور مغيث وهو رجل رفيع الثقافة أستاذ للفلسفة الذى درس فى فرنسا، هذا بالاضافة إلى حماسه لكل جديد ولم ينس الترجمات الرفيعة القديمة لعمالقة الفكر واللغات الأجنبية، ولذلك أعاد إصدارها تحت «ميراث الترجمة» وأبدى حماسه الدائم لترجمة كتب فن السينما ولكن أريد منه الاهتمام بترجمة كتب كبار السينمائيين وروادها مثل إينشتين وبودوفكين وذيجا فيرتوب ورينيه كلير مارسيل مارتان وأندريه بازان وترجمة كتاب «ماهى السينما» هذه المرة كاملا. أحب أن أقول للدكتور أنور مغيث أن يبدأ بترجمة العهود الثقافية فى أوروبا وذلك منذ عصر النهضة وأن تتم ترجمة العصور بأبرز كتابها ومبدعيها بشكل كامل خاصة القرن الثامن عشر المعروف بعصر التنوير حيث الفلاسفة العظام مثل كانث ونيتشه وشوبنهور وفولتير وديدا وجان جاك روسو وغيرهم. ولسنا نرى الآن أى داع لتكرار الترجمات خاصة إذا كانت الترجمات السابقة من الترجمات العظيمة المصحوبة بمقدمات ضافية خاصة بالنسبة للمسرح الاغريقي، ولذلك لم يكن هناك ضرورة بأن تقوم الدكتورة منيرة كروان بإعادة ترجمة أعمال لاسخيلوس وسوفوكليس ديوربيوس فهى لم تأت بجديد ومن الواضح أنها اعتمدت على الترجمات السابقة فليس فى قدرة أى مترجم عن اللغة اليونانية القديمة بترجمة هذا القدر من المسرحيات مع صعوبة هذه اللغة الشعرية كما جاءت المقدمات التى قدمتها للأسف متواضعة ولم تأتى بجديد كما كان يفعل الدكتور لويس عوض وطه حسين وسليم سالم وصقر خفاجة وعبد المعطى شعراوى وحمدى إبراهيم. وكان الأولى بالدكتورة منيرة كروان أن تبذل هذا الجهد فى ترجمة ما لم يتم ترجمته أو ترجمة المسرح الرومانى التراجيدى والكوميدى وخطب شيشرون وباقى مؤلفات هوراس التى لم تترجم وترجمة «ساتيركون» لبترونيوس التى تحولت إلى فيلم أخرجه العظيم فيللينى ويا ليتها تقارن الفيلم بالأصل مثلا أو يقوم غيرها بهذا العمل. لمزيد من مقالات مصطفى محرم