العقوبات الأمريكية ضد روسيا والتى تتواصل منذ ما قبل الأزمة الأوكرانية فى عام 2014 لم تعد تخيف أحدا لا فى روسيا ولا فى خارجها، رغم كل حملات التهويل التى تجتاح الساحة السياسية العالمية. بل وهناك ما يشير إلى احتمالات أن «ينقلب السحر على الساحر» بعد إصرار الإدارة الأمريكية على توسيع جبهة هذه العقوبات التى لم تقتصر على روسيا وكوريا الشمالية، وتجاوزتهما لتشمل اليوم كلا من الصينإيران. ومن هنا، كان ما توقف عنده الكثير من أجهزة الإعلام الروسية من تساؤلات نقلتها عن «واشنطن بوست» بشأن ما أسفرت عنه هذه العقوبات من نتائج، والتى أجابت الصحيفة الأمريكية عليها بقولها إن «العقوبات التى تحولت إلى ما هو أشبه ب«حرب استنزاف»، لم تعد تخيف أحدا فى روسيا». وكان الرئيس فلاديمير بوتين، وكما أشرنا فى أكثر من تقرير من موسكو نجح فى احتواء الكثير من جوانب هذه العقوبات، بما فى ذلك تحويل بعضها إلى سلاح مضاد سرعان ما تحول إلى «قاطرة للتنمية»، فضلا عما أسفرت عنه الضغوط السياسية ضد روسيا وزعيمها من تأجيج للمشاعر الوطنية وتزايد حدة التحدى، والانصراف عن «السلبيات والنواقص»، إلى الاصطفاف وراء سياسات البحث عن البدائل سبيلا إلى تحدى الضغوط الخارجية. وكانت موسكو الرسمية أعلنت عن سلسلة من البدائل والإجراءات الرامية إلى تجاوز العقوبات ومنها ما تعلق بتبنى سياسات الاكتفاء الذاتي، ودعم المواقع المالية للدولة الروسية، والجنوح نحو التحول إلى العملة الوطنية فى التعامل الخارجي، وزيادة احتياطيات الدولة من الذهب، وإنشاء عدد من المناطق الحرة للاستثمار الخارجي. وفى هذا الإطار أعلن دينيس مانتوروف وزير التجارة والصناعة، أن بلاده تنظر فى احتمالات التوجه نحو استخدام العملة الوطنية فى التعامل التجارى مع عدد من البلدان الأجنبية سبيلا إلى مواجهة الموقف الراهن. وكانت موسكو سبق وأعلنت عن موقف مماثل تجاه ضرورة التحول الى هذا النمط فى تعاملاتها التجارية مع كل من مصر والصينوإيران وتركيا، تفاديا للصعوبات الناجمة عن الارتباط بالعملة الأمريكية كوسيط مع شركائها التجاريين الخارجيين. وقال مانتوروف إن العقوبات الأمريكية الجديدة يمكن أن تؤثر على صادرات روسيا إلى الأسواق الخارجية، فيما أشار إلى ضرورة الاستمرار فى البحث عن البدائل التى يجب أن تكون على مثل ذات نوعية وخصائص وارداتها من السلع والمعدات الأجنبية، وبما يمكن معه أن يكون سبيلا إلى التخلى عن تبعيتها لتكنولوجيا البلدان الغربية. ومن المنظور نفسه كشفت روسيا عن نجاحها فى زيادة حجم احتياطاتها من الذهب كسبيل إلى الخروج من «ربقة الدولار» والعملات الأجنبية. وفى هذا الصدد قال ديمترى تولين النائب الأول لرئيس البنك المركزى الروسى إن الذهب هو «ضمان بنسبة 100% من المخاطر الجيوسياسية»، مما قد يفسر تحول روسيا إلى زيادة مشترياتها منه فى الفترة الأخيرة. ونقلت وكالة «بلومبرج»، عن بيانات صندوق النقد الدولي، «إن البنك المركزى الروسى اشترى 26٫1 طن خلال الشهر الماضى ليصل إجمالى احتياطى روسيا من الذهب إلى 2170 طنا»، فى الوقت الذى أعلن فيه البنك المركزى الروسى عن «ان قيمة احتياطات الذهب الروسية بلغت فى مطلع أغسطس الحالى ما يُقدر ب 77٫4 مليار دولار ضمن احتياطات روسيا الدولية، التى بلغت فى ذات التاريخ 458 مليار دولار». وكشفت المصادر الروسية عن أن التوجه نحو زيادة احتياطات الذهب فى روسيا جاء فى توقيت مواكب لتخلى موسكو عن سندات وأذون الخزانة الأمريكية. وكانت روسيا تخلت فى ابريل ومايو من العام الحالى عن قرابة 80% من سنداتها وسط تكهنات بأنها بدأت بالتخلى عن الأصول الأمريكية لحماية نفسها من مخاطر العقوبات، حسب ما نشرته وكالة «بلومبرج» التى نقلت عن جيم ريكاردز مؤلف كتاب «حروب العملات» الشهير اشارته إلى ان توجه روسيا نحو شراء الذهب «يعتبر خطوة ذكية للغاية من جانب بوتين». وفى سياق متصل اعترفت أجهزة المخابرات الغربية بما لحق بمؤسساتها من أضرار من جراء ما جرى إقراره من عقوبات على الصعيد السياسى والدبلوماسي، ومدى ما أصابها من تراجع فى مجالات «الجاسوسية» وجمع المعلومات عن «الداخل الروسي»، بسبب نقص الكوادر وإبعاد ممثليها عن مواقعهم التقليدية، تحت سقف السفارات والبعثات الدبلوماسية نتيجة حملات الطرد الدبلوماسى المتبادل فى عقب حادث تسمم الجاسوس الروسى السابق سيرجى سكريبال. على أن ذلك لا يمكن أن يعنى التقليل من الآثار الضارة التى لحقت بالاقتصاد الروسى من جراء العقوبات، وبالعلاقات الدولية من سلبيات تمثلت فى تراجع التعاون فى مجالات مكافحة الإرهاب الدولى ودعم السلام والأمن والاستقرار فى الكثير من مناطق العالم، وفى مقدمتها الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وذلك ما اعترف به كثيرون من ممثلى مؤسسات صناعة القرار سواء فى كبريات الدول الغربية ومنها ألمانيا وفرنسا، أو داخل أوساط الكونجرس الأمريكي. وكانت الفترة القليلة الماضية شهدت زيارات عدد من أعضاء الكونجرس لموسكو، ما اعتبرته العاصمة الروسية مؤشرا نحو احتمالات التحول بعيدا عن نهج المواجهة والتشدد، وإن تظل التوقعات «شديدة التواضع». ولعل ما يواجهه الرئيس دونالد ترامب من متاعب داخلية، يكشف ضمنا عن تصاعد احتمالات المضى على طريق التصعيد والتشدد، بما قد يسفر عن «الانفجار» سواء على الصعيد الداخلى وبما قد يصل حتى عزل الرئيس الأمريكي، أو الخارجى على صعيد المواجهة «الساخنة» مع روسيا، وهو ما لابد أن يسفر عن تدعيم أكثر لمواقع الرئيس الروسى الذى قد يتحول إلى الرد عملا بمبدأ «المعاملة بالمثل».. لكن فى حدود ما تملكه روسيا، وما قد يتفتق عنه أذهان قياداتها، من أساليب يمكن تتجاوز «الإجراءات الاقتصادية والسياسية»، كما سبق وكشف عن ذلك صراحة ديمترى ميدفيديف.