تتجاوز الذهنية العربية حالة الولع بالماضي، والتى تتخذ صيغا مختلفة من الحنين إلى ما كان، شخوصًا، ومفردات، ومظاهر، على سبيل النوستالجيا الطامحة لاستعادة عالم قديم ورومانسي، إلى أن تصبح تقديسا لهذا الماضى ذاته، وإعلاء مستمرا من تصوراته ومفاهيمه، من زوايا مختلفة، يلعب توظيف المقدس فيها دورا مركزيا فى بث الأفكار التى تتشربها الأجيال المتلاحقة التى تجد تراثها يعلن أن القرون الأولى خير مما تلتها، والتى هى بدورها خير مما تتلوها وهكذا، وبما يصنع حالا من الأفضلية المطلقة لهذا الماضي، والتسليم بكل نتائجه التى آل إليها، مهما حملت من إخفاقات، ومهما حوى الماضى نفسه من مآسٍ وعقبات أسهمت فى بؤس الحاضر ومشكلاته. وهنا يتحول الماضى نفسه إلى أداة للاجترار، ووسيلة لاستعادة ما كان، وبدلا من النظر النقدي، الموضوعى لهذا التراث الماضوي، نجد احتفاء مستمرا به، واستنامة لكل مخرجاته ومفاهيمه، فيبدو الحنين إليه أكبر من كونه حاجة نفسية إلى أن يصبح تعبيرا عن استلاب ذهنى صوب القيم الماضوية ذاتها، بكل ما تحفل به من تغييب للعقل، وإعلاء للنقل، وتكريس للقديم، ومجابهة الجديد. تجتر الذهنية العربية ماضيها، ولا تعرف كيف يمكنها أن توظف الماضى لقراءة الحاضر، ناهيك عن استشراف المستقبل، وربما يعود السبب الرئيسى فى ذلك إلى تعاملها مع الماضى بوصفه مرجعية وحيدة فى النظر إلى العالم، ومركزا للتفكير فى القضايا المختلفة، ومعيارا أساسيا للحكم على الواقع والأشياء، فيصبح الماضى بذلك حكما على الراهن من جهة، ومقياسا أبديا للمستقبل من جهة ثانية. تحتاج الذهنية العربية إلى أن تتعامل مع الماضى على نحو علمي، ومنهجي، عبر تحرير الماضى نفسه من المبالغات الممجوجة، فلا تمجيد بأكثر مما يحتمل العقل، واستخلاص دروس التاريخ باعتبارها حلقة من الحلقات المتراكمة فى الحضارة الإنسانية، وليس باعتبارها إنشاء وعظيا محضا. يجب أن يكون العقل أساسا للحكم على الظواهر والمشكلات والقضايا المختلفة، وعبر هذا الفهم، تتخلص الذهنية العربية من حالة التقديس المتواتر للماضي، بوصفه غاية الغايات، وإنه لمن المفارقات الكبرى أن توجد أمة من الأمم غاية أمانيها الكبرى تتمثل فى استعادة الماضي، والسير على نهجه، وكأن هذا الماضى صيرورة متحولة، وعطاء لا ينفد، وكأن الثبات وليس التغير هو قانون الأشياء، فإذا كان ثمة شيء واحد ثابت فى الحياة فإن هذا الشيء لن يكون سوى التغيير المستمر بحسب الفيلسوف اليونانى هيراقليطس الذى يؤكد المعنى ذاته فى عبارته الشهيرة بأن المرء لا يستطيع أن يخوض فى نفس ماء النهر مرتين، حيث إن الماء يتغير كما أن المرء نفسه يتغير. يبدو اجترار الماضى جزءا من الجمود الفكرى الذى يهيمن على الذهنية العربية، والمشكلة لا تكمن فى فكرة الاجترار ذاتها، قدر ما تكمن فى تفعيل منطق الماضي، واستحضاره المستمر فى معادلة الراهن، وهيمنته على اللحظة الحاضرة بوصفه مقياسا لا يمكن الاستغناء عنه. وفى محنة المكوث فى الماضى تفاعل السياسى مع الثقافي، ولعبت تيارات الإسلام السياسى بتنويعاتها المختلفة دورا مركزيا فى تكريس الولع بالماضى والسير فى عباءته، حيث تستمد الجماعات الإسلامية قيمتها من التمسح بالمقدس، والإيحاء لأنصارهم بالهيمنة المطلقة على فهم التراث وتأويله، ومن ثم جعله حكرا على أفهامهم الخاصة، ومصالحهم الضيقة، ولذا وجدنا تفسيرات لا تمت للعقل بأى صلة، واحتكارا مستمرا للحقيقة، واحتقارا للمعرفة الحقيقية أيضا. لقد أسهمت قوى الإسلام السياسى فى تغييب العقل العربي، وزرع هواجس مستمرة من الريبة والتشكك الدائمين تجاه المنجز الحداثى الغربي، واستسلم العقل العربى لماضيه، باعتباره يحوى كل شيء، ووصل الأمر ببعض الشيوخ إلى اعتبار أن الغرب بإنجازاته العلمية مسخر لنا، فى اختزال مريع لقيم التقدم، ولأسس المنهج العلمي، وفى دعوة للتواكل، وضرب لمعنى التوكل، والعمل، والإنجاز. ستنجو هذه الأمة حقا حين تضع الماضى على طاولة التشريح، فلا ترى فيه خلاصا حتميا، ولا حلا سحريا، وإنما تضعه موضع المراجعة المستمرة، حيث تتغلب قيم العقل النقدي، ويصبح التفكير النقدى عنوانا على فهم دقيق للواقع، وربطه بسياقاته الفائتة، وتحولاته المستقبلية أيضا. وبعد.. إن التلذذ بالمكوث فى الماضي، يبدو وكأنه اضطراب فكرى أصاب الذهنية العربية، فجعلها تحيا الحاضر بمنطق الماضي، وترى الآن وهنا بعين ما كان وانقضى، ومن ثم فلا أمل سوى فى مجاوزة نسق التفكير الماضوى بسياقاته الجاهزة التى تأسست على خيال قديم، ووعى مستسلم لواقعه، والابتعاد بخطوات واسعة عن هذا النفق المأسوي، والخروج لطاقة الاستنارة المحملة بآمال كبرى ومقولات لم تفقد شغفها عن العيش فى عالم حر وجميل، وإنساني، ونبيل، وطليعي، وتقدمي. لمزيد من مقالات ◀ د. يسرى عبد الله