كانت مجموعة من البشر تحفر بدأب أحيانا، وبفتور أحيانا أخرى داخل نفق معتم، وكلما أحسوا بانفراجة ما أمعنوا فى الحفر، وكلما لاح أمل فى ضوء ازداد الصخب، غير أن النفق لم ينته، والضوء لم يدخل، فأوهام الخروج من النفق لم تكن أكثر من أمنيات، أو صراخ لفظي؛ لأن الحفر لم يكن فى الاتجاه الصائب، ورحلة الخروج نفسها كانت رحلة عكسية، ومن ثم صارت ضد الهدف ذاته، وهنا أصبح الأمل عزيزا غاليا. إن رحلة الخروج من كهف الماضي، تمر الآن عبر الماضى ذاته، وهى مفارقة عبثية ومدهشة فى آن؛ لأنها تمر – وباختصار- عبر نقائض المستقبل، وربما يقربنا هذا كثيرا من جملة أينشتاين البليغة: «الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مرة بعد أخرى وتتوقع نتائج مختلفة!»، ومن العبث فى حياتنا الراهنة أننا نسلك الطريق نفسه فى كل مرة ثم نتأهب لبلوغ مناطق جديدة!! فالخطابات التقليدية الجامدة يرد عليها بخطابات تقليدية مماثلة، والخيال القديم يواجه الخيال القديم، وذهنية الموظف تجتاح الثقافة والتعليم والإعلام. وشيوخ التكفير خرجوا من عباءة شيوخ آخرين يوصفون بالاعتدال، فى مفارقة أخري، والبنية المعرفية التى يسيطر عليها القديم والوعى الماضوى الثابت هى المظلة الجامعة للفريقين، ومن ثم يصبح التشدد فى الدرجة، والتطرف منطقا حاكما لهذه الذهنية. والمؤسسات التى يجب أن تخوض دراما الصراع ضد قوى التخلف والرجعية فى مجتمعاتنا تعانى عجزا ظاهرا، فالمؤسسات الدينية لديها حساسية مفرطة تجاه فكرة النقد والمساءلة، مع أن الدين ذاته يحض على التفكر والتدبر الدائمين، والمؤسسة الثقافية خيالها بائس وقديم، وهى غير موجودة فى حيز الصراع ضد الجماعات المتطرفة، فقد فرت من المعركة فى لحظة كان يجب عليها دخولها، واكتفت بالفرجة على ما يحدث، بدلا من أن تطرح خطابا تنويريا بحق، يدرك أزمات واقعه، وحاجات مجتمعه، ويغادر ثقافة الكرنفال إلى ثقافة الفعل، والمؤسسات التعليمية تفتقر مثل الثقافية إلى الرؤية العميقة، النافذة صوب المعني، والدافعة صوب التفكير النقدي، والانتصار لقيم العقل الطليعى فى مقابل ثقافة الركون والاستسلام للماضي، أما المؤسسات الإعلامية فأصبحت نموذجا للعالم الاستهلاكى بخفته وثقافته القشرية ولجوئه إلى التحريض بدلا من التحليل، والمبالغة بدلا من الدقة. يبدو آخر النفق كئيبا ومأسويا، إنه خروج من التاريخ، ويشبه النفق هنا كهفا مسكونا بالقبح والعتامة. أما المفارقة المستمرة فتتمثل فى أن صناع الكهوف وساكنيها يفترض أنهم سيحملون غيرهم إلى النور، حيث بداية الحياة، وأول العالم! لكن هل ثمة ضوء يمكن أن يلوح فى نهاية النفق؟ هذا السؤال هو عين الأزمة وجوابها فى الوقت نفسه، يرتبط الضوء بالحرية، ويرتبط النفق بالظلام، ولذا سيكون بداية الخروج إلى النهار مرهونا بفتح نوافذ أكثر للحرية، تتيح حرية التفكير والبحث والرأى والتعبير وغيرها من الحريات الأساسية، ويجب أن يدعم ذلك منا مستنير، يواجه القبح والخرافة والتصورات الرجعية عن العالم، وما تجلبه لنا من تمييز طائفى وتكريس للتخلف، وتبرير للاستبداد، وركون إلى الميتافيزيقا، وتواطؤ مع أى شيء يحقق المنفعة الخاصة، وفق منطق براجماتى لا يستند إلى فلسفة قدر ما يستند إلى انتهازية حمقاء، حيث نجد جهلاء فى ثياب علمية، ومتثاقفين فى ثياب ثقافية، إنها المعرفة القشرية التى جعلتنا أمام سياق من الأشباه والإنصاف فى كل شىء. وفى هذا السياق الذى يعبر عن تآكل مريع للنخبة، سيكون من الضرورى أن تصبح قيم التقدم غاية، بكل ما تحمله من استنارة وتسامح ونزوع علمى ومنهجي. إن ذهنية الإقصاء والمصادرة، وقمع المخالفين ذهنية ماضوية بامتياز، تخاصم الحاضر وتعاديه، وتتعامل بوصفها تمتلك الحقيقة المطلقة، ومن ثم فهى توظف كل شيء لصالحها، وتقدم نفسها باعتبارها تحمل صكوكا للعالم، وللجنة، وللناس، وتصدر خطابها بالمقدس لترهب من يسمعها، وكأنها تبحث عن وجاهة جديدة فى مجتمعات مملوءة بسلطات عديدة من الموروث إلى العرف إلى الماضي. ويبدو أن النسيان داء مر، ففى غمرة الأحداث المتسارعة، والكفاح اليومى للمصريين، نسى الكل أن هناك شعبا قام بثورتين مجيدتين، إحداهما كانت ضد الاستبداد السياسى والفساد، والثانية كانت ضد الاستبدادين الدينى والسياسى والفساد، وفى كل ثورة، ظن المصريون أنهم خارجون من النفق، ومع كل مرة اعتقد الناس أنهم مقبلون على عالم جديد، ونسى الكل أن الوعى المقيد بالخرافة وتقديس النموذج «الأردوغاني»، والخلافة العثمانية البالية، وإقصاء فكرة الوطن ومعنى المواطنة، لم يزل يهيمن على جانب من العقل العام، وذهنية التكفير والاغتيال المعنوى والمادى للمختلفين لم تزل حاضرة وبقوة. كل ذلك يفضى إلى حتمية أن يتجاور الوعى مع التنمية، ويصبح تحرير العقل والبناء الفكرى والمعرفى للإنسان مقدمات أساسية لبشر طبيعيين، لا يعانون هوس التكفير والقتل واستهداف المجتمع بناسه وحضارته كل صباح. وبعد.. سيكون من الحتمى فى لحظة مفصلية من عمر أمتنا المصرية والعربية والعالم، أن نمتلك خيالا جديدا يمكننا من الخروج من هذا النفق، ومغادرة التصورات القديمة، وملامسة العالم الجديد، فلا شيء سينقذ أمتنا غير تحرير وعى ناسها، وتبصيرهم بواقعهم، وتنوير العقل المصرى والعربى سيبدأ من تفعيل قيم النقد والمساءلة، وخلخلة ثقافة الاستنامة المهيمنة على العقل والمناخ العام، وساعتها فقط سنعثر على ذلك الضوء الذى يحجبه نفق معتم من الخرافات والجهل والقمع وتحالف الفساد والرجعية. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;