تم إعادة فتح التحقيق منذ أسابيع فى جريمة تمت فى باريس منذ أربعين عاما. وهى جريمة اغتيال هنرى كورييل الغامضة فى 4 مايو 1978. كان كورييل يستقل مصعد منزله متجهاً للقاء ما يومها. هبط المصعد وقبل أن يسحب الباب ذا الأقواس الحديدية التى تشبه أغصان الأشجار شاهد رجلا مجهولا ينتظره ويحدق فى عينيه عبر الفراغات. وهكذا أطلق الرصاص من مسدس كاتم للصوت على الشيوعى المصرى المعادى للاستعمار هنرى كورييل. طلقات أردته قتيلا وحيدا داخل كابينة المصعد. كان هنرى كورييل شخصية استثنائية؛ فلقد كان أحد مؤسسى (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى حدتو) وهى التنظيم الشيوعى المصرى الذى حدد واجباته كما يدل عليها اسمه: فهى النضال ضد الاستعمار والاستغلال. انتمى لهذا التنظيم الآلاف وانضمت إلى صفوفه أسماء صارت أعلاما فى التاريخ المصري.. من أحمد حمروش ليوسف صديق ويوسف إدريس وفؤاد حداد وزكى مراد ومحمد الجندى وشحاتة النشار وشريف حتاتة ورفعت السعيد وغيرهم فى كل أوجه الحياة. أتسعت تلك المنظمه بسرعة مذهلة فمن مدرسة الكادر الأولى فى تاريخ الاشتراكيين المصريين لرابطة الباعة الجائلين لجريدة الجماهير وجدت حدتو. وافقت «حدتو» على قرار الأممالمتحدة بتقسيم فلسطين عام 1948 وطالبت بإقامة دولة فلسطينية إلى جوار الدولة اليهودية. وبينما كان الإخوان المسلمون يهاجمون أحياء اليهود فى القاهرة لدفعهم دفعا لمهاجرة مصر والذهاب لإسرائيل كان أبناء حدتو يكونون عصبة اليهود المعادين للصهيونية. وهكذا كانت شعارات الإخوان المسلمين وأفعالهم تخدم خلق الكيان الصهيونى بدفع يهود الشرق للهجرة لإسرائيل، بينما يطالب آخرون بإنشاء دولة فلسطينية. كانت حدتو سباقة ومستوعبة لما هو قادم من أحداث فجابهت عاصفة سياسية لتبنيها هذا الموقف ولكن الزمن أدى الى تبنى شعار الدولة الفلسطينية على أى أراضٍ فلسطينية بعد أن اجتاحت إسرائيل الضفة وغزة عام 1967. ظل هنرى كورييل شيوعيا معاديا للاستعمار. وعندما تم نزع جنسيته المصرية عام 1950 ووضع على قارب مرحلاً من مصر فى عهد الملكية لم يتوقف. كانت السياسة والنضال ضد الاستعمار قد صارا سبب وجوده. ظلت مصر فى حياته، فلعب دوراً واضحا فى تحذير مصر من عدوان 1956. وعندما أيقن أنه لن يعود إلى مصر انهمك فى قضايا التحرر حول العالم فلعب دورا عنيداً فى النضال مع جبهة التحرير الجزائرية أدى إلى اعتقاله فى فرنسا، ثم مع حركات التحرر فى إفريقيا من موزمبيق لأنجولا وجنوب إفريقيا. وقد كرمت الجزائر هنرى كورييل فى حياته لدوره فى تحررها. كان لهنرى كورييل رفاق شاءت ظروف ميلادهم أن يكونوا يهودا كيوسف حزان وشحاتة هارون، لكن حقيقة الأمر أن الدين كان مصادفة فى حياتهم، فلقد كانوا جميعا كشهدى عطية وعبد الخالق محجوب قد قبضوا على برنامج التحرر والعدالة هاديا لهم. كان هنرى كورييل منحازاً بشدة لجمال عبد الناصر، ووسط وهج حركة التحرر الوطنى تمت الدعوة لمؤتمر القارات الثلاث لأخذ حركة التحرر الوطنى لآفاق جديدة عام 1966. كانت الحركة الجديدة برعاية مصرية وكوبية، وكانت تضم فى صفوفها أسماء كبيرة، ومنهم كان هنرى كورييل والمهدى بن بركة المفكر والقائد والزعيم المغربي. فى أكتوبر عام 1965 تم اغتيال المهدى بن بركة المنحاز لعبد الناصر بشكل غامض فى باريس، ولم يعثر له على جثمان. وظلت الألغاز مسربلة بالتساؤلات حتى الآن عمن قتله؟ وما هو دور الجنرال المغربى المخيف أوفقير؟ ومن تستر من فرنسا على الجريمة السياسية. كان اغتيال المهدى بن بركة أحد مقدمات الهجوم الواسع على مصر، والذى بلغ ذروته عام 1967. ومنذ أسابيع وفى ذكرى الاغتيال الغامض لهنرى كورييل، حضر ابن المهدى بن بركة الاحتفال المحدود. تعايش كورييل مع الأخطار، فكان وسط أخطر مناطق السياسة والفعل، ومن تلك كان الصراع العربى الإسرائيلي. ووسط معارك عظام ودماء تسفك ومدن تحطم كانت علاقات هنرى كورييل بجميع الأطراف فى العالم العربى وبالفلسطينيين والإسرائيليين. فكانت تلك بوابة الخطر العظيم والتشكك فيه واتهامه بالعمالة واتهام من يدافع عنه بأن لديه انحرافا صهيونيا. وهكذا فلقد كان الرجل المتجاوز لآفاق الفكر القومى مؤمناً بأن العلاقات المباشرة بين العرب واليهود هى اللجام الوحيد الذى يستطيع كبح جماح الصهيونية وتلافى الحروب التى تخدم إسرائيل والعصابة التى تحكمها، كما كان يقول هو ورفاقه اليهود الشيوعيون المصريون. كان هنرى كورييل مغامرا وذا علاقات واسعة معقدة مع الثوار والمعارضين وحركات التحرر الوطنى تمتد من موسكو لتل أبيب وباريس وبيروت وأم درمان وموزمبيق وجوهانسبرج والقاهرة، وما كان من الممكن لرجل كهذا أن ينتهى نهاية طبيعية. هناك أيضا شهادات لرموز سياسية وأمنية مصرية كبيرة تؤكد انحياز الرجل لمصر فى مرحلة التحرر الوطني، ومن هؤلاء ثروت عكاشة وزير الثقافة الأسبق، وأمين هويدى رئيس المخابرات المصرية. كانت شهادات عظيمة فى مذكراتهم بشأنه وبشأن رفاقه من الشيوعيين المصريين اليهود الذين ظلت مواقعهم فى الصراع ضد الاستعمار واضحة محددة، فلقد حملوا فى طياتهم رؤية للصراع العربى الإسرائيلى تنحاز إلى الفلسطينيين ولكنها ترى أن السعى لسلام بين العرب واليهود هو الطريق الوحيد للمستقبل. فحصار إسرائيل بالسلام جزء من المعركة التاريخية معها وهذا يفسر التهرب الإسرائيلى الدائم. لم يكن لهنرى كورييل أبناء، ولكن له رفاق تتحدد مواقفهم بالنضال ضد الاستعمار.. فتلك كانت قضيته وقضيتهم. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعى