تعب المجداف، ومازالت الأمواج بأمتعة العشاق تسافر. ما كان يسمعه البحر من ترانيم الصخور لم يكن سوى عواء الروح المتعبة التى تبحث عن وطن يحتوى آمالهم وآلامهم. تعال نتجاذب الحديث عن صيف بطعم الشمّام ورائحة المحار.. عن زاجل يعترش قبابا زرقا.. ونورس تحلق فى الغروب فوق السفن الراحلة.. عن ابتسامات فى أحلام الصغار. صيف رحيقه يتجلى لي!.. أقرأ فيه شهوة الموانئ والسفر وليالى السهر.. واستغلال النسمات المسائية الرائعة فى أجواء الصيف للمشى والاسترخاء سواء بالصمت والتأمل أوالتنزه فى المناطق الخضراء. ............................. أقلام مأسورة بعشقه صوّرت لنا ألوان الصيف من خلال الشعر والأدب. قيل فيه مدحًا، فطبعه طبع الشباب الذى هو باكورة الحياة. هناك من أحبّه وانتظره مثل الشاعر اللبنانى إيليا أبو ماضى حين قال: عادَ للأرض مع الصيف صِباها... فهى كالخود التى تمَّت حلاها، صور من خضرة فى نضره ما رآها أحد إلاّ اشتهاها، ذهبُ الشمس على آفاقها وسواد اللّيل مسكٌ فى ثراها. مسترسلاً فى مدحه: ملأ الدنيا رخاء ورفاها ما أحلى الصيف وما أكرمه.. ردّ أحلامى التى الدهر طواها عندما ردّ إلى الأرض الصّبا.. فشفى آلام نفسى وشفاها كنت أشكو مثلما تشكو الضّنى. وهناك من كرهه فاستعجل رحيله مثل أديب نوبل نجيب محفوظ. فمن العادات التى ربما لا يعلمها كثيرون بشأن الراحل عدم كتابته فى فصل الصيف نهائياً لمعاناته من حساسية فى عينه خلال هذا الوقت، وبالتالى كان يحرص على السفر إلى الإسكندرية طوال الصيف ثم يعود بمخزون هائل من الحكايات يكتبها فيما بعد. فيما يلملم الشاعر الفلسطينى محمود درويش نفسه المبعثرة، ليستجمع ذاته المفقودة بسبب صيف كثير التثاؤب.. فيقول فى قصيدته الغائب الحاضر: فراغ فسيح، نحاس، عصافير حنطيَّة اللون.. صفصافَة، كَسَل، أفق مهْمَل.. كالحكايا الكبيرة، أَرض مجعَّدة الوجه.. صَيْف كثير التثاؤب كالكلب فى ظلِّ زيتونة يابس.. عرَق فى الحجار، شمس عمودية. لا حياة ولا موت!.. حول المكان، جفاف كرائحة الضوء فى القمح..لا ماء فى البئر والقلب. والصيف عند طه حسين فصل رخاء واسترخاءٍ ولهو، على عكس الشتاء الذى اعتبره فصل جدٍّ وعمل. هذا ما أكد عليه فى كتاب لغو الصيف وجدّ الشتاء: كنا نلغو أثناء الصيف، فلنجّد أثناء الشتاء، وما الذى كان يمنعنا من اللغو أثناء الصيف، وفى الصيف تهدأ الحياة ويأخذها الكسل من جميع أطرافها فتوشك أن تنام ولا تسير على مهل يشبه الوقوف، وفى أناة تضيق بها النفوس. واقفة على الشاطئ، متسمرة كالوتد، لا تحرك ساكنا، بسمتها المتألق فى تألق الزمرد توارت خلف قضبان الصمت الموحش، عيناها تتأملان البحر المصقول كأنما تتأملان لوحة زيتية لعبقرى شهير، ذائع الصيت! حروف يراودها الشوق.. قناديل معلّقة على سطور الخيال تدفع الشاعرة غادة السمان للكتابة عن هذا الفصل الساحر: حين التقينا كنتُ غجرية بلا مرفأ، وقلبك شاعر جوّال.. فى الصيف أحببتك، حين كانت النجوم تهبط إلى البحر لتستحمّ.. وحين كانت النزهة على سطح القمر أمراً مألوفاً.. وخطوة واحدة تفصل بين الروشة البيروتية والأفلاك.. ما أسهل أن نخطوها حين تكون يدى فى يدك. وإذا كان لكلِّ فصلٍ من الفصول الأربعة خصوصيته عند الشاعر نزار قبانى، إلا فصل الصيف، فهو يراه ذاته كل عام متكررا لا يغير من نفسه شيئا، فيكشف عن كرهه لهذا الفصل فى واحدة من أجمل قصائده المتوحشة/ أحبينى بلا عقد، يقول فيها: وكونى البحر والميناء، كونى الأرض والمنفى.. وكونى الصحو والإعصار، كونى اللين والعنفا.. أحبينى بألف وألف أسلوب ولا تتكررى كالصيف.. إنى أكره الصيفا.. أحبينى وقوليها لأرفض أن تحبينى بلا صوتِ.. وأرفض أن أوارى الحبَّ فى قبر من الصمتِ.. أحبينى، بعيداً عن بلاد القهر والكبتِ، بعيداً عن مدينتنا التى شبعت من الموت. هكذا الحياة شأن فصل الصيف.. ساعات الأمل واليأس كثيرة، والسعادة والألم يتناوبان. لا شك أن لكل كاتب تجربته الشخصية التى عاشها بالواقع ومن خلال قلمه سعى أن ينقلها لنا. يغنى أغنية الحياة بصدق.. يحدّق فى التفاصيل.. يتذكر أفراحها ومنعطفاتها.. صفحات تطوى.. حزن يتلاشى.. ميلاد جديد يأتى كل يوم طوال سنوات العمر.