أتصور قاعة استراحة فى احد الاقسام العلمية فى جامعة عربية والنقاش يدور بين الاساتذة، ثم ينبرى احدهم فيقول (يا جماعة اريد ان اقدم كورسا علميا لطلابى تحت عنوان تعلم أسس السعادة). فى الغالب سوف ينظر الزملاء الى ذلك الاستاذ نظرة متعجبة. طبعا لن ينجح ذلك الاستاذ فى مسعاه، لأن ثقافتنا العربية والأكاديمية لا تهضم مثل تلك الاقتراحات، او التفكير الجدى بشكل عام فى إصلاح المنظومة التعليمية. إلا أنه فى مكان آخر من هذا العالم المتقدم, وافق زملاء أستاذة علم النفس الاربعينية لورى سانتوز من جامعة ييل الامريكية الشهيرة, على الفكرة، وتم إدخال ذلك مقرر علم السعادة، ومع الإعلان عنه، سجل طلاب وطالبات فى ذلك المقرر. بعد فترة تكاثر عدد المسجلين، حتى قامت الاستاذة سانتوز بوضع المقرر على شبكة الإنترنت لمن يريد، فسجل فيه تسعون الف مشترك. علم النفس أصبح علما له قواعد ومنهجية صارمة، ويحمل ابتكارات متناسبة مع تقدم المجتمع، وتغير هياكله الاقتصادية، أو حلا لأزماته. ترى سانتوز أن السعادة إن كنت تظنها فى الحصول على دخل أعلى أو زواج ناجح أو منزل أكبر، أو أى من كل ذلك، فلديك مفهوم خاطئ. سر السعادة هو الصدقية أو الإيمان بالنفس والانسجام مع المجتمع، أن تكون انت، وتنسجم مع الحقائق العامة حولك. فأول خطوة فى تغيير حياتك هى تغيير عقليتك. ثوابت الثقافة حولك تجعلك تفكر وتتصرف بطريقة محددة. انظر الى تصرفك من جديد، فإن جاءك انتقاد من أحد حول سلوك او تعبير او كتابة قمت بها، لا تغضب وتدعى الكمال بل اعتبر ذلك النقد بوابة للتغيير، تقبله وعدًل من سلوكك او مواقفك, عندها تنسجم مع نفسك. المثال الآخر هو شخص يصاب بعاهة ما، كأن يفقد إحدى ساقيه أو يديه او يفقد البصر، فإن بقى يلعن الاسباب التى أوصلته الى ذلك، فسوف يعيش فى كآبة دائمة، أما اذا قرر قبول تلك الإعاقة، والتصرف وكأنها غير موجودة، كمثل تركيب أطراف والدخول فى مسابقات الجرى مثلا، فهو يعيش منسجما مع نفسه، ويكون سعيدا بذلك. السيدة سانتوز أصبح لها تأثير على الناس، بعض طلابها مسحوا من على تليفوناتهم الذكية التطبيقات الاجتماعية، التى كانت تأخذ وقتا طويلا منهم، وتعزلهم عن الآخرين، بدأو يتواصلون مع غيرهم ويشتركون فى ألعاب جماعية. شعبية المادة التى تدرسها سانتوز تظهر أزمة الصحة النفسية لطلاب الجامعات فى امريكا. فى دراسة عام 2017 لثلاثة وستين ألف طالب وطالبة فى الجامعات الأمريكية، وجد أن 39% شعروا فى وقت ما بإحباط وكآبة، الى درجة أعجزتهم عن التصرف بشكل طبيعى فى حياتهم. مثل تلك النتيجة وجدت أيضا بين طلاب الجامعات فى المملكة المتحدة الى درجة أن نسبة المنتحرين من التلاميد الجامعيين وصلت إلى أرقام قياسية فى عام 2014. نشر وليم درسيورج أستاذ اللغة الانجليزية السابق فى جامعة ييل الامريكية كتابا أصبح من افضل الكتب المباعة بعنوان (الخراف الممتازة) يتعرض فيه الى ما يتركه الضغط الأكاديمى التنافسى فى الجامعات الأمريكية الكبرى للمراكز الأولى على الطلاب، وبسبب التخصصات الضيقة، يترك ذلك تشوهات نفسية واجتماعية تفقد الطلاب ثقتهم بنفسهم، ويوصلهم الى إحساس دائم بالخوف وضياع الهدف والعزلة. أزمة الصحة النفسية تتجاوز طلاب الجامعات فى الغرب، وتنتشر بين قطاعات المجتمع المختلفة، وهى الأعلى فى العالم، وقد شهد صرف الأدوية المضادة للاكتئاب تضاعفا يصل الى 400% فى الولاياتالمتحدة. طبعا هناك مخاطرة إن أخذنا فكرة السعادة كعلم الى نهايتها، لأن ذلك يوقع أصحاب المشكلات النفسية فى مأزق أن خروجهم من الأزمة متوقف عليهم. هم فى الحقيقة يحتاجون الى مساعدة من خارج ذواتهم، كما يقلل من مسئولية المؤسسات والثقافة العامة التى تسبب عدم السعادة. يرى بعض المتخصصين أن نجاح دروس السعادة دليل على ان هناك عوارا عميقا فى فلسفة التعليم فى الغرب، ويحتاج الى تغيير جوهرى فى المؤسسات التعليمية الغربية، فى غياب ذلك التعديل الجوهرى سوف تكون دروس السعادة هى ترياق مؤقت لا غير. الموضوع برمته يشير الى المحاولات الجادة التى يفكر فيها التربويون الغربيون لإصلاح التعليم عندهم، أما عندنا فإن كل الصراخ حول إعادة النظر فى مجمل تعليمنا، يذهب هباء منثورا. لمزيد من مقالات ◀ د. محمد الرميحى