كشفت التصريحات الأخيرة التى صدرت عن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، عن تحولات مفاجئة فى ميوله تجاه كل من موسكو وبلدان الاتحاد الأوروبي. فبعد أن سارع فور انتهاء قمة هلسنكى بتكليف مساعده لشئون الأمن القومى جون بولتون بدعوة نظيره الروسى فلاديمير بوتين لزيارة واشنطن فى خريف هذا العام، مؤكدا ثقته الكبيرة فيه، تحول الرئيس ترامب إلى الاتجاه المعاكس ليعلن خطأ مثل هذا الإعلان وقناعته «المطلقة» بمصداقية أجهزة مخابراته. لكن وما إن أعلن بوتين دعوته ترامب لزيارة موسكو، حتى عاد الرئيس الأمريكى ليعلن موقفا مغايرا. ولم يقتصر التردد والارتباك على سيد البيت الأبيض، لينسحب لاحقا على تصريحات العديد من مساعديه، ومنهم سارة ساندرز الناطقة باسم البيت الأبيض التى أعربت عن شكوكها تجاه توجيه مثل هذه الدعوة بشكل رسمي، وهى شكوك سرعان ما أعقبها إعلان آخر عن البيت الأبيض يؤكد دعوة بوتين فى نهاية هذا العام، وهو ما أكده يورى اوشاكوف مساعد الرئيس الروسى للشئون الخارجية. ولم تكد الأمور تستقر عند هذا الموعد، حتى عاد جون بولتون مستشار الرئيس الأمريكى لشئون الأمن القومى ليعلن تراجع البيت الأبيض عن هذه الدعوة. وقال بولتون انه ينبغى فى البداية «الانتهاء من مشكلة البحث عن الساحرات الشريرات»، فى إشارة إلى ما يقال حول التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية. وأضاف أن الزيارة التى كان من المقترح القيام بها للرئيس بوتين إلى واشنطن هذا العام تتأجل إلى مطلع العام المقبل. كان الرئيس ترامب قد أعلن عقب لقائه نظيره الروسى فى هلسنكى انهما اتفقا على اللقاء كثيرا فى الفترة المقبلة. وأثنى أعضاء فريق ترامب على ما تحقق من نتائج فى هلسنكي، الا ان الصحافة الامريكية والكثيرين من أعضاء الكونجرس أعلنوا مخاوفهم من احتمالات تقديم الرئيس ترامب تنازلات أمام بوتين. ويقول المراقبون فى العاصمة الروسية ان الجدل الذى احتدم حول تحديد موعد اللقاء بعد أن كشفت مصادر البيت الابيض عن دعوة ترامب لبوتين واحتمالات تلبيتها فى خريف العام الجاري، يقف وراء تراجع الرئيس الامريكى عن هذه الدعوة، فى نفس الوقت الذى تظل فيه موسكو تتوقع لقاء الرئيسين على هامش قمة «مجموعة العشرين» فى الارجنتين فى نوفمبر من هذا العام، او فى اثناء فعاليات اخرى يمكن ان يشارك فيها الزعيمان، حسب تصريحات يورى اوشاكوف مساعد الرئيس بوتين للشئون الخارجية. لكن ماذا عن موقف روسيا بهذا الصدد؟ موسكو أعلنت ترحيبها أكثر من مرة بأى اتصال مع الجانب الأمريكي. ونذكر أنها تلقفت ببالغ الارتياح أول إعلان عن دعوة بوتين لزيارة واشنطن. أما الرئيس بوتين فقد كشف عن موقفه بشكل أكثر صراحة فى حديثه إلى الصحفيين فى اختتام قمة بريكس فى جوهانسبرج يوم الجمعة الماضى، حيث صرح باستعداده للسفر إلى واشنطن للقاء نظيره الأمريكي، أو دعوته لزيارة موسكو، مضيفا انه فعل ذلك خلال قمة هلسنكى . وأضاف ان اللقاء مع ترامب لا يفيد الولاياتالمتحدةوروسيا وحسب، بل يفيد الكثير من بلدان العالم. وكشف بوتين عن توقعاته لقاء الرئيس ترامب على هامش قمة العشرين فى الأرجنتين فى نوفمبر المقبل أو آي فعاليات أخرى تالية لهذا التاريخ. ولم يغفل بوتين كعادته فى مثل هذه المناسبات الإشادة بالرئيس ترامب الذى قال انه يحسن تمسكه بما قطعه على نفسه من وعود وعهود أمام ناخبيه، فى إشارة لا تخلو من مغزى حول وعده بتحسين العلاقات مع روسيا، وكذلك حديثه حول قبوله ب«روسية شبه جزيرة القرم ما دام أهلها يتحدثون اللغة الروسية». كان الكرملين قد اغفل التعليق على تغريدة ترامب التي سجلها خلال الأيام القليلة الماضية، وأعرب فيها عن شكوكه وقلقه بشأن احتمالات تدخل روسيا فى الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكى فى نوفمبر المقبل. كان ترامب قد قال أيضا انه «استناداً إلى حقيقة أنه لم يكن هناك أى رئيس أكثر منى صرامة مع روسيا، فإن الروس سيضغطون بقوة من أجل الديمقراطيين»، مشيراً إلى أنهم اى الروس «بالتأكيد لا يريدون ترامب!». وبغض النظر عن مصداقية ما يقوله ترامب فى هذا الصدد، فإن هناك ما يقول إن ما تتسم به تصريحاته من عدم ثبات وتردد ينسحب على الكثير من مواقفه حتى تجاه حلفائه. فها هو يجنح مرة أخري صوب المصالحة مع بلدان الاتحاد الأوروبى ليستقبل رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر على نحو يتسم بالكثير من الحميمية، لنجده وعلى العكس مما أطلقه من وعيد وتهديد لحلفائه الأوروبيين فى قمة الناتو الأخيرة فى بروكسل يكشف عن رغبة فى التعاون وتنسيق للجهود ضد روسيا، وهو ما أكده بقوله «إننا نريد مواصلة الحفاظ على علاقاتنا الطيبة لمصلحة المواطنين الأوروبيين والأمريكيين». وأعلن ترامب أيضا قراره التراجع عن خطته حول فرض قيود جديدة على التجارة مع أوروبا وتطبيق مبدأ «التعامل بالمثل». وما إن انتهى ذلك اللقاء، حتى عاد البيت الأبيض بإيعاز من الرئيس ترامب ليعلن اجتماعا مع مستشاريه فى مجلس الأمن القومى لبحث المسائل المتعلقة بتأمين الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكى فى نوفمبر المقبل، تحسبا لاحتمالات «التدخل الروسي»، الذى سبق قال ترامب انه قد يجرى هذه المرة لمصلحة الديمقراطيين. ومضى مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكية إلى ما هو أبعد، ليعيد إلى الأذهان ما سبق أن أعلنته واشنطن حول عدم اعترافها بضم القرم ، ويؤكد أن موقفها من موسكو لن يتغير إلا بعد حل الأزمة الأوكرانية بما فى ذلك ما يتعلق بالتخلى عن القرم. لكن وما إن أفصح بوتين فى جوهانسبرج عن دعوته ترامب لزيارة موسكو كما أشرنا عاليه، حتى جاء رد الفعل بأسرع مما توقع أى من الطرفين. فقد عاد ترامب ليعلن استعداده للسفر الى موسكو للقاء نظيره الروسى بوتين، وإن اشترط لذلك تلقى «الدعوة الرسمية المناسبة». وكشفت سارة ساندرز عن ذلك، حيث قالت ان «الرئيس ترامب يتوقع استقبال بوتين فى البيت الأبيض بعد اليوم الأول من العام الجديد 2019 «، حسب ما أشارت وكالة «تاس» نقلا عن الناطقة الرسمية باسم البيت الأبيض. على أن كل هذه التصريحات ومؤشرات التحول عن التعاون مع روسيا، وحسب تقدير كثير من المراقبين فى موسكو، لا يمكن ان تكون القول الفصل فى علاقات الرئيس الأمريكى مع روسيا. ويذكر هؤلاء مع الكثيرين فى داخل روسيا وخارجها ذلك الغزل الذى سبق أن أفصح عنه ترامب مع موسكو إبان حملته الانتخابية، مثلما يذكرون ما سارع بإعلانه من تصريحات وقرارات وعقوبات موغلة فى العداء لموسكو بعد توليه مقاليد الرئاسة فى البيت الأبيض!. ولعل الترويج خلال الأيام القليلة الماضية لما أوصى به هنرى كيسينجر مستشار الرئيس الأمريكى للأمن القومى ووزير الخارجية فى سبعينيات القرن الماضى ترامب حول ضرورة وأهمية التعاون بين الولاياتالمتحدةوروسيا، يؤكد وجود الرغبة والفرصة لتحقيق ما قاله كيسينجر، رغم عدم توافقه مع الإستراتيجية الروسية التى لا تتفق مع مثل هذا التوجه على حساب علاقاتها مع الصين. وكان «ثعلب السياسة الأمريكية العجوز» الذي، وحسب ما قالته صحيفة «ديلى بيست الأمريكية، سبق أن أوصى إبان سنوات الحرب الباردة، بضرورة التحالف مع الصين من أجل إحكام العزلة حول روسيا غير أن هناك من يقول فى أروقة السياسة الأمريكية ومنهم أسافين سوبساينج، وأندرو ديزيديرو، وسام شتين وكلهم من «ديلى بيست»، إن ما يطرحه كيسينجر يأتى على طرفى نقيض مما سبق وأعلنه فى سبعينيات القرن الماضي، ومع ذلك فإنه يجد آذانا مصغية لدى الكثيرين من أعضاء إدارة الرئيس، لكنه يصطدم بواقع انه يتفق مع ما سبق أن أعرب ترامب عنه إبان حملته الانتخابية من مشاعر «دافئة» تجاه بوتين الذى صار سببا فى الكثير من المتاعب للرئيس الأمريكى فى الساحة الداخلية. ومن ذات المنظور دقت «واشنطن بوست» أجراسها تحذيرا من الخطر القادم من الصين، نقلا عن مصادر أجهزة المخابرات الأمريكية. ونقل معلقها جون روجين عن هذه المصادر تصريحاتها حول أن الصين تسعى نحو صدارة الساحة العالمية، وهى تشكل «الخطر رقم واحد» على الاقتصاد والأمن القومى للولايات المتحدة، وهو ما يغفله الكثيرون تحت تأثير تصاعد واحتدام الجدل حول روسيا، متناسين ضرورة التفكير فيما ينبغى اتخاذه من قرارات لمواجهة تصاعد النفوذ الصيني. ومضى روجين لينقل عن مصادر أجهزة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالية ما قالته حول أن الصين ومن وجهة النظر المخابراتية، تعتبر الخطر الأكبر الذى يهدد الولاياتالمتحدة، وأنها تظل القوة الأكثر احتمالا لشغل المكانة التى تشغلها الولاياتالمتحدةالأمريكية، فضلا عن كونها وبالمقارنة مع روسيا «الخطر المؤجل». وذلك ما لا يمكن أن يكون خافيا على كل من موسكو وبكين على سواء.