لحظة إطلاق باكستان صواريخ على مواقع هندية ردا على العدوان الهندي (فيديو)    دوي انفجارات في مدينتي أمريتسار وجامو الهنديتين وسط تصاعد التوترات    الرئيس السيسي يعود إلى أرض الوطن بعد مشاركته في احتفالات عيد النصر في موسكو    بعد 12 ساعة، السيطرة على حريق شونة الكتان بشبراملس في الغربية، و20 صورة ترصد ما حدث    بعد 8 ساعات.. السيطرة على حريق شونة الكتان بشبرا ملس    نشرة التوك شو| البترول تعلق على أزمة البنزين المغشوش.. وتفاصيل جديدة في أزمة بوسي شلبي    طحالب خضراء تسد الفجوة بنسبة 15%| «الكلوريلا».. مستقبل إنتاج الأعلاف    الشعب الجمهوري بالمنيا ينظم احتفالية كبرى لتكريم الأمهات المثاليات.. صور    شعبة الأجهزة الكهربائية: المعلومات أحد التحديات التي تواجه صغار المصنعين    مدير مدرسة السلام في واقعة الاعتداء: «الخناقة حصلت بين الناس اللي شغالين عندي وأولياء الأمور»    برلمانية: 100 ألف ريال غرامة الذهاب للحج بدون تأشيرة    جيش الاحتلال يصيب فلسطينيين بالرصاص الحي بالضفة الغربية    طريقة عمل الخبيزة، أكلة شعبية لذيذة وسهلة التحضير    عقب الفوز على بيراميدز.. رئيس البنك الأهلي: نريد تأمين المركز الرابع    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن بعد آخر تراجع بمستهل تعاملات السبت 10 مايو 2025    الشقة ب5 جنيهات في الشهر| جراحة دقيقة بالبرلمان لتعديل قانون الإيجار القديم    استشهاد قائد كتيبة جنين في نابلس واقتحامات تطال رام الله    العثور على جثة متفحمة داخل أرض زراعية بمنشأة القناطر    زعيم كوريا الشمالية: مشاركتنا في الحرب الروسية الأوكرانية مبررة    هل تجوز صلاة الرجل ب"الفانلة" بسبب ارتفاع الحرارة؟.. الإفتاء توضح    الهند تستهدف 3 قواعد جوية باكستانية بصواريخ دقيقة    الترسانة يواجه «وي» في افتتاح مباريات الجولة ال 35 بدوري المحترفين    «زي النهارده».. وفاة الفنانة هالة فؤاد 10 مايو 1993    ملك أحمد زاهر تشارك الجمهور صورًا مع عائلتها.. وتوجه رسالة لشقيقتها ليلى    «زي النهارده».. وفاة الأديب والمفكر مصطفى صادق الرافعي 10 مايو 1937    تكريم منى زكي كأفضل ممثلة بمهرجان المركز الكاثوليكي للسينما    «ليه منكبرش النحاس».. تعليق مثير من سيد عبدالحفيظ على أنباء اتفاق الأهلي مع جوميز    غدا انطلاق هاكاثون 17.. وحلول تكنولوجية لأهداف التنمية الاكثر الحاحا التعليم والصحة والطاقة والتنمية والمناخ    «غرفة السياحة» تجمع بيانات المعتمرين المتخلفين عن العودة    «صحة القاهرة» تكثف الاستعدادات لاعتماد وحداتها الطبية من «GAHAR»    حريق ضخم يلتهم مخزن عبوات بلاستيكية بالمنوفية    عباسى يقود "فتاة الآرل" على أنغام السيمفونى بالأوبرا    ستاندرد آند بورز تُبقي على التصنيف الائتماني لإسرائيل مع نظرة مستقبلية سلبية    حدث في منتصف الليل| ننشر تفاصيل لقاء الرئيس السيسي ونظيره الروسي.. والعمل تعلن عن وظائف جديدة    تعرف على منافس منتخب مصر في ربع نهائي كأس أمم أفريقيا للشباب    رايو فاليكانو يحقق فوزا ثمينا أمام لاس بالماس بالدوري الإسباني    الأعراض المبكرة للاكتئاب وكيف يمكن أن يتطور إلى حاد؟    هيثم فاروق يكشف عيب خطير في نجم الزمالك.. ويؤكد: «الأهداف الأخيرة بسببه»    متابعة للأداء وتوجيهات تطويرية جديدة.. النائب العام يلتقي أعضاء وموظفي نيابة استئناف المنصورة    البترول: تلقينا 681 شكوى ليست جميعها مرتبطة بالبنزين.. وسنعلن النتائج بشفافية    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية بالبنك المركزي المصري    جامعة القاهرة تكرّم رئيس المحكمة الدستورية العليا تقديرًا لمسيرته القضائية    يسرا عن أزمة بوسي شلبي: «لحد آخر يوم في عمره كانت زوجته على سُنة الله ورسوله»    انطلاق مهرجان المسرح العالمي «دورة الأساتذة» بمعهد الفنون المسرحية| فيديو    عمرو أديب بعد هزيمة بيراميدز: البنك الأهلي أحسن بنك في مصر.. والزمالك ظالم وليس مظلومًا    أمين الفتوى: طواف الوداع سنة.. والحج صحيح دون فدية لمن تركه لعذر (فيديو)    أسخن 48 ساعة في مايو.. بيان مهم بشأن حالة الطقس: هجمة صيفية مبكرة    بسبب عقب سيجارة.. نفوق 110 رأس أغنام في حريق حظيرة ومزرعة بالمنيا    النائب العام يلتقي أعضاء النيابة العامة وموظفيها بدائرة نيابة استئناف المنصورة    «بُص في ورقتك».. سيد عبدالحفيظ يعلق على هزيمة بيراميدز بالدوري    «لماذا الجبن مع البطيخ؟».. «العلم» يكشف سر هذا الثنائي المدهش لعشاقه    ما حكم من ترك طواف الوداع في الحج؟.. أمين الفتوى يوضح (فيديو)    عميد تجارة عين شمس: دمج المناهج الحالية مع التقنيات الحديثة    خطيب الجامع الأزهر: الحديث بغير علم في أمور الدين تجرُؤ واستخفاف يقود للفتنة    رئيس جامعة الإسكندرية يستقبل وفد المجلس القومي للمرأة (صور)    البابا لاون الرابع عشر في قداس احتفالي: "رنموا للرب ترنيمة جديدة لأنه صنع العجائب"    هل يجوز الحج عن الوالدين؟ الإفتاء تُجيب    رئيس الوزراء يؤكد حِرصه على المتابعة المستمرة لأداء منظومة الشكاوى الحكومية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الملاك الحافى

فوجئ مدحت عندما سار متجها إلي الخارج بموسيقي بيانو تنبعث من الشقة التي توجد علي يساره. فتوقف: لم تكن موسيقي مذاعة من راديو أو تليفزيون، بل كانت حية تعزف. وكان العازف علي درجة عالية من المهارة. والموسيقي كانت رائعة، وهي ليست لأحد سوي الطفل المعجزة فولفجانج أماديوس موتسارت، ومن كونشرتو البيانو رقم تسعة. والبيانو يصدح في أرجاء العمارة. وهذه الموسيقي تصيبه بما يشبه السكر. ومن هو هذا العازف الجبار الذي يتحف العمارة بموسيقاه لأول مرة؟ لا بد أنه ساكن جديد وفد مؤخرا. وسأل مدحت أحد حراس العمارة فأكد له الخبر، وتحدث عن أسرة من «الأجانب» جاءت إلي العمارة منذ أيام. من أي جنسية؟ ذلك ما لم يكن الرجل يعرفه.
وأعادت الموسيقي مدحت إلي أيامه في فيينا، وذكرته بأنه ما زال في مرحلة النقاهة بعد المحنة التي تعرض لها هناك. الليلة الأخيرة التي قضاها في عاصمة النمسا كانت عاصفة. ونداء سملي التليفوني الذي أيقظه وجه إليه ضربة قاصمة واضطره إلي لملمة حاجياته بسرعة والذهاب إلي المطار. ولكن ها هي الموسيقي تتدفق وتسري في شرايينه. فاجأته واقتحمت حالة الجفاف التي عاشها منذ عاد، حالة الامتناع عن الموسيقي سواء عن طريق الاستماع أو العزف، فكأنه قرر قطع كل علاقة له بالفن الجميل. وها هو أماديوس يقتحم عليه حياته في مصر ويرغمه علي الإنصات. ولكن كيف يستطيع جاره الجديد أن يعزف علي هذا النحو البديع؟ لو أنه طاوع نفسه لطرق باب الرجل ليراه رأي العين. ولكنه قرر ترك الأمر للمصادفة. فلا بد أنه سيلتقي جاره الجديد في يوم من الأيام.
ولم يمض وقت طويل قبل أن يظهر الجار. فقد رأي مدحت عند عودته من الخارج امرأة تهم بالنزول علي السلم المؤدي إلي جراج العمارة. وتوقفت عندما رأته، وتوقف بدوره. لم يكن قد رآها من قبل، لكن شعرها الأسود الفاحم وملامحها الدقيقة - كانت تدل علي أنها آسيوية. وسألها دون مقدمات: «أنت عازفة البيانو. أليس كذلك؟» وظهر علي ملامح السيدة أثر المباغتة، ثم هزت رأسها علامة الإيجاب. ودلته عيناها علي أنها يابانية. وأتاها السؤال الثاني في لمح البصر: «هلا أعطيتني دروسا في الموسيقي؟» وتفحصته قليلا قبل أن يشرق وجهها بابتسامة عذبة: «ولم لا؟ متي نبدأ». وكاد يطير من الفرح. حدث كل شيء في ثوان ودون تخطيط. كيف كان ذلك؟ ما الذي جري في أعماقه ودفعه إلي استئناف دروس الموسيقي بعد يأس منها؟ كيف أدي ظهور السيدة اليابانية إلي ذلك الانقلاب المفاجئ؟ أم أن موسيقي موتسارت عملت عملها الخفي في نفسه وهيأته لذلك اللقاء العجيب؟ كأنما كانا علي موعد رتبه أماديوس.
ثم أصابه الذهول عندما رآها تقف أمام بابه. جاءت في الموعد الذي اتفقا عليه بالدقيقة والثانية، وكان ينتظر قدومها بفارغ الصبر. ومع ذلك، فقد وجئ بظهورها كأنه يراها لأول مرة. وعندما أفسح لها الطريق ببطء وجلسا إلي مائدة القهوة في غرفة الجلوس، ظل صامتا لا يدري كيف يبدأ الحديث. ومن حسن الحظ أن ماريكا ظهرت، فأفاق وانفكت عقدة لسانه لكي يقوم بواجب التعريف. قال موجها الكلام لمعلمة الموسيقي: «هذه ماريكا، أمي اليونانية». ونهضت المعلمة لتصافح ماريكا وقالت: «أنا أريسو جارتكم الجديدة من اليابان. كيف حالك؟» ورحبت ماريكا بالضيفة وسألتها إن كانت تستطيع أن تقدم لها شرابا، شايا أو قهوة أو عصير تفاح، فجاءها الرد بالرفض مع جزيل الشكر. وبدأ النقاش حول الدروس التي يريدها الطالب، ومدي تواترها، ومدة كل درس. وقالت أريسو: «أستطيع بسهولة أن أعطيك درسا مرة في الأسبوع، ولمدة ساعة. ما رأيك؟» فوافق. وسألها عن الأجر الذي تتقاضاه، فأشاحت بوجهها كأن السؤال لا يعنيها، أو كأن الحديث عن الأجر أمر غير لائق. وأخذ مدحت يلح: «أخبرتني أنك معلمة محترفة، وأنك تنوين التدريس في مصر. ولا بد أن تتقاضي أجرا.» وأطرقت برأسها كأنما كانت تفكر. وزاد إلحاحه: «أنا مستعد للدفع. وذلك أمر طبيعي». وأخيرا نطقت: «لا أتقاضي أجرا من جاري». قالتها بلهجة حاسمة لا يعقب عليها.
وسألته عن مستوي معرفته بالموسيقي. فأخبرها أنه رغم ألفته بالموسيقي الكلاسيكية وكثرة قراءاته في الموضوع، لم يبدأ تعلم العزف إلا منذ فترة وجيزة في فيينا، وأن مستواه في هذه الناحية يدعو إلي الرثاء. وقال: «لا أخفي عليك أنني فيما يبدو حالة ميئوس منها. أنا في سني هذه أواجه مشكلات عديدة: الأصابع التي فقدت المرونة أو تشوهت، والجهاز العصبي الذي لا يستجيب بسرعة، والذاكرة التي تبلدت، فما أحفظه اليوم يتبخر غدا». وسألها بلهجة الشاكي: «هل لديك...» ثم توقف عن الكلام ولم يعد يدري ماذا يقول عندما وقعت عيناه بالمصادفة علي قدمي المعلمة: كانتا حافيتين. كان يريد أن يسألها عما إذا كان لديها علاج لحالته، فلما رأي ما رأي تشتت انتباهه، واختلطت الأمور في ذهنه. إنه يسكن في الطابق الرابع من العمارة. فهل خرجت السيدة من شقتها في الطابق الأرضي حافية؟ وهل رآها أحد من السكان وهي في طريقها إلي المصعد الكهربائي، أو عندما استقله معها؟ وماذا عساه يقول عنها؟ وهل لاحظت ماريكا وهي حادة البصر قدمي الضيفة؟ وماذا قالت لنفسها عندئذ عما يجري أو سيجري بين معلمة الموسيقي وبين «ابنها»؟
ولم تتبدد حيرته إلا في نهاية المقابلة. كانت تهم بالانصراف، ورآها عند باب الشقة ترتدي حذاءها. إذن، فقد خلعته عند الدخول. فكيف لم يلاحظ ذلك؟ ومن عادة اليابانين أن يخلعوا أحذيتهم عند زيارة أحد من الناس من باب الاحترام لسكان البيت، أم بسبب حرصهم الجنوني علي النظافة؟ وهل يستوي في ذلك أمر الرجل والمرأة؟ ما أغرب هؤلاء الناس! نحن لا نخلع أحذيتنا إلا عند مكان طاهر. وهم بأن يسألها ولكنها بادرته بالسؤال: «معذرة إذا سألتك عما تعنيه بأمك اليونانية؟ السيدة ماريكا أمك، فلماذا تصفها بأنها يونانية أو غير يونانية؟» قال وهو يضحك: «ماريكا ليست أمي إلا بالتبني. أمي الطبيعية كانت مصرية ريفية، وكان اسمها فوزية. أما ماريكا اليونانية، فقد هبطت علي قريتنا ذات يوم ورقت لحالي عندما وجدتني يتيما وفي حالة مزرية، فحملتني إلي الحضر وأرسلتني إلي المدرسة. باختصار تبنتني وعلمتني لغة أهلها وغيرت مجري حياتي. ماريكا هذه تزوجت مصريا، وانقطعت علاقاتها ببلادها، وتمصرت تماما، ولكني أحب أن أداعبها فأصفها بأنها يونانية.» ونظرا لأن المعلمة كانت قصيرة القامة، فقد رآها ترفع عينيها إليه وتحملق فيه متعجبة.
وقالت أريسو عندما جاءت لتعطيه الدرس الأول: «قلت إنك لم تبدأ تعلم الموسيقي إلا منذ فترة وجيزة. أريد إذن أن أسمعك تعزف». فقال: «لك أن تحكمي. ولكني أريد أن أريك مقطوعة توقفت عندها ولا أستطيع عزفها مهما حاولت ولا أستطيع تجاوزها إلي غيرها، فأصبت باليأس». وفتح كراسة للموسيقي ليطلعها علي مقطوعة لباخ. وقال: «هذا هو المارش من مقام دال الكبير. ومن المفروض أنه للمبتدئين، ولكني لا أستطيع عزفه مهما حاولت. أستطيع أن أعزف الجزء الخاص باليد اليمني، والجزء الخاص باليد اليسري. أما العزف بالاثنين معا، فهو أمر مستحيل، وقد أعيت بلادتي معلمي في فيينا. فهل تستطيعين علاجي؟» قالت: «سوف نري، ولكني أقترح الآن، أي قبل أن أستمع إلي عزفك، ألا نركز علي الأداء وحده. دعنا نقسم الدرس بين التذوق، ودراسة النظرية، والعزف علي سبيل التطبيق. ما رأيك؟» فقال: «هذا رائع، ويناسبني تماما. ولكن الساعة لن تكفي لكل ذلك.» فقالت: «سنجد حلا. قد نطيل مدة الدرس. وقد نحتاج إلي أكثر من درس في الأسبوع. أم أن وقتك لا يسمح بذلك؟» فأجاب: هذا سؤال ينبغي أن يوجه إليك. هل يسمح وقتك بذلك؟» قالت: «سوف نري». وسألها: «لماذا تضحين بوقتك وجهدك من أجلي؟ قد أكون حالة مستعصية». ولكنها استأنفت الكلام كأنها لم تسمع ما قال: «فيما يتعلق بمقطوعة باخ، أنا لا أريد أن تتصدي لها مباشرة. سنعطيها المكان اللائق بها من الدرس. ولكني أريدك أن تعدني بأن تؤدي الواجبات التي سأحددها لك. سأعطيك تمارين نظرية وعملية لتواجهها وحدك. وعليك أن تتمرن علي العزف ساعة علي الأقل كل يوم. فهل تعدني بذلك؟ وسوف نري. إذا وجدت أنك تتراخي في أداء الواجب، فقد أقرر التوقف عن التدريس لك. والآن دعني أستمع إلي عزفك. الدور الخاص باليد اليمني أولا، ثم الدور الخاص باليد اليسري.»
وقالت عندما انتهي من العزف: «ألاحظ أن خنصر اليد اليسري لا يعمل كما ينبغي». وأمسكت بالخنصر المعيب: «هو هذا. هذا هو الطفل العابث. ولكن لا عليك. هذا أمر يمكن إصلاحه. تخيل أن هذا الإصبع هو طفلك الأصغر، وأنه ضعيف ومدلل. من الواضح أنه يحتاج منك إلي رعاية خاصة. أليس كذلك؟ سأعطيك تمرينا خاصا لتقويته. أما المشكلة الأخري التي ألاحظها، فهي أن الأخ الأكبر بين أصابع اليد اليسري، أي الإبهام، يترك موقعه علي لوحة المفاتيح ويتدلي. لاحظ أنه لا يفتقر إلي القوة مثل أخيه الأصغر، ولكنه تعود علي التراخي والكسل، فلا يتنبه إلي ما ينبغي عليه عمله إلا بعد فوات الأوان. وهذا أيضا مما يمكن إصلاحه. سأعطيك تمرينا لتنشيطه وتأديبه». ولاحظت أن الطالب يزم شفتيه ويتمتم: «ذلك ما أعنيه بتيبس الأصابع وتشوهها». كأنه لم يكن مقتنعا بتفاؤلها. فقالت: «تذكر أنه ليس في الأمر سر. فكل تلك أمور مفهومة. أنت تعودت شأنك شأن كثير من الناس الاعتماد علي اليد اليمني وإهمال اليد اليسري. ولكن جاء الأوان لإصلاح ذلك. هناك علاج. والآن أريدك أن تعود إلي العزف. ولكن لا بد قبل التصدي لباخ أن تتمكن من عزف المقام الذي استخدمه في التأليف، مقام دال الكبير. فعليك أن تعزف الجزء الخاص باليد اليمني فالجزء الخاص باليد اليسري، ثم باليدين معا، ثم باليدين معا وعيناك مغمضتان. أجل وعيناك مغمضتان. بلا تردد أو أخطاء. تخيل أنك عازف ضرير. أريد لأصابعك أن يقع كل منها علي موقعه المناسب في الوقت المناسب دون أخطاء. وذلك هو الواجب الذي ينبغي أن تؤديه قبل أن أراك مرة ثانية. وإذا لاحظت أنك تتردد أو تخطئ أو تحاول فتح عينيك أثناء العزف، فستستمر في أداء نفس الواجب حتي تتقنه. ولن ننتقل خطوة أخري قبل ذلك. أريد أن أستمع أولا إلي العازف الضرير. وأري علي وجهك علامات الامتعاض. ولكن أرجوك... أحب أن أطمئنك. سأكون معك. وسيكون لدينا درسان أو ثلاثة في الأسبوع طالما سمح وقتك بذلك. ما رأيك؟»
ما رأيه؟ وهل يمكنه أن يعصي لتلك المرأة أمرا؟ «سأكون معك». هل يمكنه ألا يطمئن بإزاء هذا التأييد المطلق؟ ولما عزف علي مسمع منها المقام مغمض العينين، طلبت إليه أن يعيد العزف، ففعل. لم يتردد ولم يرتكب أي أخطاء. فقالت: «والآن لننتقل إلي مقطوعة باخ. اليد اليمني أولا، وتليها اليد اليسري.» ثم طلبت إليه أن يعزف اللحن باليدين معا. فلم يرق لها ما فعل. فأمرته بأن يتمرن طيلة الأسبوع التالي علي العزف باليدين معا. وقالت: «أنت تعزف النغمات الصحيحة. جميل. ولكني أريدك أن تنسي هذا الجانب من الموضوع. أريدك أن تعزف اللحن كأنما تغنيه. أريد أن تنصت للحن في داخلك وأن تدعه يستولي عليك. ولن ألومك إذا أخطأت هنا أو هناك. كبار الموسيقيين يخطئون أحيانا. ولكن ذلك مما يمكن إصلاحه. وسنصلحه، ولن أتركك حتي تصلحه. أريد أن أسمعك تغني...»
وفي الشهر الثالث من التدريس، كان لا يزال يتعثر. وضاق صدره بعجزه. وأظهر ضيقه أمام المعلمة عندما توقف عن العزف في منتصف اللحن، وقال: «أنا أعزف ما أقرؤه في النوتة. ولكن أين الموسيقي؟ أين اللحن؟ أين باخ؟» كان ساخطا، ولكنه عندما رآها تبتسم، قال: «أريني إذن كيف تعزفين هذه الجملة الافتتاحية». فلما عزفتها، قال: «الآن ظهرت الموسيقي. فلماذا لا تظهر علي يدي؟» وخطرت له فكرة: «دعيني أحاول عزف هذه الجملة كما سمعتها». وجلس إلي البيانو وعزف الجملة كما سمعها، وأخذت الموسيقي تتدفق علي يديه لأول مرة. وانتقلا إلي بقية المقطوعة جملة فجملة حتي آخرها: هي تعزف، وهو يحاكيها. وعندئذ طلب إليها أن تعزف المقطوعة كاملة ثلاث مرات. وعندئذ وقعت المعجزة. تمكن من عزف المقطوعة كاملة. وقال بزهو: «أرأيت؟ ما رأيك؟» وكانت تصفق. وقالت: «تريد رأيي؟ الآن سمعتك تغني. مبروك. لا داعي لليأس إذن. وهناك مجال للتحسن. أنت الآن يا عزيزي في بداية الطريق، وهذا مهم، فهذا يعني أنك ستتحسن إذا واصلت.»
وقعت المعجزة بفضل اليابانية. استطاع أخيرا أن يتغلب علي العقبات التي وضعها باخ في طريقه كأنه يريد تعجيزه. كان كلما أدركه الضجر أو الإرهاق تذكر عبارتها: «سأكون معك». وقد صارت معه. المعلمة الخجول، المعلمة التي ترفض أن تشرب كوب ماء في مسكنه مهما طالت مدة الدرس، أصبحت معه، وهي تتصرف أحيانا كما لو كانت في بيتها. وهي في دروس التذوق تنهض عن مقعدها لتتجول حافية لتبحث عن الاسطوانة المناسبة، وتقف أمام صفوف الكتب والاسطوانات التي تزدحم بها الجدران مبهورة ولا تكف عن الثرثرة والدندنة كأنها طفل في متجر للحلوي. فإذا اهتدت إلي الاسطوانة التي تبحث عنها، عادت إلي مجلسها من لاعبة الاسطوانات. فإذا تصادف والتقت بماريكا أثناء تجوالها حيتها بسرعة وانصرفت إلي ما تريد عمله.
وكان هناك تحول آخر. صارت أريسو تتقبل تنافسه معها في اختيار الأعمال الموسيقية المرشحة للتذوق، بل وفي التعليق عليها. وذلك أن الطالب له فيما يسمع آراء يعتد بها ويعتقد ألا مفر من إبدائها. صحيح أنه يبدأ الحديث دائما بالاعتراف بأنه ليس سوي هاو وبأن باستطاعة المعلمة أن تصححه إذا أخطأ، ولكنه لا يلبث أن يسترسل في التعبير عن انطباعاته وآرائه، ويضرب أمثلة ويعقد مقارنات علي ضوء ما يعرفه من تاريخ الموسيقي والنقد الأدبي والبلاغة. وكانت أريسو تنصت باهتمام، كأنها هي الطالب. هل كانت تجامله؟ لا يدري، ولكن أصبح من الواضح لديه أن المسافة بينهما تقلصت، وأن المعلمة أصبحت تستمتع بالدروس. كانت إذا دارت الاسطوانة وبدأت الشرح والتحليل تتوقف أحيانا لتستسلم للحن. وهي تغمض عندئذ عينيها وتتمايل طربا أو تترنم بصوت خفيض، وتزداد حسنا. ثم تفيق فجأة، وتطرق في حياء، كأنها شعرت بنظرات الطالب تتحسس وجنتها. وحدث ذات صباح أنها صارت تتمايل وهي واقفة كأنما كانت ترقص علي إيقاع اللحن المذاع. فلما لمحت ماريكا توقفت، وعادت إلي الجلوس منعقدة اليدين. وقالت فيما يشبه الاعتذار: «هل تعلم؟ أنا مثلك مجنونة بحب الموسيقي، كل أنواع الموسيقي.» وسألها: «حتي موسيقي الهيب هوب؟» فأجابت: «حتي موسيقي الهيب هوب. لا أستطع أن أتمالك نفسي إذا سمعتها وكنت وحدي. أنا عندئذ أرقص».
وامتلأت الشقة بأريسو. أصبحت تأتي مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع. وطالت مدة الدرس الواحد بحيث تمتد أحيانا إلي ساعتين أو أكثر. وكانت ماريكا تقف أحيانا بباب المطبخ وتغافل اليابانية لتلوح بيدها أن جاء موعد الغداء. ولكن المعلمة كانت في حالة من النشاط والحيوية الغلابة. وهي لا تجلس طويلا قبل أن تنهض والقلم الرصاص بيدها لتضع علي النوتة علامات مهمة تسهل علي الطالب فهم مفاصل اللحن. وكانت أحيانا تجلس إلي البيانو لتعزف ما تريده كأنها وحدها في بيتها أو ما يريد الطالب. وهي تسأله: «ماذا تريد أن تسمع؟ مقطوعة لليست، أم لشوبان؟ أنا أعرف أنك تحب ليليات البولندي لأنها تذكرك كما قلت بليليات الشاعر ألفرد دي موسيه؟ وكلاهما كان يحب جورج صاند. فهل كانا يؤلفان من أجلها كلٌ علي طريقته؟» وكان الطالب مستمتعا ولا يشعر بجوع أو عطش. يلاحظ إشارات ماريكا ويهز رأسه أن وصلته الرسالة ثم يتجاهلها. كان يشعر أنه محظوظ لأنه وجد معلمة مثل أريسو لا تدخر وسعا في تعليمه، ولا تبدي أي ضيق بأخطائه أو «محاضراته»، وتضعه علي قدم المساواة معها: رفيقان في حب الموسيقي. وكان يعجب لأنها تبذل كل ذلك الجهد دون مقابل. ما الذي تجنيه من كل ذلك؟ أما معلم الموسيقي في فيينا، فكان لا يكف عن النظر إلي ساعته، وينتظر بفارغ الصبر قدوم الدقيقة الستين لكي ينهي الدرس.
وطلبت إليه ذات يوم أن يعزف مقطوعة باخ. ولم يرق لها أداؤه. فقالت: «أنت انصرفت عن هذا اللحن بعد أن تمكنت من عزفه. وهو أمر غير مقبول. ألم أقل لك إن أمامك مجالا للتحسين. فكيف تتوقف؟» وبعد فترة من الصمت قالت: «هذا هو درسنا الأخير». ورد بانزعاج واضح: «أنت غاضبة مني لأنني أهملت باخ.» فقالت: أنا غاضبة منك بالفعل، ولكن ليس هذا هو السبب. أنا مضطرة إلي الرحيل لأن الشركة التي يعمل بها زوجي قررت فجأة نقله إلي فرنسا. يؤسفني ذلك. ولكن لا بد أن أذهب. لست سعيدة بتركك في هذه المرحلة. ولكن حاول أن تجد معلما آخر. والمهم أنك تدرك الآن ما ينبغي عمله ما دمت تحب الموسيقي. لا تسمح لليأس بأن يتسلل إلي قلبك. وينبغي...» وتوقفت عن الكلام للحظة لتقول: «أنت تفهم ما أعني».
يفهم تماما. يفهم. نفذ الدرس إلي أعماقه. وها هي ماريكا تجلس أمامه وعلي وجهها علامات السعادة. لقد تخلصت من المرأة الجميلة التي احتلت البيت وأصبحت خطرا داهما علي ابنها الوحيد. ماريكا التي عاشت في صباها حبا عاصفا أصبحت تري أن النساء جنس لا يؤتمن علي الرجال. أما هو فكان يتعجب لماذا جاد عليه الدهر بكثير من الملائكة - جدته زينب، ومرضعته ناعسة، وامرأة عمه هنية، وذلك علي سبيل المثال لا الحصر ولكن الدهر لم يجد عليه إلا بقليل من البشر. زوجته سنية رحمة الله عليها كانت لا تستسلم له إلا لأداء الواجب الشرعي. كانت تمقته بسبب دمامته، ولأن أهلها فرضوه عليها حتي تفسح مجال الزواج لأختها الصغري. وكانت تغار منه لأنه كاتب علي قدر من الشهرة، وتخشي أن يصاب بالغرور فيتخيل أنه السيد. وكانت تحمل بكالوريوس الصيدلة، ولكنها تؤمن بأعمال السحر، والتنجيم، وتحضير الأرواح. وكانت سلمي بشرا هي الأخري. كانت تغار من أختها لأنه مفتون بها، وقررت أن تنسف العلاقة بينهما. فزعمت أنها كانت مريضة وأنه بعد أن أعد لها القهوة انضم إليها في الفراش. وكانت الليلة عاصفة. وكان مستغرقا في النوم في بيته عندما أيقظه صوتها علي التليفون لتشكره علي حسن رعايته لها قفز عندئذ خارج الفراش، وهرع إلي حقيبته فأعدها وانطلق إلي المطار. وجاءته رسالة إلكترونية من أريسو تقول فيها: «لا يمكنك أن تتصور مدي حزني لرحيلي عن القاهرة. لقد أحببت المدينة وأحببت أهلها. وأنا أبكي كلما تذكرت أحاديثنا عن الموسيقي، وشقاءك في حبها. كنت أريد أن أبقي في القاهرة لعلني أتمكن من مساعدتك. ولكن لعل الأقدار رأفت بنا عندما اضطرتني إلي الرحيل. أرجوك لا ترد». وقد فهم. هي لا تريده أن يتصل بها. من حق الملائكة أن يهبطوا إليك. ذلك نوع من الجود الإلهي. ولكن ليس من حقك أن تصعد إليهم. انتهت الزيارة إذن؛ انتهي الحلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.