تقدم نواب محترمون بطلبات إحاطة للحكومة بسبب ارتفاع الأسعار، وطالبوا بتطبيق التسعيرة الجبرية لمواجهة جشع التجار. أخذت الحماسة بعض النواب فطالبوا بفرض تسعيرة جبرية لكل السلع، وهى الدعوة التى شاركهم فيها كتاب محترمون فى صحف قومية وخاصة. التسعيرة الجبرية أصبحت مطلبا عاما لنواب وصحفيين وكتاب، وهو ما يعكس المزاج الغالب لدى كثير من المصريين. كنت أظن أن زمن التسعيرة الجبرية قد ولى، وأن خبرتنا السلبية معها فى مراحل سابقة قد حصنتنا ضدها، لكن يبدو أن ذاكرتنا الجماعية قصيرة وضعيفة، وأن إعادة ارتكاب أخطاء الماضى ليست أمرا مستبعدا. يمكن للدولة فرض تسعيرة جبرية على عدد محدود جدا من السلع التى تقوم بدعمها، فتتحمل الفارق بين التكلفة الفعلية لإنتاج السلعة وسعر بيعها للمستهلك، بما فى ذلك هامش ربح مناسب للمنتجين والموزعين. تدعم الدولة خبز البطاقات التموينية، وتضمن للمخابز ربحا يشجعها على مواصلة الإنتاج. حتى الآن، واصلت الدولة دعم المحروقات، وهى تخسر بضعة جنيهات فى كل لتر بنزين يتم بيعه؛ فيما يحقق أصحاب محطات الوقود ربحا يغريهم على مواصلة العمل، وإلا أغلقوا المحطات واستثمروا أموالهم فى مجال آخر. السلع المدعومة والمسعرة جبريا يتم إنتاجها وتوزيعها فى جهات محددة معروفة بدقة، ويتم نقلها وتداولها والتجارة فيها بمعرفة أطراف ترتبط بتعاقد مكتوب بإحكام مع الحكومة، التى تتولى إدارة منظومة الدعم، بما يمكنها من فرض التسعيرة الجبرية بسلاسة نسبية. يختلف هذا كثيرا عن أن تقوم الدولة بفرض التسعيرة الجبرية على سلع كثيرة ينتجها وينقلها ويوزعها ويبيعها ويشتريها الناس بحرية؛ فيستطيع أى شخص إنتاج أى كمية يمكنه إنتاجها، ويستطيع أى شخص آخر شراء أى كمية يحتاجها فى أى وقت ومن أى مكان. محاولة فرض التسعير الجبرى على سلع من هذا النوع هو مهمة مستحيلة، لا تؤدى سوى إلى الاستهزاء بهيبة دولة تفرض تشريعات وقوانين لا تستطيع تنفيذها. التوسع فى فرض التسعيرة الجبرية لا يهز هيبة الدولة فقط، ولكنه يقوض الاقتصاد أيضا. هل نسينا الزمن الذى كانت فيه اقتصادات دول شرق أوروبا والصين تدار وفقا لنظام التسعيرة الجبرية الاشتراكي، حيث كان لكل سلعة سعر تحدده الدولة، فى نظام كانت الدولة فيه تتولى إنتاج أغلب السلع. انهار الاقتصاد الاشتراكى فى الاتحاد السوفيتى وأوروبا الشرقية، وانتقلت هذه البلاد إلى نظام السوق الرأسمالي. انسحبت الصين بطريقة منظمة وذكية من نظام التسعير الجبرى الاشتراكي، فحولت اقتصادها من اقتصاد الكفاف إلى ثانى أكبر اقتصاد على سطح الكوكب. مازالت كوريا الشمالية تبحث عن طريقة لمبادلة سلاحها النووى بطريقة آمنة للإقلاع عن نظام التسعيرة الجبرية الاشتراكي؛ أما فنزويلا - لمن لا يتابع - فقد حولها التمسك بنظام التسعير الجبرى إلى أكثر اقتصادات أمريكا اللاتينية فشلا، فوصل التضخم فيها هذا العام إلى 40000 %، نعم أربعون ألفا بالمائة، رغم التسعير الجبرى ورغم الدعم الذى تقدمه الحكومة لسلع عدة. نحن أيضا لدينا تجربتنا فى التسعير الجبرى وتدخل الدولة المفرط فى الاقتصاد. الكبار منا يذكرون الستينيات، عندما وضعت الدولة يدها على أغلب الاقتصاد، وعندما كان لكل شيء سعر محدد بطريقة جبرية، وبقرارات تصدرها أعلى السلطات الاقتصادية. كان للقماش والثلاجات ومواقد الغاز أسعار جبرية، وكذلك كان هناك سعر جبرى للكراسات والأقلام وللسيارة الوحيدة التى تنتجها مصانع الدولة؛ فيما كان الراديو يذيع التسعيرة الجبرية للخضر والفاكهة ضمن نشرة الصباح. لم يكن من السهل الحصول على أى هذه من السلع، فقد كان هناك نقص مزمن فى أغلبها، ناهيك عن التدهور الشديد فى جودتها. اضطر أغلبنا لدفع ثمن أعلى لقاء الحصول على احتياجاته من السلع المسعرة جبريا من السوق السوداء، أما باعة الخضر والفاكهة فكانوا لا يترددون فى البيع بالسعر الذى يناسبهم، طالما أمنوا ملاحقة مباحث التموين، التى كانت ومازالت تعمل بطريقة الحملات الموسمية. قانون الإيجار القديم هو أحد أشكال التسعير الجبري. بدأت أزمة الإٍسكان فى مصر بمجرد تطبيق هذا القانون؛ فعندما كف بناء المساكن عن أن يكون نشاطا مربحا للمستثمرين، هرب أصحاب الأموال لأنشطة أخرى تدر ربحا أكثر بعيدا عن التضييق الحكومي؛ وهو ما يحدث فى كل مرة تتدخل فيها الدولة لفرض تسعيرة جبرية. تراجع عدد الشقق السكنية المعروضة، وقبل الناس بتقديم مدفوعات غير قانونية لأصحاب العقارات، وظهرت مصطلحات مثل خلو رجل، ومقدم إيجار، فتحول الناس من مواطنين شرفاء إلى كاسرين للقانون، الذى تعلمنا تجاهله والاستهزاء به منذ ذلك الحين. السعر الرسمى لصرف العملة هو أيضا نظام للتسعير الجبري. أجبرت الحكومة المضطرين للتعامل مع القنوات المصرفية الرسمية على التخلى عن الدولار بسعر قل أحيانا عن نصف سعره فى السوق السوداء. اختفى الدولار من الأسواق، مثلما اختفت كل السلع التى تم تسعيرها جبريا قبل ذلك. اختفاء الدولار عطل الواردات من السلع ومستلزمات الإنتاج. تعطلت المصانع المعتمدة على مدخلات مستوردة، فخفضت الإنتاج، وحققت خسائر، وسرحت عمالا. بقينا على هذا الحال حتى تحلت حكومتنا بالحكمة والشجاعة، فحررت سعر الصرف. صحيح أن الأسعار آخذة فى الارتفاع منذ ذلك الحين، لكن الأنشطة الاقتصادية تتوسع، ومزيد من فرص العمل الجديدة يتم خلقها، والصناعة المصرية ومعها الصادرات تحقق معدلات نمو أعلى من معدل نمو الاقتصاد الوطني، الآخذ هو أيضا فى النمو بمعدلات متزايدة. الدعاة الجدد للتسعير الجبرى يدعوننا للتخلى عن كل ما تحقق من مكاسب تحققت مع تحرير الاقتصاد، من أجل محاولة محكوم عليها بالفشل للسيطرة على الأسعار. مشكلة مصر ليست فى الأسعار المرتفعة، فمازالت مستويات الأسعار فى مصر من أقل مستويات الأسعار فى العالم، لكن المشكلة هى الدخول والأجور المنخفضة، الأمر الذى يجب أن نركز عليه بدلا من إطلاق دعوات التسعير الجبرى الخرقاء. لمزيد من مقالات ◀ د. جمال عبدالجواد