في فبراير الماضي قررت محكمة القضاء الإداري، برئاسة المستشار عبدالمجيد المقنن، نائب رئيس مجلس الدولة، إحالة الدعوى المطالبة بإصدار حكم قضائي يلزم الحكومة بإصدار قرار بالتسعير الجبري للسلع والخدمات العامة، لهيئة مفوضي الدولة لإعداد التقرير القانوني الخاص بها. ذكر المدّعي أن سعر بيع الأسمنت وصل الطن منه اليوم ل800 جنيه، في حين أن تكلفته 250 جنيهًا على حد وصف مقيم الطعن الذي عرض أسعار السيراميك التي يتم بيع المتر منها بقيمة 50 إلى 100 جنيه، في حين أن تكلفته لا تتجاوز 75 جنيه. من جهة أخرى طالبت نقابة الصيادلة، الأسبوع الماضي، بتحديد تسعيرة جبرية لألبان الأطفال، كما دعت العديد من منظمات المجتمع المدني لفرض تسعيرة جبرية على بعض السلع الأساسية؛ لتقويض الارتفاع المستمر في أسعار بعض السلع الأساسية. البرلمان المقبل ومعضلة فرض التسعيرة الجبرية بعد حالة من الجدل القانونية والمجتمعية حول قانون التسعيره الجبرية، صدر حكمين عامي 2006 و2007 بعدم دستورية التسعيرة الجبرية، حيث أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها، برئاسة المستشار ماهر البحيري، وبعضوية المستشار عدلي منصور، والذي يقضي بعدم دستورية نص المادتين 85 من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 الخاص بشؤون التموين، و15 من المرسوم بقانون 163 لسنة 1950، الخاص بالتسعير الإجباري وتحديد الأرباح، ونص الحكم الثاني في القضية 124، بعدم دستورية الفقرة الأخيرة من المادة 56 من المرسوم بقانون رقم 95 لسنة 1945 المعدلة بقانون 109 لسنة 1980، والتي تتعلق بشؤون التموين. وبذلك يقضي الحكمان بعدم دستورية المواد الخاصة بقانون التسعيرة الجبرية، وبالتالي يكون أمام مجلس الوزراء الاكتفاء بالماده 10 من قانون منع الاحتكار وحماية المستهلك، والذي ينص على أنه في حالة وجود سلع مرتفعة الأسعار، يتم تحديد أسعار معينة للسلع يجب الالتزام بها. ومن المقرر أن ينظر البرلمان المقبل في مسألة التسعيرة الجبرية، والتي فتحت أكثر من مرة تحت قبة المجلس في نهاية السبعينات وفي منتصف التسعينات، ولم تحسم بشكل نهائي، وهو ما يعقد عليه البعض آمالًا في أن يقر برلمان 2015 تشريعًا جديدًا يقضي بفرض التسعيرة الجبرية على السلع الأساسية. دولة عبد الناصر.. نجاح ساحق في مراقبة الأسواق من يقف على تصريحات المسؤولين الآن التي تتحدث عن محدودي الدخل، ثم يعود بالذاكرة لستين عامًا مضت سيجد اختلافًا كبيرًا ليس فقط في لغة الخطاب أو مفهومه، لكن أيضًا في صدقه وجدية تنفيذه؛ فكلمات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عن الفقراء ومحدودي الدخل كانت بمثابة قوانين تنفذ في الحال، خاصة أن سخّر الدولة بأكملها في هذا الاتجاه، وتبنى شعار "الثورة من فوق" معتمدًا على إنهاء الإقطاع وفرض نفوذ الدولة على القطاعين العام والخاص؛ فأسس مع بداية الستينيات السياسات الاشتراكية التي جعلت الدولة قابضة على زمام الأمور المالية، ومن ثم استطاع التحكم في الأسعار والسيطرة على التجار. وبإمتلاك الدولة لزمام الأمور الاقتصادية والمالية كان من السهل عليها تسعير كل سلعة بالسعر التي تراه مناسبًا للفقراء ومحدودي الدخل، بغض النظر عن السعر الحقيقي للسلعة، وسمي هذا الإجراء "بالتسعيرة الإجبارية" هو قانون عرف عام 1945 فب مصر وقت الحرب العالمية الثانية لمواجهة جشع التجار، وكان يقضي بالحبس 5 سنوات للتاجر الذي يخالف التسعيرة - ونجحت دولة ناصر نجاحًا ساحقًا في فرض التسعيرة الإجبارية ساعدها في ذلك شكل اقتصاد الدولة الاشتراكي، والذي جعل من الحكومة بنكًا لجميع المحاصيل والسلع؛ فكل الانتاج يٌصب فيها وكل الإنتاج يوزع منها، فنجد مثلًا أن عبدالناصر ألزم وزارة الزراعة بشراء إنتاجية الفلاحين من محاصيل زراعية، كما نجد أن المعونات الخارجية والتي كانت متمثلة في أصناف معينة، مثل القمح والدجاج واللحوم، كانت تدخل مباشرة إلى خزانة الدولة قبل أن يتم توزيعها فيما بعد، حتى الاستيراد اقتصر نشاطة فقط على الدولة وليس الأفراد، وبذلك تمكنت الدولة المصرية في عهد عبدالناصر من السيطرة على الإنتاج الزراعي وجميع السلع الأخرى، ما أتاح له الفرصة للسيطرة على الأسعار، حيث التزمت الدولة بالتسعير الإجباري؛ فكان يتم حساب التكلفة الأصلية للمنتج أو المحصول مع إعطاء المزارع والمنتج هامش مناسب من الربح الذي يحفزه على العمل والإنتاج، وبعدها يتم طرح المنتج للمستهلك المستهلك بسعر غير مبالغ فيه وترتب على ذلك أيضًا السيطرة على الثروة الداجنة ومنتجاتها والتحكم في أسعارها وكذلك ضبط تسعيرة اللحوم. تلك التجربة ساعد على نجاحها إنشاء أجهزة رقابية على السوق، ما أدى لإخضاع جميع التجار للقانون، وأنشئت أيضًا هيئة السلع التموينية طبقًا لقرار إنشائها في عام 1961 والتي تكفلت بتدبير احتياجات البلاد من جميع السلع؛ سواء بالشراء من الأسواق المحلية أو بالاستيراد؛ فانتهت أشكال الاحتكار المختلفة التي يمكنها أن تدفع فرد للتحكم في سعر سلعة بعينها. اختلف الزمن.. فلماذا لا تختلف الآليات ومع اختلاف الزمن وتعدد أوجه النشاط الاقتصادي عادت مرة أخرى الدولة المصرية تفكر في فرض التسعيرة الجبرية، الأمر الذي يتنافى مع مبادئ النظام الرأسمالي والسوق الحر والذي بدأه الرئيس الراحل أنور السادات في بداية السبعينيات، وهو ما جعل التحكم في السوق متروك لآليات العرض والطلب، لكن بعد ثورة يناير ويونيو بدأ التفكير جديًا من قبل الحكومات المتعاقبة في فرض تسعيرة جبرية تحقيقًا لمبدأ العدالة الاجتماعية، وهو ما فشل فيه الدكتور هشام قنديل، رئيس الوزراء الأسبق، بينما اكتفى الدكتور حازم الببلاوي، رئيس الوزراء السابق، بفرض تسعيرة استرشادية، وهو ما خلق حالة من الجدل حول إمكانية تطبيق التسعيرة الجبرية. ردة اقتصادية يرى فريق من الخبراء الاقتصاديون، أن التلويح بفرض تسعيرة جبرية من قبل الحكومة يفتح الباب أمام عودة السوق السوداء، وتعطيش السوق من قبل التجار، معتبرين أن تلك الخطوة ردة اقتصادية إلى فترة الستينيات التي تميزت بالسياسات الاشتراكية، وهو ما يتنافى مع نظام اقتصاد السوق الحر الذي تتبناه مصر حاليًا والذي يتنافى أيضًا مع اتفاقيات التجارة الحرة التب وقعتها مصر مع العديد من الدول. وتبنى أصحاب هذا الاتجاه فكرة أن الاقتصاد الرأسمالي قائم علي فكرة التوسع في المنافسة, وإتاحة الفرصة لعرض السلع بالأسواق, على أن يختار المستهلك أفضل وأجود سلعة بأرخص سعر، معتبرين أن فكرة التسعيرة الجبرية ستدفع التجار لعرض السلع الرديئة، وهو ما سيدفع المواطن للجوء للسوق السوداء. ولم يخلو نقد الفكرة من نقد ابتعاد الدولة عن دورها الحقيقي في تفعيل جهات المراقبة على الأسواق؛ لإنهاء أي تلاعب ومنع الممارسات الاحتكارية الضارة التي تؤدي إلى رفع الأسعار، وتفعيل قانون حماية المنافسة، وتفعيل دور جهاز حماية المستهلك وتشجيع الاستيراد، وهي كلها أمور لا تتعارض مع آليات السوق الحر. شر لا بد منه يذهب فريق أخر من الخبراء الاقتصاديين، أن التسعيرة الجبرية هي شر لا بد منه في ظل حالة الارتفاع الجنوني للأسعار واستغلال التجار لاحتياجات المواطنين، مؤكدين أن التسعيرة الجبرية يجب أن تكون عادلة لا تظلم التاجر لصالح المستهلك، وهنا سيتطلب من الدولة التدخل بشكل أكبر؛ ليس فقط للرقابة على التجار، لكن أيضًا على المزارعين والمنتجين والمستوردين، كما يتطلب فرض التسعيرة الجبرية تفعيل جميع أجهزة الرقابة على الأسواق، وكذلك تشجيع جمعيات حماية المستهلك على القيام بدورها. ولا شك أن فرض تسعيرة جبرية سيدخل الدولة في دوامة ضبط تكاليف الإنتاج حتى تسطتيع محاسبة التجار، فليس المطلوب أن تسعر الدولة كل سلعة بسعر مرتفع وإلّا سيكون فرض التسعيرة الإجبارية أمر وهمي.