فى أواخر ثمانينيات القرن العشرين وأوائل التسعينيات، بدأ مسلسل انهيار الاتحاد السوفيتى ودول أوروبا الشرقية، وتحول هذه الدول بدرجات ووفق أساليب مختلفة نحو اقتصاد السوق والتنافسية وإعادة بناء نظمها السياسية والاقتصادية، واعتقدت الأغلبية من الساسة ورجال الفكر والمثقفين والفلاسفة بأن كارل ماركس وتأثيره فى مسار القرن العشرين وتحولاته الاجتماعية، قد ولت إلى غير رجعة، وأن الأفكار والانتقادات التى ساقها؛ لنقد المجتمع الرأسمالى خاصة فى كتابة الأشهر «رأس المال» لم تعد ذات جدوى، فى الفكر السياسى والاجتماعى، غير أنه بمناسبة مرور مائتى عام على ولادة ماركس، شهدت العديد من الدول محاولات لإعادة قراءة ماركس واستلهام بعض طروحاته ودراسة مدى قابليتها على تشكيل منظور جديد -ليس بالضرورة ماركسيا أو شيوعيا- وإنما فى إطار مناهضة عدم المساواة والفوارق الضخمة الناجمة عن تبنى النيو ليبرالية الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية وكذلك تعميق الممارسات الديمقراطية. ومن اللافت للنظر أن تكون أكثر هذه القراءات لماركس راديكالية من الولاياتالمتحدةالأمريكية، بلد الرأسمالية النموذجية وصاحبة الحلم الأمريكى، حيث يقوم بعض المنتمين للمنظمة الديمقراطية الاشتراكية الأمريكية والتى انبثقت من الحزب الاشتراكى الأمريكى عام 1973، من المفكرين والفلاسفة بإعادة قراءة ماركس، وشهدت هذه المنظمة نموا فى عدد المنتمين لها خلال العامين الماضيين وصل إلى 32 الفا ، ويحاول بعض أعضائها الجدد من الشباب أن يكتبوا صفحة جديدة فى تاريخ اليسار الأمريكى، بلغة أكثر راديكالية. ويقف وراء هذه القراءة لماركس فى أوساط اليسار الجديد، الأزمة المالية الكبرى عام 2008 حيث فقد ملايين الأمريكيين منازلهم، ومهد ذلك لفتح ثغرة فى وعيهم، وأعقب ذلك ظهور حركة «احتلوا وول ستريت» بشعارها المعروف «نحن ال99%» فى إشارة إلى تركز الثروات بين يدى 1% من السكان! ورغم أن هذه المحاولة لم تسفر عن تحول أو تغيير سياسى يعتد به فى الواقع، إلا أن الكثير من المراقبين يعتبرون أنها ساهمت فى تمهيد الطريق «لبرنى ساندرز» فى الانتخابات الأولية والتمهيدية للترشح فى انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016. فى هذا السياق اكتسب نقد ماركس للرأسمالية أهمية خاصة، لأنه زود الشباب الأمريكى اليسارى بعدة منهجية ومفاهيمية لكشف انعدام المساواة الاقتصادية والاجتماعية، والقبول بها كمسلمات لا تخضع للجدل والمناقشة، ومع ذلك فإن الفارق كبير بين طرح كارل ماركس لهذه المفاهيم، وبين استلهام اليسار الأمريكى لها، فالأول طرحها فى سياق تغيير مجتمعى شامل يعتمد على صراع الطبقات وقيادة الطبقات العاملة وحزبها، فى حين أن هذه القراءة لمفاهيم ماركس تستهدف استنكار عدم المساواة وتركز الثروات فى أيدى القلة، وتجديد الممارسة الديمقراطية، وهى المقولات والمفاهيم التى لا تدخل بالضرورة فى صميم الماركسية، كما أن «برنى ساندرز» لم يعترف بضرورة إلغاء الملكية الخاصة فى وسائل الإنتاج أو مصادرة الثروات الكبيرة ولكنه شدد على ضرورة الضريبة التصاعدية ودعم الخدمات العامة فى الصحة والتعليم. ولقد مثل صعود ترامب إلى مقعد البيت الأبيض فى الانتخابات الاخيرة، صدمة لليسار الجديد، حيث خسرت هيلارى كلينتون ملايين الأصوات التى أيدت باراك أوباما فى الانتخابات السابقة، وهو الأمر الذى قد يحفز اليسار الجديد على إتباع استراتيجية جديدة لمواجهة سياسات ترامب وبناء إطار جديد أكثر فاعلية وتأثيرا لمقاومة السياسات المنحازة للأغنياء. وبافتراض أن أية قراءة «لماركس» ترتبط بالشروط والمناخ الذى يحيط بها، مثل طبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية الراهنة، وكذلك شخصيات القراء أنفسهم أو القائمين على هذه القراءة والسياق الذى تتم فيه، بالإضافة إلى التغير العالمى فى مجمله، فإن قراءة اليسار الأمريكى الجديد قد لا تنخرط بالضرورة فى إطار مشروع سياسى ومجتمعى كامل للتغيير، بقدر ما ينخرط فى إطار تحقيق أهداف أقل طموحا من طموح كارل ماركس بكثير، مثل تقريب الفوارق بين الطبقات أو مقاومة التهميش المتزايد لقيمة العمل وتركزه فى إطار نخب مؤهلة حديثا، ولكنها مع ذلك فهى أهداف تتسم بالنبل والأخلاقية ورد الاعتبار لكارل ماركس والإضافة العلمية والإنسانية التى مثلها ولا يزال يمثلها نقده للرأسمالية وقابلية مفاهيمه ونظرياته على التأثير مجددا فى مجريات الأمور وإن بدرجة أقل، والأهم ربما تقديم نموذج لمقاومة السياسات النيو ليبرالية واليمينية المتطرفة نابع من بلد الرأسمالية والنيو ليبرالية الأم أى الولاياتالمتحدةالأمريكية. لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد