أعاد عالم الاقتصاد الفرنسى الشاب توماس بيكيتى الروح إلى قضية العدالة الاجتماعية فى النظام الرأسمالى. وطرح بيكيتى للمرة الأولى منهجا واضحا لفهم ظاهرة التفاوت وانعدام العدالة فى النظام الرأسمالى المعاصر، ليس بقصد إزاحته، لكن بقصد إصلاحه. وهو عبر عن ذلك بقوة فى مقال نشره أخيرا فى صحيفة «الفاينانشيال تايمز» (29 مارس 2014) بعنوان «أنقذوا الرأسمالية من الرأسماليين»! بعد أن اتهمه لفيف من الليبراليين المحافظين بأنه «كارل ماركس الحديث»، وهو اتهام كان المقصود منه تخويف الشباب من الالتفاف حول بيكيتى، وإبعاد نقاد النظام الرأسمالى من الاقتصاديين التقليديين عن المنهج، الذى قدمه العالم الفرنسى الشاب (42 سنة)، الذى توصل به إلى نتائج دامغة تدين الرأسمالية المتوحشة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. والحقيقة أن بيكيتى ليس أبدا كارل ماركس، فهو لم يؤسس منهجه التحليلى على نظرية فائض القيمة ولا على نظرية الاستغلال الناتج عنها. ولم يقسم بيكيتى الناس على أساس مواقعهم من علاقات الإنتاج داخل المجتمع. ولم يستند بيكيتى إلى «ثورية» الطبقة العاملة، ولم يدع عمال العالم للثورة كما فعل ماركس فى صيحته الشهيرة «يا عمال العالم اتحدوا». لقد وعى توماس بيكيتى حقيقة أن «ثورية» الطبقة العاملة تأسست على قواعد «الرأسمالية السلعية»، التى مارست تاريخيا دورا ثوريا ضد «النظام الإقطاعى المحافظ». الآن تخلى الطبقة العاملة من ذوى الياقات الزرقاء مكانها لفئات اجتماعية أخرى أكثر ديناميكية وأكثر قدرة على الحركة ترتبط جميعا بمجتمع «اقتصاد المعرفة» وليس بمجتمع «الاقتصاد السلعى». كارل ماركس كان ثوريا بمقدار ما كانت الطبقة العاملة، المرتبطة بالإنتاج السلعى المعتمد على الآلة التقليدية، طبقة ثورية. بيكيتى نشأ فى عالم مختلف توارت فيه الثورة الصناعية خلف سرعة البرق الخاطف للإلكترونيات وأشباه الموصلات والتراكم التكنولوجى المعرفى الذى يكاد يخترق إلى نهاية المدى حدود عالم «الندرة»، الذى ظلت البشرية حبيسة له منذ نشأتها. لقد انقسم المجتمع فى عصر بيكيتى إلى 1% من أصحاب الثروة بمصادرها المختلفة يسيطرون على مقادير 99% من بقية أعضاء المجتمع من أصحاب الدخول المختلفة الأقل. المجتمع إذن منقسم بين 1% و99%، وليس بين الطبقة العاملة التقليدية وبين أصحاب المعامل الصناعية. هذا هو عالم بيكيتى المختلف. أقول هذا منذ البداية لمحاولة قطع الصلة بين بيكيتى وبين الماركسيين التقليديين. فهم إذا احتضنوه فإنهم لا محالة قاتلوه بأنساقهم الفكرية المتحجرة وطريقة تفكيرهم السلفية التى تقوم على تجويد ما قاله كارل ماركس. وعندما طرح بيكيتى نظريته فى كتابة الشهير «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين» (بفونط كبير وعريض لكلمتى رأس المال وفونط رفيع أصغر كثيرا لبقية العنوان)، فإن كثيرين ربطوا بين رأسمال كارل ماركس ورأسمال بيكيتى! وقد أثار الكتاب الذى نشر للمرة الأولى فى مارس 2013 فى فرنسا دهشة الفرنسيين وبعض الأوروبيين، خصوصا فى الوسط الأكاديمى. لكنه بعد ذلك أثار دهشة العالم كله عندما ترجمته «هارفارد» فى الولاياتالمتحدة ونشرته بالإنجليزية هذا العام، فبيعت منه نحو نصف مليون نسخة فى أشهر قليلة. والأكثر من ذلك أن توماس بيكيتى العالم الاقتصادى وكتابه «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين» أصبحا هذا العام حديث الدنيا كلها، يسارا ويمينا. فالثائرون على حال التفاوت الحاد وانعدام العدالة فى الرأسمالية المتوحشة الحالية وجدوا فى الكتاب طريقهم لفهم ظاهرة التوحش الرأسمالى وليس فقط للاحتجاج ضدها. أما أولئك الليبراليون الجدد والمحافظون الذين أرجفتهم أفكار توماس بيكيتى فإنهم حشدوا كل قوتهم للوقوف ضده ومحاولة كسر موجته العالية قبل أن تغرقهم. ومن المثير للدهشة أن كبير المستشارين الاقتصاديين فى إدارة أوباما حاليا (جيسون فيرمانز) قاد هجوما حادا فى الولاياتالمتحدة على بيكيتى، فى حين أن الرئيس الأمريكى نفسه كان قد استعان بأفكار بيكيتى خلال حملته الانتخابية الأولى فى عام 2008 متأثرا بكتابات الاقتصادى الفرنسى الشاب التى كانت قد بدأت الانتشار فى أوساط الاقتصاديين بعد نشر كتابه المشترك عن الضرائب التصاعدية مع زميله عالم الاقتصاد الفرنسى إيمانويل سايز (2003). أما على الجانب الآخر من الأطلنطى فإن صحيفة «الفايننشال تايمز» البريطانية هى التى قادت الحملة الضارية على بيكيتى فى بريطانيا وأوروبا فى محاولة لشحذ همم اليمين المحافظ والليبراليين الجدد ضد بيكيتى الذى تحول إلى نجم ساطع، وضد أفكاره التى تحولت بسرعة إلى حمى ملتهبة تجتاح أوروبا وأمريكا. إن عظمة بيكيتى إنه وضع للعدالة الاجتماعية مفهوما علميا تجريبيا ومؤشرات مادية قابلة للقياس. كما أنه قدم للفكر الاقتصادى العالمى نقدا مريرا لتركز الثروة بين أيدى الأغنياء وتفسيرا للميل التاريخى لهذا التركز منذ نشأة النظام الرأسمالى حتى الآن. لقد توارت شمس العدالة الاجتماعية لفترة طويلة من الزمن، لكنها تعود الآن لتشرق من جديد، بعد فترة عانت فيها مصر من تبديد للثروات وزيادة فى حدة الانقسام بين من يملكون ومن لا يملكون، ترافقت مع اتجاه مماثل على المستوى العالمى، يضع لنا بيكيتى الإطار المعرفى لتفسيرها وفهمها.