أضحك لخيالى حين أرى كل قصة حب كنهر لا يكف عن الجريان ولا ينسى ابدا موعد الفيضان ؛ أما الجفاف فلا يعرف لنهر اى قصة حب طريقا . وكثيرا ما أقف على شاطئ النيل الموجود بجانب « مسرح الجيب « الذى صار أستديو تيلفزيونى ؛ لكنه لم يستطع محو مسرحيات اليونان القديمة بروعة اداء محسنة توفيق وتفوق سميحة ايوب وترجمة الساحر الاعظم لويس عوض سيد النقد العربى المعاصر ؛ ولذلك تطل من الذاكرة مشاهد أرى صورها ولا اتذكر كلماتها ؛ ولايستمر المشهد فى الذاكرة إلا لمحة وتستبدله الذاكرة بالمسرحية الاثيرة فى ايام عمرى وهى « الزفاف الدامى « لجارثيا لوركا هذا الشاعر الاسبانى الذى غلبتنى محبته إلى الدرجة التى أدمنت فيها رؤية مسرحيته الاثيرة فى عديد من ليالى إقامتى فى باريس ، لأشاهد الممثلة الأسبانية التى لم احفظ إسمها لكن أنوثتها كانت تحكى كل حكايات الغواية الناعمة منذ إيزيس وصولا إلى ميرل سترب دون ان تهمل كل من أفا جاردنر و صوفيا لورين و صوفى مارسو؛او كانها ملامح حبيبتى منذ رؤيتها على محطة الترام امام آداب الإسكندرية ........................... وكنت قد قلت لها منذ دقائق « اقسم بالله ان سؤالك لى جرحنى . وكان سؤالها : هل انا جميلة ؟ فاجبت : لا اعرف . تساءلت : ألم تعترف لى بما فى قلبك ؟ أجبت : أنا أقيس جمال اى إمرأة بما شربته عيونى من شعاع ريان يحيط بك كنهر شديد الخصب أعرف كل اسراره ؛ فإن وجدت فى اى إمرأة ظلالا لما فيك ، فهى جميلة ، وإن لم تكن فيها لمسة من روحك ؛ تتكوم أنوثتها كورقة يمكن إلقاءها فى سلة مهملات الذاكرة» . وبعد قولى رأيتها تتجه إلى باب الكلية لتأخذ الترام كى تعود إلى بيتها ؛ وكانت خطواتها تعلن للكون كله انها تولد من جديد رغم عمر التاسعة عشر. وأثق ان خطواتها قد عزفت موسيقى ميلادها فى قلبى. وآه من نهر الذاكرة الذى نتوهم أن مياهه واحدة ، الوهم الذى تسبب فيه؛ الخداع الذى نؤمن فيه بأن كل ذرة فى مياه النهر قد تتشابه مع الذرة الأخرى ولكنها مختلفة عنها ؛ فالواقع يؤكد إختلاف كل ذرة عن أخرى . وإذا كان ذلك حال ذرات مياه النيل فلماذا تصر ذرات خيال التذكار على أنها متطابقة ؟ هاهى ذرة خيال الذاكرة يتوقف بى عند مقعد القطار الذى ينقلنا من قلب باريس إلى حدود فرنسا الأسبانية لنقضى ليلا مسكونا بأحلام تواصل تبدو كأنها كونشرتو البيانو رقم واحد من إبداع تشايكوفسكى ؛ هذا الروسى الذى قام بتحطيم ثوانى زمانه ليحولها إلى إرواء لا ينتهى لأى روح عطشانة. ولم يكن هناك مفر من رؤية شمس الصباح تطل على قرية «بيربنيون» لندخل أسبانيا ولنجد فلاحى الحدود قد جاءوا يبيعون منتجاتهم من الفخار ، فأسأل عن إبريق كالذى كان يشرب منه لوركا ، فهمست البائعة لى « لا تذكر إسم لوركا لأن العسس من جنود فرانكو الديكتاتور قد يسمعونك ويعيدونك من حيث جئت «. تقفز فى ذاكرتى ملامح أستاذى الشاعر صلاح عبد الصبور وهو يقول لى « كان لوركا ضد أى وحشية كانت ؛ سواء وحشية الديكتاتور أو من يقفون ضده « . أذكر أنى قلت لأستاذى ´وسط حشود الواقفين ضد الديكتاتور يوجد ديكتاتور آخر ينتظر القفز مكان الديكتاتور القديم « . أضحك لنفسى حين أكرر تلك الواقعة لحبيبتى ؛ فأجدها تضحك مبتسمة « لا أنا ولا أنت نعتبر عبد الناصر ديكتاتورا ؛ لكن الكاتبة سيمون لاكوتير تراه كذلك ؛ على الرغم من أنه اطلق سراح كل المعتقلين من اليسار « . أرد متسائلا « وهل أعاد إفراجه عن أهل اليسار روح الكاتب المفكر شهدى عطية الشافعى إلينا وهو المؤرخ الذى ترك لنا واحدا من أروع الكتب بعنوان « تاريخ الحركة الوطنية « وهو الكتاب الذى أتمنى تدريسه لطلبة المدارس فى كافة مراحل التعليم لأنه يعيد ترتيب أفكار التاريخ ليعرف كل منا على أى أرض يعيش ؟ . لقد كان مقتل شهدى عطية هو السبب الذى جعل سيمون لاكوتير تطلب مقابلة زكريا محيى الدين وزير الداخلية آن ذاك لتحتج ؛ فخيرها الرجل بين الترحيل أو الصمت ؛ ورغم مرضها بالروماتزم المحتاج إلى شمس الأقصر . تقول الحبيبة : كانت تستأسد علينا؛ على الرغم من صمتها على فضيحة إذابة الأستاذ الجامعى أودين فى مزيج من حمض الكبريتيك وحمض النيتريك ؛ وإلقاء السائل بأكمله فى مجارى الجزائر أو مجارى الحى اللاتينى ؛ وكان السبب هو وقوفه ضد إحتلال فرنسا للجزائر ؛ وكان إختطافه قد تم بعد إبلاغ كافة الساسة فى باريس ؛ وضمنهم كان الجنرال ديجول الذى خرج من الجزائر وراح ينتظر فى قصر الإليزيه ملامح هزيمة العرب القادمة ، هكذا يصرح خادمه الخاص ؛ بينما يخاف ديجول من إصدار امر لجواسيسه لمعرفة أين بقايا جسد اودين استاذ الجامعة الذى اصر على ان الجزائر عربية ومن حقها الإستقلال؛ فخطفه العسس ليذيبوه . والأمر يختلف عند عبد الناصر ؛ فأنت من قلت لى أن ناصر نقل اللواء حسن المصيلحى وكل القائمين على معسكرات الإعتقال إلى وظائف اخرى ، وحسن المصيلحى صار وكيلا لمصلحة الجوازات ؛ وهو من لعن لك وأمامك جهة عملك روز اليوسف لأن اغلب العاملين فيها من اليسار ، وهو من صار يوقع على جوزات سفر من يأذن لهم عبد الناصر بالسفر كما اذن لك. ولولا تحمس الشاعر كامل الشناوى لبداية موهبتك وإيمان شعراوى جمعة بقدراتك على التعبير وإجادة كشف الوقائع كما لمس ذلك منك أثناء زيارتك للسويس وعندما كان هو محافظها فضلا عن خبرته بالبشر كنائب رئيس المخابرات الأسبق لولا ذلك لما حصلت على إذن الخروج والحضور إلى باريس؛ فضلا عن أن محمد زغلول كامل مدير الخدمة السرية السابق قد إحتاج لمن يسافر حاملا رسالة لا يعرف ما فيها؛ ولولا كل ذلك لما وجدت فى المطار إذنا ببدل سفر قدره مائة وخمسون جنيها إسترلينيا ، بموافقة السيد أحمد فؤاد اليسارى السابق ورئيس مجلس إدارة بنك مصر الأسبق والذى رأس ايضا مؤسسة روز اليوسف التى تعمل بها. أقول : كنت مندهشا لسرعة الموافقة على سفرى كمكافأة على ما نشرته بروز اليوسف من مذكرات الفنان الرسام المصور سيف وانلى؛ وقد استحقت إعجاب أحمد فؤاد رئيس مجلس الإدارة وإشادة الفنان حسن فؤاد مؤسس مجلة صباح الخير والذى سمعته يحكى حكاية إستشهاد شهدى عطية تحت وطأة الجلادين . ولم يفتنى ان أقول للواء حس مصيحلى « لماذا نقلوك من مكافحة اليسار ؟ ألا توجد عندك خبرة بما سوف يفعله اليمين كالإخوان المسلمين مثلا ؟ أجابنى « اليسار واليمين كلهم أولا ستين فى سبعين . على أية حال كانت شجاعة سيمون لاكوتير فى مواجهة زكريا محيى الدين نابعة من توهم أنها من اوربا الارقى من افريقيا التى ننتمى إليها ، فالجريمة الاوربية مجرد خطأ تاريخى والجريمة فى الشرق الأوسط هى مأسأة يمكن معايرتنا بها إلى الابد»» .................. يسيطر وهج بطلة مسرحية الزفاف الدامى على كل خيالى ؛ فهى إبنة الريف الممتلئة بوعد الخصب ؛ وهى من تستعد لزواج تقليدى من ثرى شاب يثير فخر عائلتها متوسطة الحال وتحذرها حكيمة العائلة المسنة من وهج إنجذاب القلب دون سابق تحذير . وكأن حكيمة العائلة قد قرات كف المستقبل؛ فهاهو الملول المتمرد جار العائلة يمر بحصانه امام شرفة الحلوة ، فتراه , وكأنه خرج من احلامها ليتجسد امامها. وهكذا ولدت الجاذبية القاتلة ؛ تلك التى دارت حولها كثير من الروايات لكنها لم تشخص كمرض لا علاج منه أبدا. والذاكرة تضم كثير من روايات تلك الجاذبية التى تقع حين يطل من شرفة الروح كائنا يغزو القلب بلا فكاك . فروعة الجاذبية تزيد من إفراز هرومانات المخ فتطيح بالواقع المعاش بعيدا. وعلى الرغم من انى قرأت عن تلك الوقائع كثيرا إلا ان مجيئها إلى الذاكرة وانا اخطو اولى الخطوات من قرية بربنيون حافة فرنساإلى قرية زهرة البحر على الشاطئ الأسبانى إلا أن مسرحية « الزفاف الدامى « هى التى إحتلت الخيال . وكأن طزاجة الممثلة المسرحية ريانة الخصب هى التى أزاحت من خيالى جوليت بطلة شكسبير العاشقة لروميو ؛ لتحتل تلك البطلة كل الخيال . سألتنى الحبيبة التى أقضى معها أيام عسل إخطتفناها من واقع قيود الشراسة الإجتماعية التى نظرت إلى مهنة الكاتب الصحفى وكأنه جامع إعلانات صفحات الوفاة فى القرى الريفية ، ولا يوجد فى مخيلتهم مكانا لاحمد بهاء الدين مؤسس المجلة التى أعمل بها ، وينظرون إلى إحسان عبد القدوس كأنه صانع فسق الدعوة إلى الحب على الرغم من انه مؤسس لقاء الحب على ضوء شهادة «لا إله إلا الله « ينطقها العاشق فترد الحبيبة « محمد رسول الله « وبدبلتين من الفضة ؛فيتأكد إرتباط الإثنين تحت مظلة التوحيد بعظمة الخالق . ولم يكن أمامنا سوى الزواج بعقد موثق بعيدا عن العيون ، ولكن الطروف أتاحت تذكرة السفر من القاهرة إلى باريس والعودة كمكافاة على حسن اداء مذكرات الفنان سيف وانلى ؛ وها انا فى باريس حيث تدرس الحبيبة ، لنقضى اياما ونحن نسهر يوميا فى مسرح لوركا بالحى اللاتينى ولنشاهد الممثلة التى يوجز إتزانها كل رضوخ بما تحكم به التقاليد ؛ لكن هاهو الفارس الذى إمتلأ زهقا من حياته السابقة التجهيز ؛ فيطل من شرفة روحها على شاطئ الجنون فتترك فستان الزفاف التقليدى لتعيش معه وسط غابة البدايات الساحرة. وكان من المؤلم ان تترصدهم وحوش النهايات الضارية فتطل شرور الواقع عبر ملامح القمر الفضى ، هذا القمر المخاتل الذى أوحى للعاشقين بوهم إنارة طريقهما و أنه سيزكز ضوءه على عيون من يطاردونهما . ويصعب على الإثنين الوصول إلى قسيس يرضى بزواج متزوج من إمرأة ثانية؛ فيقرران استبدال الكلمات المتضمنة مباركة السماء بالحوار مع السماء مباشرة. ولكن السكاكين تطل من عيون اهل العروس الهاربة من الزواج ، وترتجف الخناجر فى أيدى العريس وأصدقائه ولا يبقى للعاشقين سوى الموت ويبكيهما القمر الذى وشى بهما هامسا « لماذا خلقتنى السماء لمهمة الوشاية . ولا يجد إجابة لسؤاله سوى أغنية تلعن الخناجر والسكاكين التى تترصد الحب حين يكون إبنا للجاذبية القاتلة . .................. على الشاطئ الأسبانى يفاجئنا الفندق « بأن نجمة السينما الفرنسية « برجيت باردو «قد حجزت جناحا رئيسيا ومعها صديقها الجزائرى الأصل والمولد القادم من « البليده « التى يقال أنها موقع دفن اودين أستاذ الرياضيات المتمرد على فرنسا بأجمعها . وكان إستقلال الجزائر عن فرنسا بمثابة الفرح الملتاث ، فمن عاد إبنه بعد إنتهاء الحرب هناك عاش فى سعادة ؛ والعائلة التى فقدت عائلها فى تلك الحرب غرقت فى التساؤل « لماذا ضاع إبنى ؟ . وفى تلك الدوامة من المشاعر إلتقطت الممثلة الفرنسية برجيتت باردو ذات الجمال الخلاب عاشقا جزائريا تصحبه معها. فى كل مكان. طبعا نزول نجمة الإغراء فى نفس الفندق الذى نزلنا به ؛ كان هذا مثار دهشة فهو زهيد السعر لكنه فاخر بحكم موقعه على الشاطئ مباشرة ، كان مما يزيد تعجبى ، هو أن إقامتى بباريس كانت فى فندق « فلوريد « بشارع صغير اسمه شارع قديس الرب ، المتفرع من أحد شوارع باريس الشهيرة وهو « شارع كليبير وهو باسم القائد الفرنسى المقتول بالقاهرة ؛ بعد ان هرب منها نابليون عندما وصلته أنباء عن خيانة معبودته ذات الانوثة الخلابة « جوزفين « . ومن العجيب أن فتحة الدخول إلى شارع قديس الرب تقع مباشرة أمام العمارة الفارهة التى اشترت برجيت دورا كبيرا بها . ولأن قرية زهرة البحر لا يمكن إعتبارها مقصدا لعيون الصحفيين المتابعين للنجمة الباريسية ، لذلك كانت تتحرك بسهولة ويسر فى طرقات الفندق ومطعمه ولا أحد يزعجها . وكان العشيق الجزائرى يمشى أمامها أحيانا كانه الديك حارس الدجاجة ، ويمشى خلفها فى أحيان أخرى. سألتنى حبيبتى « ألن تجرى معها حوارا ؟ « قلت للحبيبة « كنت معى فى دعوة السفير جمال منصور لعبد الحليم حافظ وسمعت بأذنك حديث عبد الحليم معى من ان كل نجم فى اوربا له وكالة إعلامية تملى عليه ما يقول ولا ينشر إلا ما توافق عليه . وبالتالى لن افرض نفسى على نجمة إعراء كان آخر افلامها هو ما شهدناه معا فى سينما الشانزليزيه عن رواية الإحتقار لالبرتو مورافيا ؛ وهى رواية تحكى عن فيلم داخل فيلم ، وكان المخرج لوى جودار سيد الموجة الجديدة فى الإخراج الفرنسى هو من راى ان كل لحظة فى الحياة هى « فيلم « داخل «فيلم « وتستمر دقائق الحياة تكشف لنا طبيعه ما نخوضه من احلام ووقائع وصراعات . فبطل الفيلم يرغب من بيع جمال زوجته إلى منتج سينمائى لعله يكسب بعضا من الثروة ، والزوجة ترفض بشكل او بآخر ان تكون سلعة ، وهنا تهب نفسها لمن يستطيع التعامل معها كإنسانة لا كدمية أنثوية ، وهنا تهب نفسها لمن يستطيع بآخر ان تكون سلعة ، وهنا تهب نفسها لمن يستطيع إحترام إنسانيتها، لكنه يعاملها فى لحظات الحب كأداة يستمتع بها ثم يصيبه الملل فتلعن الجميع . ومن الغريب أن الفيلم قد صادف فى بعض تفاصيله حياة برجيت باردو نفسها ، فقد استولى العشيق الجزائرى على جزء لا يستهان به من ثروتها ، وأصر على أن تكتب سيارة السباق الفارهة بإسمه؛ ثم راح يتسكع فى المنتديات الثرية بباريس عارضا لنفسه لواحدة من أشهر موضات بيع الجسد التى يقوم بها رجل . وطبعا راحت برجيت باردو تلعن الجزائر وكل أهل الجزائر متذكرة مشهدا واحدا رأته فى البليدة بلدة العشيق وهو مشهد ذبح الأضاحى فى عيد الاضحى وراحت منذ إنفصالها عن هذا الجزائرى وهى تشن حملة لحماية الحيوانات من وحشية من يحتفلون بالذبح فى العيد. وصارت المدافعة عن حقوق الحيوان عند الإنسان . .................. بعد الأيام الباريسة دارت ثوانى اللحطات لتحمل الإنفصال الحتمى فى قصة الحب ، وكان القمر هو من حمل سكين طعن القصة فى مقتل . لكنى كلما مررت بجانب مسرح الجيب أرنو إلى النيل لأجد كل ذرة مياه تتابع لتلاحق الذرة الأخرى وكل منها تحمل فيلما داخل فيلم الحياة التى لا نتعرف على أحلى ما فيها , ولهذا يرضى الأمريكيون ببيع بلادهم كأشهر مرض نفسى معاصر ، ومازلت نشرات الأخبار تحمل كلمات كل كلمة منها هى فيلم من الكذب يجاول دحض حلم من الصدق . وتظل قصص الحب مولودة بلا نهاية ، ففى كل ثانية من ثوانيها قصة تروى قصة اخرى لمزيد من مقالات منير عامر;