بعد انخفاضها 2040 للجنيه.. مفاجأة بأسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة محليًا وعالميًا    زلزال قوي يضرب ساحل الإكوادور (تفاصيل بالخريطة)    جداول امتحانات شهر أكتوبر 2025 بالجيزة لجميع المراحل التعليمية (ابتدائي – إعدادي – ثانوي)    وزير الزراعة: تحديد مساحات البنجر لحماية الفلاحين وصادراتنا الزراعية تسجل 7.5 مليون طن    عاجل- الحكومة: لا تهاون في ضبط الأسعار.. ورئيس الوزراء يشدد على توافر السلع ومنع أي زيادات غير مبررة    تعليمات جديدة من التعليم للمعلمين ومديري المدارس 2025-2026 (تفاصيل)    أكثر من 40 عضوًا ديمقراطيًا يطالبون ترامب بمعارضة خطة ضم الضفة الغربية    نائب الرئيس الأمريكي يعرب عن تفاؤله إزاء وقف إطلاق النار في غزة    أوكا: الأهلي فاوضني مرتين.. ولهذا السبب رفضت اللعب للزمالك    إصابة 13 شخصا في إنقلاب ميكروباص على طريق «أبوسمبل- أسوان»    عاجل- بدء التقديم لحج الجمعيات الأهلية اليوم.. 12 ألف تأشيرة وتيسيرات جديدة في الخدمات    أبرزهم يسرا وهنا شيحة.. النجوم يتألقون على ريد كاربيت فيلم السادة الأفاضل    أنظمة الدفاع الجوي تتصدى لهجوم روسي على كييف    محمد عامر: الجونة تضم 18 فندقًا و670 محلًا تجاريًا بينها 110 مطاعم    محافظ الغربية: رفع درجة الاستعداد القصوى لانتخابات مجلس النواب 2025    إلغاء مباراة برشلونة وفياريال فى ميامى.. والبارسا يصدر بيانًا رسميًا    وزير الخارجية الأمريكي يبلغ رئيس وزراء العراق ضرورة نزع سلاح الفصائل الموالية لإيران    إخلاء مقر حاكم ولاية وايومنغ الأمريكية بعد العثور على عبوة ناسفة    هولندا تؤيد البيان الأوروبي الداعي لوقف إطلاق النار في أوكرانيا    سفيرة قبرص بالقاهرة: مصر خيارنا الأول.. ولو كان بوسعنا اختيار جيراننا لاخترناها    باريس سان جيرمان يكتسح ليفركوزن بسباعية في دوري الأبطال    «تقريره للاتحاد يدينه.. واختياراته مجاملات».. ميدو يفتح النار على أسامة نبيه    الشباب والرياضة تنهى إجراءات تسليم وتسلم إدارة نادى الإسماعيلى للجنة المؤقتة    موعد مباريات اليوم الأربعاء 22 أكتوبر 2025.. إنفوجراف    المدير التنفيذي للزمالك يكشف كواليس فشل الجمعية العمومية وأسرار الأزمة المالية    أرتيتا: مواجهة أتلتيكو مدريد كانت صعبة.. وجيوكيريس استحق التسجيل    ريكو لويس: سيطرنا على مباراة فياريال.. وجوارديولا يعلم مركزي المفضل    القومى للمرأة بسوهاج ينفذ مشروع تحويشة لدعم السيدات اقتصاديا بمركز المراغة    د. محمد العربي يكتب: دور الأزهر في التصدي للفكر الإرهابي    اعترافات المتهم بمحاولة سرقة مكتب بريد العوايد في الإسكندرية: من قنا وجاء لزيارة شقيقته    «حافظوا على سلامتكم».. تحذير من حالة الطقس اليوم: ظاهرة جوية «خطيرة»    وفاة شاب ابتلع لسانه أثناء مباراة كرة قدم في الدقهلية    الحماية المدنية تسيطر على حريق تدوير مخلفات شرق الإسكندرية    تشييع جثمان شاب بأسيوط ضحية انهيار بئر في محافظة المنيا    قرار جديد بشأن استئناف عامل المنيب على حكم سجنه بالمؤبد    سعر الدولار والريال السعودي أمام الجنيه قبل بداية تعاملات الأربعاء 22 أكتوبر 2025    رومانسي وحساس.. 4 أبراج بتحب بكل جوارحها    تكريم ياسر جلال في مهرجان وهران بالجزائر    فعاليات للتوعية ضد الإدمان وزواج القاصرات بعدد من المواقع الثقافية بالغربية    جامعة طنطا تحتفي بإنجاز دولي للدكتورة فتحية الفرارجي بنشر كتابها في المكتبة القومية بفرنسا    «نحن فى ساحة الحسين نزلنا».. المصريون يحييون ذكرى استقرار رأس الحسين.. وانتشار حلقات الذكر والابتهالات.. وخدمات الطرق الصوفية تقدم الطعام والشربات للزوار.. وطوارئ بمستشفى الحسين الجامعى لخدمة المحتفلين.. صور    انطلاق مهرجان القاهرة الدولى لموسيقى الجاز 30 أكتوبر بمشاركة 12 دولة    سفير الإمارات: العلاقات بين مصر وأبوظبي نموذج مثالي يحتذى به بين الدول    مواقيت الصلاة فى أسيوط الاربعاء 22102025    إمام مسجد الحسين: المصريون يجددون العهد مع سيدنا النبي وآل البيت    مجلس كلية طب طنطا يناقش مخطط تدشين مبنى الكلية الجديد    استشاري مناعة: الخريف أخطر فصول العام من حيث العدوى الفيروسية.. واللقاحات خط الدفاع الأول    خطر يتكرر يوميًا.. 7 أطعمة شائعة تتلف الكبد    تخلصك من الروائح الكريهة وتقلل استهلاك الكهرباء.. خطوات تنظيف غسالة الأطباق    أبرزها الموز والزبادي.. أطعمة تجنب تناولها على الريق    وزير الخارجية: نشأت فى أسرة شديدة البساطة.. وأسيوط زرعت الوطنية فى داخلى    الصليب الأحمر في طريقه لتسلم جثماني محتجزين اثنين جنوب غزة    هل يجوز تهذيب الحواجب للمرأة إذا سبّب شكلها حرجًا نفسيًا؟.. أمين الفتوى يجيب    المصري الديمقراطي يدفع ب30 مرشحًا فرديًا ويشارك في «القائمة الوطنية»    رمضان عبد المعز: "ازرع جميلًا ولو في غير موضعه".. فالله لا يضيع إحسان المحسنين    شاريسا سولي تشارك في لجنة القضايا العامة بمجلس الكنائس المصلحة العالمي    رئيس الوزراء يتابع عددا من ملفات عمل وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 21-10-2025 في محافظة الأقصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أهلا يا أنا
من تراتيل العشق القديم والطازج أيضا
نشر في الأهرام اليومي يوم 25 - 06 - 2015

ليس لعطش العشق إلا رهافة الارتواء .. وتحاول العين الإحاطة بكل هالة النور من المعشوق فتتسع الحدقات لتلملم آفاق المحبوب ؛ لكن هالات النور تصبح أكثر اتساعا من قدرة العين على الإحاطة بها . هكذا استقبل رمضان ، ليأتي أكثر من رمضان قديم إلى الذاكرة.

فهاهو رمضان باريسي يطل لتتجسد لحظاته على شاشة التذكار, حين قرر الأصدقاء أن يكون السحور في المطعم المغربي الصغير الواقع أمام مسرح «المولان روج »_ الطاحونة الحمراء _ هذا المسرح الذي عاش كمصدر لزيادة السياحة ، لكنه في الأصل كان مصدر التمرد على زيف الحياة الممنوحة للبشر ، حيث تتسع المسافة بين أقوال الساسة وبين الواقع اليومي ، وكان من أسسوا المسرح مجموعة متمردين من فناني باريس ضد البثور الواضحة على بشرة كرتنا الأرضية .
عن نفسي ، ما أن دارت الطاحونة الملونة بأضواء النيون حتى وجدت نفسي مسافرا بالخيال بعيدا عن المكان . ولتصحو في الذاكرة رحلة بين أمواج النور وتتوقف أمام الكعبة المشرفة ، بيت الحب الكبير ، فقد قال أبي عند رؤيتي للكعبة أول مرة أنها أول بيت وضعته السماء لآدم وحواء ، ولتبدأ منه رحلة بناء الحياة . و رفرفت الملائكة بأمر من الله فصار البيت الحرام قائماً .
، تساءلت عن مكان وجودي لحظة بناء الكعبة فور نزول آدم وحواء إلى الأرض ، وأجبت نفسي بأني كنت مجرد ذرة صغيرة في ظهر آدم أقف ضمن كل الذرات التي ستعمر الكون لنشهد على أن الحق الرحمن هو خالق الكون ، ودارت أحاسيسي بحثا عن الذرات التي سأخوض ضمنها رحلة الحياة على الأرض. وما أن نطقت أشهد ألا إله إلا الله ؛ حتى سمعت ذرة أخرى تشهد بمطابقة بين صوتي وصوتها وبدت كهيئة من أحببت .
انتبهت إلى رحلة الزمان الطويلة منذ أن كنت ذرة في ظهر آدم ، وحتى وجودي على المقهى الذي عاش عليه الرسام الأثير تولوز لوتريك ، وصادف قصة الحب بين الشاب الفنان وبين سيدة قلبه وكانت هي الراقصة التي تحول من خلالها فن البالية إلى استعراض تم تمويله من الثري الذي أرادها لنفسه ، ولما كان رنين النقود يقف حائلا بين الحبيبة وحبيبها ، وكان برد باريس قد دخل إلى صدرها بميكروب مرض الصدر ، لذلك رضخت الحبيبة مؤقتا للثري ، قابلة للزواج منه لقاء إنقاذ فريق الفنانين الحالم بإنتاج ضخم يعلم الناس حق الحياة معا في ألفة بلا صراع دموي . ومن المؤكد أني كنت السرحان الوحيد بعيدا عن أصدقائي الساهرين احتفالا ببدء رمضان على المقهى المغربي الواقع أمام « المولان روج « وهم صحبة تضم العديد من الدبلوماسيين والمثقفين ، والكل يقرر أن الصوم سيكون بعد تناول السحور . أما عبد الحليم حافظ فكان هو الداعي لهذا السحور كي يرد عدة عزومات من الذين دعاهم على سهرة بالمولان روج ، وهو من إلتفت حوله قلوب كل الموجودين ، فقد كان عائدا من رحلة أمريكية لاستكشاف آفاق علاج نزيف المريئ . وقرر المدعون أن يهدوه عودا صنعه مغربي محترف يعيش في باريس بتلك الحرفة .
وحين سألني أكثر من صديق أين يسرح خيالي . لم أقدر على الإجابة ، فما كنت أفكر فيه هو ذلك التاريخ الطويل منذ وجودي كذرة في ظهر آدم ومعي من شهدنا في صوت واحد بأنه خالق الكون . ألح عبد الحليم علي أن أقول ما أفكر فيه ، مستندنا إلى جميل أساده لي في الليلة السابقة حين غنى مساء اليوم السابق بعد أن نزلنا من عشاء أقامه على شرفه السكرتير الثاني للسفارة « عماد البط « ، وهو من كان يسكن في منزل يطل على حدائق اللوكسمبرج ، وبينما نحن نسير بجانب سور الحديقة قلت « هل يمكن أن تغني أغنيتك التي أحبها « الحلوة الحلوة الحلوة برمشوها السودة الحلوة « وغني عبد الحليم.
وعندما ذكرني بسابق جميله الذي لم تمض عليه سوى يوم واحد ؛ضحكت لعبد الحليم « ياعيني وطول ليلي لو صحبتك معي في رحلة خيالي منذ لحظة خلق الحق كل البشرية ، إلى اللحظة التي نجلس فيها على هذا المقهى المغربي والذي وعدنا وصاحبه بسحور عربي ، أي فول مدمس وجبنة بيضاء بزيت الزيتون ، وخبز بلدي ، ومخلل قادم من سيدنا الحسين ،وطبعا ستكون الوحيد بين الحضور الذي لن يمد يده إلى طبق الطرشي «.
ضحك عبد الحليم مؤكدا أن العيش المقمر الناشف قد جاء أيضا في الصباح على الطائرة المصرية بتكليف منه لشقيقه محمد ، فالحياة دون الخبز المحمص صعبة ، كما أن خبز باريس اللذيذ يؤذي معدته . وبما أن رمضان قد هل فعليه الحرص ألا يداهمه النزيف ، وتساءل ضاحكا « لماذا يتم تقييد كل الشياطين في سلاسل طوال رمضان ، وتظل شياطين النزيف منطلقة تترصده ؟ «
روى لي عبد الحليم فيما بعد مشهد النزيف الذي عاناه وشاهد بداياته في أثناء دخوله حمام ذهبية تقف في نهر النيل عند الكيت كات ومملوكة لأحد أقارب د. زكي سويدان الطبيب الذي كان يعالجه وعندما شاهد عبد الحليم بقع من الدم البسيط على الملعقة ، دخل الحمام وأخفى الملعقة في جيب الجاكيت ، خوفا أن يكون مريضا بالسل فتنتقل العدوى منه لأي إنسان يستخدم تلك الملعقة . لكنه لم يلحظ أن صاحبة العوامة كات ترقب بعيونها كل سلوك لهذا المطرب الشاب . وظنت أنه أخفى الملعقة في جيبه كي يقدمها إلى غريمتها التي تخطط لخطف زوجها ، وتكون الملعقة هي ما ستقدمه الغريمة لصانع السحر فيكرهها الزوج ، وعندما علا صوت السيدة ، تدخل د. زكي سويدان الذي كان عالما بمرض عبد الحليم ليسمع منه عبد الحليم لأول مرة قصة دوالي المريء النازفة . وعلى قدر ماكان المشهد مؤلما لعبد الحليم إلا أن الأكثر إيلاما هو علمه بطبيعة مرضه لأول مرة .
كانت عيون عبد الحليم تحدق في طبق الطرشي لحظة وضع أطباق الطعام على المائدة ، وعاد يكرر: كل الشياطين يتم تقييدها في رمضان إلا شياطين النزيف في معدتي . والكل يعرف أني أخاف من النزيف في رمضان .
أقول : لكل منا شياطين يتم تقييدها ، هناك شياطين تتحور في أشكال غير مألوفة .
عاد عبد الحليم لي يكرر طلبه لمعرفة كنت أافكر فيه .
فبدأت الحكاية .
باريس ورمضان يقلبان الأفكار بشكل لا نظير له؛ فبدت ذاكرتي كطائر يرفرف بأجنحة الحوادث فوق الأزمنة والأمكنة ، منذ أن ألقى أحد أبناء آدم بذرة كائن بشري آخر في رحم حواء أحبها ، فصار المولود فارسا ، يجوع لحنان آخر ، يدور بين الصحاري والأنهار ، لتأتي له الحبيبة ، ليولدها كيانا بشريا يشهد زفاف بلقيس لسليمان ؛ وينجب من يبحر في بطن الحوت فأرى قيصر مفتوناً بالتاج. وأعود ذرة صغيرة في ظهر فقير مصري يهتف من أجل أن يفك الله قيد السخرة . ليأتي رجل يدعي نسبه إلى « دحية « راوي أحاديث الرسول الكريم ، فينجب الرجل بناتا يزوج صغراهن لأبي ابن الفلاح الذي يملك بضعة فدادين . وكان ما يجمع الرجلان هو عشق باريس ، سافر كلاهما إليها لا طلبا لعلم ولكن عشقا للنزوة .
يضحك الحضور على قولي ، فأؤكد أنه صدق ، لكني لا أعرف كافة تفاصيل الحياة في بقية الإثنتي عشر مليونا من السنين ، وهي العمر التقديري لحياة البشر على الأرض ؛فهذه الملايين من السنين قد مرت قبل أن أقف ذات يوم في طفولتي أمام الكعبة لأشهد» لا إله إلا الله .. محمداً رسول الله» .
يقول عبد الحليم : المؤكد أني أحس برهبة عندما أوجد بمكة ،ويطمئن قلبي عندما أزور المدينة المنورة .
أقول :المدينة المنورة لها عبير خاص . و للهواء فيها له طعم مختلف في الرئتين . لها ضوء مبهج في الروح.
ويسألني محمد شكري حافظ ضابط المخابرات الذي يتخفى وراء منصب المستشار الدبلوماس بالسفارة : بما أنك صديق للفنان سيف وانلي وتكتب تاريخ حياته ، فكيف ترى ألوان المدينة المنورة ؟ أقول لفوري : تضيء سماء المدينة بأزرق ليس من ألوان الأزرق التقليدي ، ويتهادى في سمائها سحاب أبيض ليس من ألوان الأبيض التقليدي ، كأنه الخطو العاشق المشتاق لزيارة بيت رسول الله .والخشوع نوراني في الحرم النبوي .
يقول عبد الحليم : حين وقفت أمام قبر الرسول وجدت كل الكلمات عاجزة ، دعوت لأمي وأبي بأن يشربا من الحوض النوارني الذي حدثتني عنه الخالة نعيمة ، وقالت إن من يشرب منه يجد نفسه خالدا وشابا إلى الأبد .
أضحك قائلا : هل حكت لك الخالة نعيمة عن مشهد ذبح الموت ؟ تساءل الجميع : وهل يتم ذبح الموت ؟
أجبت : أمام منزل عبد الحليم وكنت نازلا في رمضان الماضي بعد الإفطار من منزل د. أحمد عكاشة ، وكان يطرح السؤال الصعب : هل تظن أن الموت سيموت يوما ما ؟ أجبت : والله سأسأل العضو الباقي من هيئة كبار العلماء والذي رفض مع قلة من العلماء أن يعتبروا الملك فؤاد أو فاروق من نسل النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
قال عبد الحليم : أذكر أني لقيتك أنت وأحمد عكاشة ، ورأيتني أشوط حجرا أرض الشارع ، فقلت أنت لا تقسو على الحجر ، فلعله من عظام أجدادنا . وقال لك أحمد عكاشة « وعدتني أنك ستسأل الشيخ الذي مازلت أحفظ اسمه وهو « إبراهيم الغرباوي » عن ميعاد موت الموت ، وضاعت الحكاية وسط زحمة الحياة ، فهل سألته ؟
قلت : ذهبت إلى شارع باب الوزير حيث كان يسكن الشيخ الجليل ، وكانت أصابعه تبهرني ، لأنها تشع بصفاء من لا يجلس بغير وضوء . وسألته « هل سيأتي يوم يختفي فيه الموت ؟» ، فأشار إلى كتاب يجمع الأحاديث القدسية وهو ضمن كتب السيرة التي أمر جمال عبد الناصر بجمعها بعد تنقيتها . ووجدت حديث ذبح الموت في آخر الكتاب ، حيث يقال أن رب العزة سيأتي بملك الموت بعد أن يفرغ حساب البشر ، ودخل أهل النار إليها وسكن أهل الجنة فيها ، ويأمر سبحانه بذبح الموت .
قال أحد الحاضرين : وهل علينا الإنتظار إلى يوم القيامة لنرى ذبح الموت ؟.
قال عبد الحليم : لا يهم الانتظار .. لكن المهم أننا عرفنا أن الموت سيموت ذات لحظة قادمة .
قال صلاح بسيوني وكان في منصب سكرتير أول السفارة وينتظر درجة المستشار : عندما فقدت زوجتي أم أولادي ، كان الحزن يقتلني فسافرت إلى العمرة ، وإنطلق لساني بثرثرة لا أذكرها ، ولكنها أراحتني .
أقول : عن نفسي عندما وقفت أمام قبر الرسول قلت له كلاما مازلت أذكره .
أذكر أني قلت « تكسرت مجاديف قارب قلبي في بحور العشق يا رسول الله . فهل تشفع لي يوم ينفصل النور عن النار ويوم تمتد حدائق الفردوس عطاءً من الله لأهل حقيقة وضرورة وجود الإنسان على الأرض . رأيت الإيمان نور وضاح بجمال عرش الرحمن ، والنار ظلام صاعق بتمام جبروت القهار .
قال عبد الحليم : هل رأيت كتابك بيمينك أم بيسارك؟ أجبت : لا أتذكر
...............
فرغنا من تناول طعام السحور لأول مرة بباريس . وقررنا العودة إلى أماكن إقامتنا . كان عبد الحليم يقيم في فندق ذى نجوم ثلاثة هو جراند أوتيل قريبا من السفارة ، فلم يكن قد عرف الإقامة الباريسية الفائقة الثراء على نفقة الملك الحسن ، فالزمن كان 1964 .
وكنت أقيم في فندق ذا نجمتين في شارع قديس الرب ، هو فندق فلوريدا . وما أن دخلت الفندق حتى وجدت صاحبه مسيو سينيا يقول لي» فقدت سهرة هامة . كان هنا حارس برجيت باردو الجزائري ، وهو سائقها والمعروف أنه حبيبها ، وكان يعلن عن زهقه منها ويطلب مني التوسط له للعثور على عمل .
ضحكت صارخا : هل جميلة جميلات باريس واقعة في عشق جزائري شاب ؟ هذا عالم مجنون بالفعل . إن نصف رجال العالم يتمنون لحظة من رضاها ، فتقع هي أسيرة حب سائقها وحارسها ، ويتمرد هو على هواها .
قال صاحب الفندق : يبدو أنك لم تشاهد مسرحية العاهرة الفاضلة لسارتر ؟
أجبت : قرأتها وشاهدتها بالقاهرة .
قال : كل امرأة لامعة تقع غالبا في عشق إنسان تريد أن تصنعه على هواها ، عكس الرجال الذين تلتقي بهم في الحياة والعمل .
أقول : دنيا مفلوتة العيار .
قال صاحب الفندق : ألم تعلم أنها دنيا مفلوت عيارها إلا الآن ؟
...............
صعدت غرفتي . اختلط رمضان الباريسي بعطر يضيء الوجدان ، فأتأمل الكون لأكتب في مذكراتي أسئلة عن بركان صغير هو أيام عمري ؛فرأيت الغراب يرتدي ريش العصفور والقرد يلعب دور الأسد . والمقلد يدعي أنه صاحب الصدق . والأفعى تتكور في شكل حمامة . و شاهدت الكثير من رحلات تزييف الزمان والمكان . وكيف صارت الخطوات على الأرض نار . ورأيت الكلمات تخرج من أفواه تظهر منها الأحشاء . وناقشت عقولا لا تفكر ، إنما تسقط بين أقدام اللاعبين ككرة القدم . وكيف يساق الهزل إلى ارتفاع غير تقليدي فنصدق أن الهزل هو الجد، بينما كان الكثير من الجد ينسحق تحت رصاص الهزل . أحدث الرسول وأنا راقد على سريري في الفندق الباريسي ، أحاول ترتيب رأسي على الوسادة المدورة ، فوسائد فنادق باريس مدورة وليست مستطيلة . أهمس له : جاء قولك الشريف بمعناه «رأس العقل بعد الإيمان التودد إلى الناس ، وأهل التودد لهم درجة في الجنة ، ومن كانت له درجة في الجنة فهو فيها ، وما يستغني رجل عن مشورة ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة . فهمت من قولك هذا أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستطيع أن يعيش بمفرده . بل كل منا هو وسيلة لمساعدة الآخر ؛ فنقيم من أعمالنا نسيج عمرنا . وعندما تتآلف خيوط النسيج يكون ثوب العمر قوياً . وعندما تدعي خيوط أنها أقوى من خيوط أخرى أو أفضل منها يتهرأ النسيج فيكون مجرد ثوب يكشف ولا يستر .
يسافر بي النوم إلي مدينة ميلادي الإسكندرية المغسولة بمطر الشتاء ودموع القهر، وفيها سمعت التحذير من عساكر الإنجليز في الشارع أثناء سنوات ما بعد الحرب العالمية ، و حاصرني الخوف في نافذة المنزل . وجاءت لي الصحف أتعلم فيها القراءة . فقرأت عن مذابح البشر في أماكن كثيرة من الأرض . كبرت لأرى قصص العشق تنتحر لأنها بلا بيت . تتحول أجيال من عشاق هذا الزمان إلى مجرد ريش في تموجات العواصف . واليأس هواء . والعدو يرتدي زي الحليف . والعيون تخرج منها سهام الاتهامات فتفصل بين الأخوة .و البيت الأبيض الأمريكي يمسك ببعض الخيوط .والكرملين يمسك ببعض أخر. ودول أوروبا تتقافز من أجل امتلاك بعض الخيوط .
فهل يمتلك أهل المعروف خيوط أعمارهم ؟.أتذكر ما قاله لي أبي منذ سنوات طويلة « لا تسرف في ركوب أفكارك حتى لا تغادر الدنيا وحيداً» . ولم أسمع نصيحة أبي فركبت حصان كل الأفكار؛ ليلقيني حصان السياسة الجامح من فوق ظهره . فهو حصان يركبه من لا قلب له . أما أصحاب القلوب فليس لهم إلا عشق المرأة والخوف على الأطفال . ولم يكن قلبي يملك ثمن شراء بيت ولا ثمن تربية أطفال . وحاولت أن أركب فرس النقود ؛ فسألني أن أبيعه ضميري ولم أستطع . فألقاني من فوق ظهره . ورضي حصان العشق بي كإنسان بسيط أسعى بين المدن سائلا ً عن العدل . رأيت العدل محاصراً في معظم المدن التي خطوت إليها.
في باريس رأيت ديجول ينقذ نفسه من دوامة أنياب ثوار الجزائر ..لكن رؤساء المدن الأوروبية اجتمعوا حول العدل يسلخون جلده ويطبخون لحمه ويقتسمون الفتات الملقى إليهم من موائد المدن الكبرى.
قال لي العدل وهو على طبق الرؤساء الأوروبيين :
- لا تظن أني أخرس . أنا النار التي تحرق الجميع بالشوق إلى الأمان ، والأمان مفقود بين الرجل وزوجته . وبين الإنسان والأرض . والصواريخ الذرية تهدم الأمل في كل القلوب حتى ولو لم تنطلق هذه الصواريخ .
.. .. ..
قال لي العدل وهو على طبق الرئيس الأمريكي :
- أنا أتحول إلى بغضاء . يتوهمون أني موجود في الدولار فيتخاطفونه . ويستنزفون أنفسهم في السيادة على الكون ويدعون أن لهم القوة المطلقة ، بينما ميكروبات الأمراض لا علاج لها . والإدمان موجود بنسبة اثنين إلى أربعة . والمرض العقلي موجود بنسبة اثنين إلى أربعة . والديكور الفخم يتغير كل أربع سنوات حتى لا يعي رئيس اللعبة أسرارها فيمضي خائفاً أو لاعناً .
.. .. ..
قال لي العدل وهو على طبق الرئيس الروسي أو الصيني :
- أنا أتحول إلى خوف يلعن به كل إنسان جاسوسه الخاص ؛ حتى الجاسوس له جاسوسه الخاص .ولم أسأل عن العدل العربي ، فقد غرقت في النوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.