حيل وألاعيب يستخدمها المشكك في نشر الشبهات، فيديو جديد لوحدة بيان في الأزهر    مصر تتعاقد على شراء 7 قطارات نوم قادمة من إسبانيا    قرار عاجل من محافظ الإسكندرية بشأن غرامات الذبح في عيد الأضحى (تفاصيل)    إسرائيل تنشر صورة الصحفي المصري محمد شبانة وتصفه بقائد مقاومة فى رفح    تقرير: جهود زيلينسكي الدبلوماسية تتلقى ضربة مزدوجة قبل قمة سويسرا    السيسي يتلقى اتصالا من الرئيس الأمريكي لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة    نصرالله: على إسرائيل أن تنتظر من المقاومة في لبنان المفاجآت    بعد تعرضه لكسر في الوجه، أسامة جلال يظهر بالقناع في تدريبات بيراميدز    نهائي دوري أبطال أفريقيا، تفوق الأهلي على الترجي في مباريات الإياب    مباشر سلة BAL - الأهلي (0)-(0) الفتح الرباطي.. بداية اللقاء في المرحلة الترتيبية    مفاجأة، جنى دفنت مكان ملك فى حادث معدية أبو غالب    أحمد مجاهد رئيسا للجنة الندوات بالمهرجان القومي للمسرح    أعضاء القافلة الدعوية بالفيوم يؤكدون: أعمال الحج مبنية على حسن الاتباع وعلى الحاج أن يتعلم أحكامه قبل السفر    الأعراض الرئيسية لمرض السكري لدى الأطفال والمراهقين    متصلة: أنا متزوجة وعملت ذنب كبير.. رد مفاجئ من أمين الفتوى (فيديو)    «العمل» تكشف تفاصيل توفير وظائف زراعية للمصريين باليونان وقبرص دون وسطاء    منتخب مصر للساق الواحدة: تعرضنا لظلم تحكيمي ونقاتل للتأهل لكأس العالم    الأمم المتحدة تحذر من انتشار اليأس والجوع بشكل كبير فى غزة    الترقب لعيد الأضحى المبارك: البحث عن الأيام المتبقية    لاتفيا وفنلندا: سنتابع بهدوء وعن كثب خطط الحدود البحرية الروسية    بعد جائزة «كان».. طارق الشناوي يوجه رسالة لأسرة فيلم «رفعت عيني للسما»    بعد تلقيه الكيماوي.. محمد عبده يوجه رسالة لجمهوره    بسبب فستان.. القصة الكاملة ل أزمة ياسين صبري ومصمم أزياء سعودي (صور)    لمدة 4 ساعات.. قطع المياه عن هضبة الأهرام بالجيزة اليوم    سكرتير عام البحر الأحمر يتفقد حلقة السمك بالميناء ومجمع خدمات الدهار    تحديث بيانات منتسبي جامعة الإسكندرية (صور)    «الرعاية الصحية» تشارك بمحاضرات علمية بالتعاون مع دول عربية ودول حوض البحر المتوسط (تفاصيل)    قوافل جامعة المنوفية تفحص 1153 مريضا بقريتي شرانيس ومنيل جويدة    فيلم "شقو" يواصل الحفاظ على تصدره المركز الثاني في شباك التذاكر    مبابي يختتم مسيرته مع باريس سان جيرمان في نهائي كأس فرنسا    المفتي يرد على مزاعم عدم وجود شواهد أثرية تؤكد وجود الرسل    متي يحل علينا وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024؟    التعليم العالي: جهود مكثفة لتقديم تدريبات عملية لطلاب الجامعات بالمراكز البحثية    أوقاف القليوبية تنظم قافلة دعوية كبرى وأخرى للواعظات بالخانكة    محافظ أسيوط يتابع مستجدات ملف التصالح في مخالفات البناء    التنمية الصناعية تبحث مطالب مستثمري العاشر من رمضان    أبرزها قانون المنشآت الصحية.. تعرف على ما ناقشه «النواب» خلال أسبوع    الرئيس البرازيلي: منخرطون في جهود إطلاق سراح المحتجزين بغزة    عائشة بن أحمد تكشف سبب هروبها من الزواج    مدير جمعية الإغاثة الطبية بغزة: لا توجد مستشفيات تعمل فى شمال القطاع    اكتشاف فيروس إنفلونزا الطيور H5N1 في الأبقار.. تحذيرات وتحديات    الشرطة الإسبانية تعلن جنسيات ضحايا حادث انهيار مبنى في مايوركا    الإفتاء: الترجي والحلف بالنبي وآل البيت والكعبة جائز شرعًا في هذه الحالة    وزير الري: إفريقيا قدمت رؤية مشتركة لتحقيق مستقبل آمن للمياه    أول جمعة بعد الإعدادية.. الحياة تدب في شواطئ عروس البحر المتوسط- صور    بالأسماء.. إصابة 10 عمال في حريق مطعم بالشرقية    "العد التنازلي".. تاريخ عيد الاضحي 2024 في السعودية وموعد يوم عرفة 1445    أبرزها التشكيك في الأديان.. «الأزهر العالمي للفلك» و«الثقافي القبطي» يناقشان مجموعة من القضايا    11 مليون جنيه.. الأمن يضبط مرتكبي جرائم الاتجار بالنقد الأجنبي    الأكاديمية العسكرية المصرية تنظم زيارة لطلبة الكلية البحرية لمستشفى أهل مصر لعلاج الحروق    رئيس الأركان يتفقد أحد الأنشطة التدريبية بالقوات البحرية    الإسكان: تشغيل 50 كم من مشروع ازدواج طريق «سيوة / مطروح» بطول 300 كم    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على محاور القاهرة والجيزة    «دولارات الكونفيدرالية» طوق نجاة الزمالك    5 نصائح للتعامل مع منخفض جوي يضرب البلاد الأيام المقبلة.. تحذير من ظاهرة جوية    حظك اليوم برج العقرب 24_5_2024 مهنيا وعاطفيا..تصل لمناصب عليا    مدرب الزمالك السابق.. يكشف نقاط القوة والضعف لدى الأهلي والترجي التونسي قبل نهائي دوري أبطال إفريقيا    عادل عقل يكشف صحة هدف الزمالك وجدل ركلة الجزاء أمام فيوتشر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أهلا يا أنا
من تراتيل العشق القديم والطازج أيضا
نشر في الأهرام اليومي يوم 25 - 06 - 2015

ليس لعطش العشق إلا رهافة الارتواء .. وتحاول العين الإحاطة بكل هالة النور من المعشوق فتتسع الحدقات لتلملم آفاق المحبوب ؛ لكن هالات النور تصبح أكثر اتساعا من قدرة العين على الإحاطة بها . هكذا استقبل رمضان ، ليأتي أكثر من رمضان قديم إلى الذاكرة.

فهاهو رمضان باريسي يطل لتتجسد لحظاته على شاشة التذكار, حين قرر الأصدقاء أن يكون السحور في المطعم المغربي الصغير الواقع أمام مسرح «المولان روج »_ الطاحونة الحمراء _ هذا المسرح الذي عاش كمصدر لزيادة السياحة ، لكنه في الأصل كان مصدر التمرد على زيف الحياة الممنوحة للبشر ، حيث تتسع المسافة بين أقوال الساسة وبين الواقع اليومي ، وكان من أسسوا المسرح مجموعة متمردين من فناني باريس ضد البثور الواضحة على بشرة كرتنا الأرضية .
عن نفسي ، ما أن دارت الطاحونة الملونة بأضواء النيون حتى وجدت نفسي مسافرا بالخيال بعيدا عن المكان . ولتصحو في الذاكرة رحلة بين أمواج النور وتتوقف أمام الكعبة المشرفة ، بيت الحب الكبير ، فقد قال أبي عند رؤيتي للكعبة أول مرة أنها أول بيت وضعته السماء لآدم وحواء ، ولتبدأ منه رحلة بناء الحياة . و رفرفت الملائكة بأمر من الله فصار البيت الحرام قائماً .
، تساءلت عن مكان وجودي لحظة بناء الكعبة فور نزول آدم وحواء إلى الأرض ، وأجبت نفسي بأني كنت مجرد ذرة صغيرة في ظهر آدم أقف ضمن كل الذرات التي ستعمر الكون لنشهد على أن الحق الرحمن هو خالق الكون ، ودارت أحاسيسي بحثا عن الذرات التي سأخوض ضمنها رحلة الحياة على الأرض. وما أن نطقت أشهد ألا إله إلا الله ؛ حتى سمعت ذرة أخرى تشهد بمطابقة بين صوتي وصوتها وبدت كهيئة من أحببت .
انتبهت إلى رحلة الزمان الطويلة منذ أن كنت ذرة في ظهر آدم ، وحتى وجودي على المقهى الذي عاش عليه الرسام الأثير تولوز لوتريك ، وصادف قصة الحب بين الشاب الفنان وبين سيدة قلبه وكانت هي الراقصة التي تحول من خلالها فن البالية إلى استعراض تم تمويله من الثري الذي أرادها لنفسه ، ولما كان رنين النقود يقف حائلا بين الحبيبة وحبيبها ، وكان برد باريس قد دخل إلى صدرها بميكروب مرض الصدر ، لذلك رضخت الحبيبة مؤقتا للثري ، قابلة للزواج منه لقاء إنقاذ فريق الفنانين الحالم بإنتاج ضخم يعلم الناس حق الحياة معا في ألفة بلا صراع دموي . ومن المؤكد أني كنت السرحان الوحيد بعيدا عن أصدقائي الساهرين احتفالا ببدء رمضان على المقهى المغربي الواقع أمام « المولان روج « وهم صحبة تضم العديد من الدبلوماسيين والمثقفين ، والكل يقرر أن الصوم سيكون بعد تناول السحور . أما عبد الحليم حافظ فكان هو الداعي لهذا السحور كي يرد عدة عزومات من الذين دعاهم على سهرة بالمولان روج ، وهو من إلتفت حوله قلوب كل الموجودين ، فقد كان عائدا من رحلة أمريكية لاستكشاف آفاق علاج نزيف المريئ . وقرر المدعون أن يهدوه عودا صنعه مغربي محترف يعيش في باريس بتلك الحرفة .
وحين سألني أكثر من صديق أين يسرح خيالي . لم أقدر على الإجابة ، فما كنت أفكر فيه هو ذلك التاريخ الطويل منذ وجودي كذرة في ظهر آدم ومعي من شهدنا في صوت واحد بأنه خالق الكون . ألح عبد الحليم علي أن أقول ما أفكر فيه ، مستندنا إلى جميل أساده لي في الليلة السابقة حين غنى مساء اليوم السابق بعد أن نزلنا من عشاء أقامه على شرفه السكرتير الثاني للسفارة « عماد البط « ، وهو من كان يسكن في منزل يطل على حدائق اللوكسمبرج ، وبينما نحن نسير بجانب سور الحديقة قلت « هل يمكن أن تغني أغنيتك التي أحبها « الحلوة الحلوة الحلوة برمشوها السودة الحلوة « وغني عبد الحليم.
وعندما ذكرني بسابق جميله الذي لم تمض عليه سوى يوم واحد ؛ضحكت لعبد الحليم « ياعيني وطول ليلي لو صحبتك معي في رحلة خيالي منذ لحظة خلق الحق كل البشرية ، إلى اللحظة التي نجلس فيها على هذا المقهى المغربي والذي وعدنا وصاحبه بسحور عربي ، أي فول مدمس وجبنة بيضاء بزيت الزيتون ، وخبز بلدي ، ومخلل قادم من سيدنا الحسين ،وطبعا ستكون الوحيد بين الحضور الذي لن يمد يده إلى طبق الطرشي «.
ضحك عبد الحليم مؤكدا أن العيش المقمر الناشف قد جاء أيضا في الصباح على الطائرة المصرية بتكليف منه لشقيقه محمد ، فالحياة دون الخبز المحمص صعبة ، كما أن خبز باريس اللذيذ يؤذي معدته . وبما أن رمضان قد هل فعليه الحرص ألا يداهمه النزيف ، وتساءل ضاحكا « لماذا يتم تقييد كل الشياطين في سلاسل طوال رمضان ، وتظل شياطين النزيف منطلقة تترصده ؟ «
روى لي عبد الحليم فيما بعد مشهد النزيف الذي عاناه وشاهد بداياته في أثناء دخوله حمام ذهبية تقف في نهر النيل عند الكيت كات ومملوكة لأحد أقارب د. زكي سويدان الطبيب الذي كان يعالجه وعندما شاهد عبد الحليم بقع من الدم البسيط على الملعقة ، دخل الحمام وأخفى الملعقة في جيب الجاكيت ، خوفا أن يكون مريضا بالسل فتنتقل العدوى منه لأي إنسان يستخدم تلك الملعقة . لكنه لم يلحظ أن صاحبة العوامة كات ترقب بعيونها كل سلوك لهذا المطرب الشاب . وظنت أنه أخفى الملعقة في جيبه كي يقدمها إلى غريمتها التي تخطط لخطف زوجها ، وتكون الملعقة هي ما ستقدمه الغريمة لصانع السحر فيكرهها الزوج ، وعندما علا صوت السيدة ، تدخل د. زكي سويدان الذي كان عالما بمرض عبد الحليم ليسمع منه عبد الحليم لأول مرة قصة دوالي المريء النازفة . وعلى قدر ماكان المشهد مؤلما لعبد الحليم إلا أن الأكثر إيلاما هو علمه بطبيعة مرضه لأول مرة .
كانت عيون عبد الحليم تحدق في طبق الطرشي لحظة وضع أطباق الطعام على المائدة ، وعاد يكرر: كل الشياطين يتم تقييدها في رمضان إلا شياطين النزيف في معدتي . والكل يعرف أني أخاف من النزيف في رمضان .
أقول : لكل منا شياطين يتم تقييدها ، هناك شياطين تتحور في أشكال غير مألوفة .
عاد عبد الحليم لي يكرر طلبه لمعرفة كنت أافكر فيه .
فبدأت الحكاية .
باريس ورمضان يقلبان الأفكار بشكل لا نظير له؛ فبدت ذاكرتي كطائر يرفرف بأجنحة الحوادث فوق الأزمنة والأمكنة ، منذ أن ألقى أحد أبناء آدم بذرة كائن بشري آخر في رحم حواء أحبها ، فصار المولود فارسا ، يجوع لحنان آخر ، يدور بين الصحاري والأنهار ، لتأتي له الحبيبة ، ليولدها كيانا بشريا يشهد زفاف بلقيس لسليمان ؛ وينجب من يبحر في بطن الحوت فأرى قيصر مفتوناً بالتاج. وأعود ذرة صغيرة في ظهر فقير مصري يهتف من أجل أن يفك الله قيد السخرة . ليأتي رجل يدعي نسبه إلى « دحية « راوي أحاديث الرسول الكريم ، فينجب الرجل بناتا يزوج صغراهن لأبي ابن الفلاح الذي يملك بضعة فدادين . وكان ما يجمع الرجلان هو عشق باريس ، سافر كلاهما إليها لا طلبا لعلم ولكن عشقا للنزوة .
يضحك الحضور على قولي ، فأؤكد أنه صدق ، لكني لا أعرف كافة تفاصيل الحياة في بقية الإثنتي عشر مليونا من السنين ، وهي العمر التقديري لحياة البشر على الأرض ؛فهذه الملايين من السنين قد مرت قبل أن أقف ذات يوم في طفولتي أمام الكعبة لأشهد» لا إله إلا الله .. محمداً رسول الله» .
يقول عبد الحليم : المؤكد أني أحس برهبة عندما أوجد بمكة ،ويطمئن قلبي عندما أزور المدينة المنورة .
أقول :المدينة المنورة لها عبير خاص . و للهواء فيها له طعم مختلف في الرئتين . لها ضوء مبهج في الروح.
ويسألني محمد شكري حافظ ضابط المخابرات الذي يتخفى وراء منصب المستشار الدبلوماس بالسفارة : بما أنك صديق للفنان سيف وانلي وتكتب تاريخ حياته ، فكيف ترى ألوان المدينة المنورة ؟ أقول لفوري : تضيء سماء المدينة بأزرق ليس من ألوان الأزرق التقليدي ، ويتهادى في سمائها سحاب أبيض ليس من ألوان الأبيض التقليدي ، كأنه الخطو العاشق المشتاق لزيارة بيت رسول الله .والخشوع نوراني في الحرم النبوي .
يقول عبد الحليم : حين وقفت أمام قبر الرسول وجدت كل الكلمات عاجزة ، دعوت لأمي وأبي بأن يشربا من الحوض النوارني الذي حدثتني عنه الخالة نعيمة ، وقالت إن من يشرب منه يجد نفسه خالدا وشابا إلى الأبد .
أضحك قائلا : هل حكت لك الخالة نعيمة عن مشهد ذبح الموت ؟ تساءل الجميع : وهل يتم ذبح الموت ؟
أجبت : أمام منزل عبد الحليم وكنت نازلا في رمضان الماضي بعد الإفطار من منزل د. أحمد عكاشة ، وكان يطرح السؤال الصعب : هل تظن أن الموت سيموت يوما ما ؟ أجبت : والله سأسأل العضو الباقي من هيئة كبار العلماء والذي رفض مع قلة من العلماء أن يعتبروا الملك فؤاد أو فاروق من نسل النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
قال عبد الحليم : أذكر أني لقيتك أنت وأحمد عكاشة ، ورأيتني أشوط حجرا أرض الشارع ، فقلت أنت لا تقسو على الحجر ، فلعله من عظام أجدادنا . وقال لك أحمد عكاشة « وعدتني أنك ستسأل الشيخ الذي مازلت أحفظ اسمه وهو « إبراهيم الغرباوي » عن ميعاد موت الموت ، وضاعت الحكاية وسط زحمة الحياة ، فهل سألته ؟
قلت : ذهبت إلى شارع باب الوزير حيث كان يسكن الشيخ الجليل ، وكانت أصابعه تبهرني ، لأنها تشع بصفاء من لا يجلس بغير وضوء . وسألته « هل سيأتي يوم يختفي فيه الموت ؟» ، فأشار إلى كتاب يجمع الأحاديث القدسية وهو ضمن كتب السيرة التي أمر جمال عبد الناصر بجمعها بعد تنقيتها . ووجدت حديث ذبح الموت في آخر الكتاب ، حيث يقال أن رب العزة سيأتي بملك الموت بعد أن يفرغ حساب البشر ، ودخل أهل النار إليها وسكن أهل الجنة فيها ، ويأمر سبحانه بذبح الموت .
قال أحد الحاضرين : وهل علينا الإنتظار إلى يوم القيامة لنرى ذبح الموت ؟.
قال عبد الحليم : لا يهم الانتظار .. لكن المهم أننا عرفنا أن الموت سيموت ذات لحظة قادمة .
قال صلاح بسيوني وكان في منصب سكرتير أول السفارة وينتظر درجة المستشار : عندما فقدت زوجتي أم أولادي ، كان الحزن يقتلني فسافرت إلى العمرة ، وإنطلق لساني بثرثرة لا أذكرها ، ولكنها أراحتني .
أقول : عن نفسي عندما وقفت أمام قبر الرسول قلت له كلاما مازلت أذكره .
أذكر أني قلت « تكسرت مجاديف قارب قلبي في بحور العشق يا رسول الله . فهل تشفع لي يوم ينفصل النور عن النار ويوم تمتد حدائق الفردوس عطاءً من الله لأهل حقيقة وضرورة وجود الإنسان على الأرض . رأيت الإيمان نور وضاح بجمال عرش الرحمن ، والنار ظلام صاعق بتمام جبروت القهار .
قال عبد الحليم : هل رأيت كتابك بيمينك أم بيسارك؟ أجبت : لا أتذكر
...............
فرغنا من تناول طعام السحور لأول مرة بباريس . وقررنا العودة إلى أماكن إقامتنا . كان عبد الحليم يقيم في فندق ذى نجوم ثلاثة هو جراند أوتيل قريبا من السفارة ، فلم يكن قد عرف الإقامة الباريسية الفائقة الثراء على نفقة الملك الحسن ، فالزمن كان 1964 .
وكنت أقيم في فندق ذا نجمتين في شارع قديس الرب ، هو فندق فلوريدا . وما أن دخلت الفندق حتى وجدت صاحبه مسيو سينيا يقول لي» فقدت سهرة هامة . كان هنا حارس برجيت باردو الجزائري ، وهو سائقها والمعروف أنه حبيبها ، وكان يعلن عن زهقه منها ويطلب مني التوسط له للعثور على عمل .
ضحكت صارخا : هل جميلة جميلات باريس واقعة في عشق جزائري شاب ؟ هذا عالم مجنون بالفعل . إن نصف رجال العالم يتمنون لحظة من رضاها ، فتقع هي أسيرة حب سائقها وحارسها ، ويتمرد هو على هواها .
قال صاحب الفندق : يبدو أنك لم تشاهد مسرحية العاهرة الفاضلة لسارتر ؟
أجبت : قرأتها وشاهدتها بالقاهرة .
قال : كل امرأة لامعة تقع غالبا في عشق إنسان تريد أن تصنعه على هواها ، عكس الرجال الذين تلتقي بهم في الحياة والعمل .
أقول : دنيا مفلوتة العيار .
قال صاحب الفندق : ألم تعلم أنها دنيا مفلوت عيارها إلا الآن ؟
...............
صعدت غرفتي . اختلط رمضان الباريسي بعطر يضيء الوجدان ، فأتأمل الكون لأكتب في مذكراتي أسئلة عن بركان صغير هو أيام عمري ؛فرأيت الغراب يرتدي ريش العصفور والقرد يلعب دور الأسد . والمقلد يدعي أنه صاحب الصدق . والأفعى تتكور في شكل حمامة . و شاهدت الكثير من رحلات تزييف الزمان والمكان . وكيف صارت الخطوات على الأرض نار . ورأيت الكلمات تخرج من أفواه تظهر منها الأحشاء . وناقشت عقولا لا تفكر ، إنما تسقط بين أقدام اللاعبين ككرة القدم . وكيف يساق الهزل إلى ارتفاع غير تقليدي فنصدق أن الهزل هو الجد، بينما كان الكثير من الجد ينسحق تحت رصاص الهزل . أحدث الرسول وأنا راقد على سريري في الفندق الباريسي ، أحاول ترتيب رأسي على الوسادة المدورة ، فوسائد فنادق باريس مدورة وليست مستطيلة . أهمس له : جاء قولك الشريف بمعناه «رأس العقل بعد الإيمان التودد إلى الناس ، وأهل التودد لهم درجة في الجنة ، ومن كانت له درجة في الجنة فهو فيها ، وما يستغني رجل عن مشورة ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة . فهمت من قولك هذا أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستطيع أن يعيش بمفرده . بل كل منا هو وسيلة لمساعدة الآخر ؛ فنقيم من أعمالنا نسيج عمرنا . وعندما تتآلف خيوط النسيج يكون ثوب العمر قوياً . وعندما تدعي خيوط أنها أقوى من خيوط أخرى أو أفضل منها يتهرأ النسيج فيكون مجرد ثوب يكشف ولا يستر .
يسافر بي النوم إلي مدينة ميلادي الإسكندرية المغسولة بمطر الشتاء ودموع القهر، وفيها سمعت التحذير من عساكر الإنجليز في الشارع أثناء سنوات ما بعد الحرب العالمية ، و حاصرني الخوف في نافذة المنزل . وجاءت لي الصحف أتعلم فيها القراءة . فقرأت عن مذابح البشر في أماكن كثيرة من الأرض . كبرت لأرى قصص العشق تنتحر لأنها بلا بيت . تتحول أجيال من عشاق هذا الزمان إلى مجرد ريش في تموجات العواصف . واليأس هواء . والعدو يرتدي زي الحليف . والعيون تخرج منها سهام الاتهامات فتفصل بين الأخوة .و البيت الأبيض الأمريكي يمسك ببعض الخيوط .والكرملين يمسك ببعض أخر. ودول أوروبا تتقافز من أجل امتلاك بعض الخيوط .
فهل يمتلك أهل المعروف خيوط أعمارهم ؟.أتذكر ما قاله لي أبي منذ سنوات طويلة « لا تسرف في ركوب أفكارك حتى لا تغادر الدنيا وحيداً» . ولم أسمع نصيحة أبي فركبت حصان كل الأفكار؛ ليلقيني حصان السياسة الجامح من فوق ظهره . فهو حصان يركبه من لا قلب له . أما أصحاب القلوب فليس لهم إلا عشق المرأة والخوف على الأطفال . ولم يكن قلبي يملك ثمن شراء بيت ولا ثمن تربية أطفال . وحاولت أن أركب فرس النقود ؛ فسألني أن أبيعه ضميري ولم أستطع . فألقاني من فوق ظهره . ورضي حصان العشق بي كإنسان بسيط أسعى بين المدن سائلا ً عن العدل . رأيت العدل محاصراً في معظم المدن التي خطوت إليها.
في باريس رأيت ديجول ينقذ نفسه من دوامة أنياب ثوار الجزائر ..لكن رؤساء المدن الأوروبية اجتمعوا حول العدل يسلخون جلده ويطبخون لحمه ويقتسمون الفتات الملقى إليهم من موائد المدن الكبرى.
قال لي العدل وهو على طبق الرؤساء الأوروبيين :
- لا تظن أني أخرس . أنا النار التي تحرق الجميع بالشوق إلى الأمان ، والأمان مفقود بين الرجل وزوجته . وبين الإنسان والأرض . والصواريخ الذرية تهدم الأمل في كل القلوب حتى ولو لم تنطلق هذه الصواريخ .
.. .. ..
قال لي العدل وهو على طبق الرئيس الأمريكي :
- أنا أتحول إلى بغضاء . يتوهمون أني موجود في الدولار فيتخاطفونه . ويستنزفون أنفسهم في السيادة على الكون ويدعون أن لهم القوة المطلقة ، بينما ميكروبات الأمراض لا علاج لها . والإدمان موجود بنسبة اثنين إلى أربعة . والمرض العقلي موجود بنسبة اثنين إلى أربعة . والديكور الفخم يتغير كل أربع سنوات حتى لا يعي رئيس اللعبة أسرارها فيمضي خائفاً أو لاعناً .
.. .. ..
قال لي العدل وهو على طبق الرئيس الروسي أو الصيني :
- أنا أتحول إلى خوف يلعن به كل إنسان جاسوسه الخاص ؛ حتى الجاسوس له جاسوسه الخاص .ولم أسأل عن العدل العربي ، فقد غرقت في النوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.