يقترب عمر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من نحو ألفى عام، فقد تأسست فى أواسط القرن الأول الميلادى بواسطة مرقس الرسول أحد السبعين رسولًا الذين عاصروا السيد المسيح وتتلمذوا على يديه، وجالوا يبشرون بالمسيحية فى كثير من بلاد العالم، وإن سبق تبشير مصر بالمسيحية قدوم العائلة المقدسة، التى ضمت الطفل يسوع وأمه مريم وخطيبها يوسف النجار، هربًا من الحاكم الرومانى «هيرودس» الذى أراد قتل نفس الصبى ظنًا منه أن المسيح جاء ليهدد ملكه الزمنى حسب رواية الكتاب المقدس، ما كان سببًا فى مباركة أرض مصر من شمالها إلى جنوبها وجعلها مزارًا دينيًا مقدسًا يقصده السياح والحجاج من مختلف بقاع الأرض. إن هذا العمر الطويل للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التى تمثل بدورها أحد مؤسسات الدولة المصرية، يجعلها تحتفل بأكثر من مناسبة ثقافية واجتماعية على مدار اليوم الواحد، ومن ذلك أنه تجتمع أكثر من مناسبة فى عامنا الحالى، حتى أن العام 2018م يبدو باعتباره «عام اليوبيل» واليوبيل (Jubilee) يعنى الاحتفال بمرور عدة سنوات على حدث معين، له أهميته وقيمته التاريخية فى حياة الشعوب وتاريخ الدول، فحسب أحد التقسيمات فإن هناك اليوبيل البرونزى (10 سنوات)، واليوبيل الفضى (25 سنة)، واليوبيل الذهبى (50 سنة)، واليوبيل الماسى (75 سنة)، واليوبيل المئوى (100 سنة). ومن أبرز تلك المناسبات التى تحتفل بها كنيستنا القبطية هذا العام مرور 125 عامًا على تأسيس المدرسة (الكلية) الإكليريكية، التى تأسست سنة 1893م فى عصر البابا كيرلس الخامس (1874-1927م)، وكانت مهمتها- وعلى نحو رئيس- إعداد رجال الدين والوعاظ إعدادًا علميًا، فكان- ومازال- لخريجيها دور بارز فى خدمة الكنيسة ونموها. ويمر مائة عام على تأسيس أول لجنة لخدمة مدارس الأحد، التى تأسست سنة 1918م، وكانت تحظى بدعم ومساندة عدد كبير من رجال الدين والخدام المدنيين، وإن كانت خدمة مدارس الأحد خدمة أصيلة فى الكنيسة القبطية، فإن تأسيسها فى العصر الحديث يعود إلى الأرشيدياكون «رئيس الشمامسة» حبيب جرجس (1876-1951م) الذى أسسها بالقاهرة فى نحو عام 1900م، ثم انتشرت لتشمل كل المدن والقرى فى الأقاليم، بل إنها امتدت خارج مصر أيضًا. تهتم (مدارس الأحد) بإعداد الأطفال والنشء المسيحى دينيًا وروحيًا وعقليًا وجسديًا ونفسيًا واجتماعيًا، إذ تمثلت أغراضها فى: تعويد الأولاد والبنات حفظ يوم الأحد، ومواظبتهم على الحضور فى الكنيسة لسماع القداس، واشتراكهم فى العبادة والأسرار المقدسة شركة تامة للنمو فى النعمة ومحبة الكنيسة.. تعليمهم حقائق الإيمان بحسب العقيدة الأرثوذكسية وجعلهم قوة حية نافعة للكنيسة، والعناية بخلاص أرواحهم.. تلقينهم تاريخ كنيستهم القبطية وعقائدهم وتراجم حياة مشهورى رجالها.. تعويدهم الفضائل والأخلاق المسيحية، وتحذيرهم من الوقوع فى الخطايا المنتشرة، وإعدادهم ليكونوا رجالًا صالحين نافعين لكنيستهم ووطنهم.. العناية بصحتهم الروحية والجسدية. ويمر خمسون عامًا على عودة رفات مرقس الرسول من مدينة روما إلى بلادنا مصر، فى 24 يونيو 1968م، ووضع الرفات الطاهرة فى الكنيسة المرقسية الكبرى بالأزبكية، ثم نقله إلى الكاتدرائية بالعباسية، حيث المزار الواقع أسفل الكنيسة الكبرى، وحيث يقع المقر الباباوى، ليكون قداسة البابا (البطريرك) بجوار القديس مرقس الرسول مُبشر مصر بالمسيحية فى القرن الأول الميلادى وصاحب الإنجيل الثانى من الأناجيل الأربعة التى يبدأ بها كتاب (العهد الجديد). مرور خمسين عامًا على افتتاح الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، أرض الأنبا رويس، فى 25 يونيو 1968م، بحضور الرئيس الراحل جمال عبد الناصر (1954-1970م) والإمبراطور هيلاسلاسى إمبراطور إثيوبيا وقتذاك، وقداسة البابا كيرلس السادس (1959-1971م)، بالإضافة إلى حضور عدد كبير من ممثلى الكنائس. وتمثل الكاتدرائية حاليًا المقر البابوى، الذى استقر فيه قداسة البابا شنودة الثالث (1971-2012م)، ومن بعده قداسة البابا تواضروس الثانى أمد الله فى عمره وحفظه فى خدمة الكنيسة والوطن. لعل هذا وغيره ما دفع عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين (1889-1973م) إلى أن يخصص الفصل الحادى والخمسين من كتابه الشهير (مستقبل الثقافة فى مصر)، الصادر بالقاهرة سنة 1938م، عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وضرورة العناية بتعليم رجال الدين المسيحى فيها، وكان قد خصص الفصل الخمسين من كتابه عن التعليم الدينى فى الأزهر الشريف، إيمانًا منه بأن الأزهر والكنيسة من مظاهر المجد المصرى القديم وهما يجب أن يكونا من مظاهر المجد المصرى الحديث، فهو يقول «الكنيسة القبطية مجد مصرى قديم، ومقوم من مقومات الوطن المصرى، فلا بد من أن يكون مجدها الحديث مُلائمًا لمجدها القديم». لمزيد من مقالات رامى عطا صديق