لأننا لم نتعود بعد أسلوب الحوار فإن حوارنا حملات كراهية وحروب بالكلمات، وليس هناك ضمانة لأى صاحب رأى يبديه بكل الموضوعية. لذا حاولت قدر ما أستطيع أن أتجنب الكتابة عن جمال عبدالناصر وحياته الحافلة وتجربته الكبيرة، ولم أقترب من الحديث عنه إلا عند الضرورة القصوى. هذه الكلمات للأستاذ محمد حسنين هيكل عبر بها عن موقفه أمام جوقة المنتفعين بمعاداة عبدالناصر، والمتبجحين المنكرين لحصاد تجربته وللتغيير الجذرى الذى أحدثه نظامه فى بنية المجتمع المصرى، وفى العالم العربى بأسره، وهذا الموقف ليس خاصا بالأستاذ هيكل وحده، ولكنه موقف كثيرين يترفعون عن الخوض فى معارك أمام أطراف لا يمثلون أنفسهم، ولكنهم يمثلون جهات ومصالح ومنافع، ونذكر فى أعقاب رحيل عبدالناصر أقاموا له تمثالا تنحنى قاماتهم أمامه فى شبه تقديس لم يقبله الرجل، وبعد ذلك تحولوا إلى معاول هدم وتشويه لكل ما يتصل بعبدالناصر من قريب أو بعيد، ونال بعض ذلك أقرب الناس إليه. وتعرضت سيرة عبدالناصر لتشويه متعمد وتبارى المنتفعون فى الإساءة إليه وإلى كل من يحاول أن يقول كلمة الحق لإنصافه. ورغم كل هذا الحذر الذى التزم به الأستاذ هيكل فقد ناله من الطعن والتشكيك والإساءة الكثير بسبب مقال كتبه فى أعقاب رحيل عبدالناصر كان بعنوان «عبدالناصر ليس أسطورة» ينبه فيه إلى استغلال البعض صورة الرمز فى عبدالناصر لتحويل تراثه إلى كهنوت جامد بينما هو فى الحقيقة تجربة إنسانية قابلة للحياة وللنمو وللتطور. وبسبب هذا المقال قامت القيامة على الأستاذ هيكل من مدعى الناصريين والمزايدين على هيكل وهو أقرب الناس إلى عبدالناصر كما هو معلوم، وعندما كتب الأستاذ هيكل بعد ذلك مقالا بعد 23 سنة على ثورة يوليو يواجه فيه الحملات ضد عبدالناصر، وينبه إلى مقاصد ومصادر هذه الحملات بعد أن نشرت بعض ملفات المخابرات الأمريكية وفيها أنها شنت الحرب ضد زعماء الثورات الوطنية المعادية للاستعمار، وحاولت اغتيال بعضهم جسديا، واغتيال البعض الآخر معنويا بالشائعات وبحملات التشويه، وفى هذه الملفات اشارات إلى نجاح المخابرات الأمريكية فى بعض المحاولات وفشلها فى حالات أخرى. وكان ضمن الحملات على عبدالناصر اتهامه بأنه اختلس لنفسه وهرب إلى حسابه فى الخارج عشرة ملايين دولار تبرع بها الملك سعود، للمجهود الحربى، ووقع فى الفخ واحد من أكبر أعلام الصحافة المصرية هو أستاذنا جلال الحمامصى فنشر فى «الأخبار» مقالا تضمن هذه القصة، وأحدث هذا المقال دويا كبيرا، وأعاد نشر القصة فى كتابه «حوار حول الأسرار» عام 1976، فقال ان عبدالناصر حصل فى عام 1967 على قرض من الملك سعود قيمته عشرة ملايين دولار، وعلى خمسة ملايين دولار أخرى تبرع بها الملك سعود للمجهود الحربى، وأن المبلغ حول إلى الخارج لحساب عبدالناصر شخصيا. ولم يتردد رئيس الوزراء العظيم ممدوح سالم فى طلب التحقيق، فشكل لجنة برئاسة محافظ البنك المركزى وممثلين عن الجهات الرقابية والسيادية، ولم يكتف بذلك، ولكنه كلف الدكتور على الجريتلى وهو من أشهر الشخصيات فى النزاهة واستقلال الرأى بأن يكون المحقق المستقل وله كل السلطات فى الاطلاع على الأوراق والمستندات وطلب الشهود، وانتهت اللجنة، كما انتهى التحقيق المستقل إلى أن هذه الأموال ذهبت لما كانت مخصصة له، وأن هذه المبالغ تسلمها البنك المركزى، وتزايدا من اللجنة اطلعت على الحساب الشخصى لعبدالناصر منذ توليه السلطة، وفى النهاية تم إعلان الحقيقة وهى أن خمسة عشر مليون دولار لم تدخل فى حساب عبدالناصر فى الداخل ولا فى الخارج، ولم تنته المسألة ولكن المدعى العام الاشتراكى قام أيضا بإجراء تحقيق موسع شمل جميع الجهات وجميع الأطراف وانتهى إلى عدم صحة الواقعة. وأثار أستاذنا جلال الحمامصى أيضا أن عبدالناصر تسلم ثلاثة ملايين دولار هدية من مندوب المخابرات الأمريكية عن طريق حسن التهامى، وبعد تحقيقات من جهات عديدة تبين أن المخابرات الأمريكية اعتادت تقديم مليون دولار نقدا لكل رئيس قبل عبدالناصر أو لمن يملك أعلى سلطة، وأن عبدالناصر سمح لحسن التهامى باستلام هذا المبلغ وتسليمه إلى المخابرات المصرية لبناء برج القاهرة واقامة برج اتصالات للمخابرات عليه. وبعد رحيله ظلت الحملات عليه تزداد اشتغالا، صدر كتاب يتهمه بأنه عميل للمخابرات الأمريكية، ونشرت مقالات تتهمه بالعمل لحساب دول أجنبية، وبأنه كون لنفسه ولابنائه ثروة طائلة، وكان من الطبيعى فور رحيله أن تقوم الجهات المسئولة الملزمة بذلك قانونا بحصر أمواله وممتلكاته سواء فى البنوك أو فى بيته، أو فى أى جهة أخرى، وقامت الأجهزة بالبحث عن أموال مودعة لحسابه فى الخارج، وكانت أجهزة المخابرات الأجنبية نشيطة من جانبها وتتمنى أن تظفر بفضيحة تقضى على أسطورة عبدالناصر، ولكن كل ذلك انتهى إلى أنه لم يحصل على أموال طوال فترة حكمه (18 سنة) بخلاف راتبه وقدره 500 جنيه شهريا وبدل التمثيل 125، أى أن الاجمالى 625 تصل إلى 395جنيها و60 قرشا بعد استقطاع الخصومات (أقساط المعاش،، وبوالص التأمين على الحياة، وايجار استراحة المعمورة، وكانت المفاجأة أن استراحة المعمورة التى كان ينزل فيها رئيس الجمهورية وأسرته فى الصيف كان يسدد ايجارها خصما من راتبه(!) ووفقا لما هو متبع قامت رئاسة الجمهورية بحصر ممتلكاته الشخصية فى سجلات رسمية قبل تسليمها لأسرته رسميا وكانت عبارة عن 8 أحذية و13 كاميرا للتصوير، وآلة عرض سينمائى، و10 بدل، ومجموعة كرافتات، وهذا السجل استبدل من معاشه ما يعادل 3500 جنيه لتجهيز ابنتيه، وسجلت لجنة الحصر أنه كان فى جيبه يوم رحيله يوم 28 سبتمبر 1970 84 جنيها، وليس لأسرته مسكن خاص وهو يسكن فى منزل مملوك للدولة، وكل محتوياته من أثاث ومفروشات عهدة من الأشغال العسكرية، وقامت الأسرة بتسليم البيت بمنقولاته وتسليم استراحة المنصورة. ووفقا للقانون قام المجلس الحسبى بحصر تركة عبدالناصر حماية لحقوق الابن القاصر فى ذلك الوقت، وكانت نتيجة الحصر: 3718 جنيها و273 قرشا فى حسابه الشخصى فى بنك مصر، وعددا من الأسهم فى شركات مصرية وبوالص تأمين على الحياة، وسيارة أوستن موديل 1942 كان يملكها قبل الثورة واحتفظ بها. هذه هى كل ثروة الرجل الذى قاد ثورة، وحكم مصر 18 عاما وأحدث زلزالا فى بلده وفى المنطقة، ويكشف الأستاذ هيكل جانبا من السر وراء حملات التشويه على عبدالناصر بأن المخابرات الأمريكية لديها أساليب لتوجيه الرأى العام فى بلد معين أو فى العالم، وتستخدم الصحافة والنشر والإعلام لتحقيق أغراضها، ولذلك أنشأت من وراء ستار دورا صحفية فى عديد من بلدان العالم الثالث، وأنشأت وكالات أنباء و صورا، كما أنشأت قسما خاصا لنشر كتب مسمومة، وتزييف الكتب، وقسما آخر للأخبار مهمته صنع قصص اخبارية بالتلفيق، وهى قصص مثيرة تسارع الصحف بنشرها بحسن نية أو بسوء قصد. ليس هذا كل ما يقال عما أصاب الرجل الذى غير مسار التاريخ فى المنطقة، وربما فى أوسع من المنطقة، وبالقطع فإن من حق كل واحد الاختلاف مع تجربة عبدالناصر وسياساته ونظام حكمه، والتجارب الإنسانية قابلة دائما للمراجعة وللنقد، ولكن ليس من حق أحد أن يشكك فى نزاهته وطهارته، وهو الذى آمن بأن الغنى الفاحش فى مجتمع فيه الفقر المدقع جريمة لا تغتفر، وهو الذى جعل هدفه الذى عمل له هو تذويب الفوارق بين الطبقات، ولكن هناك دائما من يعبث بالتاريخ، ويزيف حقائقه، ولكل من يفعل ذلك دوافعه، ولكن التاريخ يجد الإنصاف، والحقيقة تنتصر دائما فى النهاية، ويبقى للرجال العظام مكانهم ومكانتهم مهما يحاول المغرضون إطفاء أنوارهم.