بعد عام ملئ بالمفاجآت التى لم يتوقعها أحد، بدءاً من خسارة حزب المحافظين الحاكم أغلبيته فى البرلمان البريطانى عقب انتخابات عامة مبكرة، واضطرار رئيسة الوزراء تيريزا ماى قبول ائتلاف حكومى مع «الحزب الوحدوى الديمقراطي» الأيرلندي، وبطء مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، واستقالة عدد من الوزراء البارزين على رأسهم وزير الدفاع السابق مايكل فالون ، على خلفية كل هذا لا يمكن لأحد التنبؤ بما يمكن أن يحدث عام 2018. فهذا هو عام «خريطة طريق البريكست» التفصيلية، حيث ستبدأ فى مطلعه المرحلة الثانية من المفاوضات الطويلة والشاقة لتحديد نوع العلاقات المستقبلية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي. وإذا كانت مفاوضات الطلاق خلال 2017 صعبة وطويلة، فإن مفاوضات أسس العلاقة الجديدة ستكون أصعب وأطول. ففى المتوسط تأخذ المفاوضات التجارية بين الاتحاد الأوروبى وشركائه التجاريين، مثل كندا واليابان، نحو 7 أعوام من التفاوض الصبور. ما يعنى أن آمال تيريزا ماى فى التوصل لاتفاق بحلول مارس 2019، مع فترة انتقالية لتطبيقه حتى 2021، متفائلة وطموحة جداً، وربما غير واقعية. تحديات 2018 بالنسبة للبريطانيين لن تكون فقط فى المرحلة الثانية من مفاوضات البريكست الصعبة، بل أيضاً فى استقرار حكومة تيريزا ماي. فعام 2017 كان كارثياً لسلطة وصورة رئيسة الوزراء البريطانية داخل حزبها وعلى رأس الحكومة. ولا أحد يراهن على إستعادتها لنفوذها 2018. فأمامها ملفات أصعب وتحديات أشرس. فهى تريد مع مطلع 2018 اجراء تعديل حكومى واسع يتضمن إطاحة بوريس جونسون من منصب وزير الخارجية وإسناد منصب جديد له ضمن الوزارات المتعلقة بمفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، لكن جونسون يقاوم هذه الخطوة. وستكون الأسابيع الأولى من 2018 كاشفة عن موازين القوى داخل حزب المحافظين. فإذا أفلت جونسون من إطاحته من منصبه، فهذا يعنى أن تيريزا ماى تسير على قدم وعكاز. وسيعزز هذا صورتها الضعيفة لدى نظرائها الأوروبيين. كما أن 2018 قد يشهد تغييراً كبيراً فى مزاج البريطانيين ضد البريكست. ففى أخر استطلاع للرأى أجرى قبل نهاية 2017، كان المؤيدون للبقاء داخل الاتحاد الأوروبى أكبر ب10 نقاط من المؤيدين للخروج من التكتل الأوروبي. بعبارة أخرى، إذا اجرى اليوم استفتاء حول العلاقة مع أوروبا، فإن غالبية البريطانيين ستصوت للبقاء داخل الاتحاد. وهذا التغيير اللافت فى المزاج العام مرتبط بصعوبة المفاوضات وتكلفة الطلاق (نحو 40 مليار جنيه استرليني). إضافة إلى عشرات المليارات الأخرى ستدفعها بريطانيا للحصول على مزايا تجارية فى أى اتفاق جديد مع الاتحاد الأوروبي. وفى ظل تباطؤ اقتصادى منذ البريكست ، وانخفاض قيمة الجنيه الاسترليني، وارتفاع نسبة التضخم، وتراجع سوق العقارات، وهروب عدد من الشركات والبنوك، وارتفاع الأسعار، وجمود الرواتب، يشعر الكثير من البريطانيين أن البريكست أكبر قرار عبثى اتخذته بريطانيا فى تاريخها. فالقرار الذى اتخذ باسم السيادة ولإستعادة السيطرة على الحدود والقوانين، يترك بريطانيا فى الواقع أضعف ومضطرة لقبول القوانين الأوروبية فى كل الحالات كى تستطيع مواصلة التبادل التجارى مع الاتحاد، الذى هو أكبر شريك تجارى لها. فما هى خريطة طريق مفاوضات البريكست 2018 والتحديات الأساسية أمام حكومة ماى فى العام الجديد؟. أولاً: على رأس التحديات التى تستهل بها ماى العام تحويل الاتفاق الذى تم التوصل اليه بين بريطانيا والاتحاد الاوروبى نهاية 2017 حول شروط الطلاق، (الذى يتضمن حقوق المواطنين البريطانيين فى أوروبا، والأوروبيين فى بريطانيا، والتكلفة المالية للطلاق، ومسألة الحدود بين ايرلنداالشمالية وجمهورية ايرلندا الجنوبية) تحويل ذلك الاتفاق إلى «نص قانونى ملزم». وهذا لن يكون سهلاً، فالنص القانونى الملزم أصعب، خاصة لأن هناك الكثير من التفاصيل التى لم يتم التوافق حولها بعد. ثانياً: بنهاية يناير الجارى ستبدأ المفاوضات حول المرحلة الانتقالية بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي. وهذه أيضا مفاوضات شاقة، ففيما يريد الاتحاد الأوروبى أن تتم المرحلة الانتقالية (تستمر عامين من 2019 إلى 2021) فى إطار قواعد الاتحاد الأوروبى وقوانين محكمة العدل الأوروبية، هناك فى بريطانيا، خاصة من داخل صقور حزب المحافظين، من يرفضون الخضوع لأى قوانين أوروبية بعد الخروج الرسمى فى مارس 2019، ويحذرون من أن بريطانيا ستتحول خلال تلك الفترة الانتقالية إلى «دولة تابعة» للاتحاد الأوروبى لأنها ستخضع لكل قوانينه دون أن تشارك فى وضعها. ثالثاً: منذ أطلقت تيريزا ماى المادة 50 من معاهدة لشبونة فى مارس 2017 الماضى لبدء إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي، لم تجر الحكومة البريطانية أى اجتماعات تفصيلية بين أركانها حول «نوع الدولة» التى ستُولد من رحم البريكست. بعبارة أخرى، هل ستحافظ بريطانيا على النموذج الاقتصادى -الاجتماعى الحالى الذى يجمع بين حرية السوق ودور الدولة النشط فى تطبيق برنامج الرعاية الاجتماعية. أم أن «بريطانيا الجديدة» ستسير، كما لوح بعض السياسيين من أقصى يمين حزب المحافظين، على نهج النموذج السنغافوري. أى أنها ستعتمد نموذج خفض الضرائب بشكل كبير جداً على رؤوس الأموال الدولية لجعل بريطانيا «ملجأ ضريبيا» عالميا رداً على فقدان محتمل لمزاياها كمركز مالى بعد الخروج من الاتحاد الأوروبى. ومن المفهوم أن هناك صراعا داخليا فى بريطانيا حول «نوع الدولة البريطانية الجديدة» بعد البريكست. فنموذج سنغافورة أثار بالفعل مخاوف جمة لانه يعنى ضمناً تقليص الدولة لانفاقها على برامج الرعاية الاجتماعية ما يزيد الفجوة، الكبيرة أصلاً، بين الأغنياء والفقراء. كما أن اختيار هذا النموذج يعنى أن بريطانيا اختارت أن تشق طريقاً جديداً بعيداً عن معايير الاتحاد الاوروبي، وهو ما يعنى ضمنا أن الجناح المتشدد داخل حزب المحافظين انتصر. وفى ظل هذا الجدل، من المتوقع أن تلقى ماى خطاباً فى فبراير الجارى حول النموذج الاجتماعى -الاقتصادى الذى تريد الحكومة أن تنتهجه بعد البريكست. وستكون انظار البريطانيين والاتحاد الأوروبى موجهة نحو ذلك الخطاب. رابعاً: بعد معرفة توجهات الحكومة من المتوقع أن تبدأ فى أبريل المقبل المفاوضات الرسمية التى طال انتظارها بشأن الخطوط العريضة للعلاقات المستقبلية بين لندن وبروكسل. خامساً: ستشهد بريطانيا انتخابات محلية فى 3 مايو المقبل ستعكس مدى شعبية الحكومة الحالية لدى الناخبين. وخسارة حزب المحافظين لمقاعده فى المجالس المحلية ستعنى تآكل الدعم الشعبى للحكومة، وهذا قد يؤدى إلى انتخابات عامة مبكرة. سادساً: الأشهر الأولى من 2018 ستكون «سباقاً مع الزمن» كما يقول رئيس مجلس أوروبا دونالد توسك. فخلال تلك الفترة يجب على الطرفين صياغة النص القانونى النهائى والملزم لاتفاق الطلاق، ثم الاتفاق على ملامح المرحلة الانتقالية، والتفاهم حول شكل العلاقات المستقبلية (الإطار العام للعلاقات التجارية وليس الاتفاق النهائي). ويريد توسك أن تتم كل هذه الخطوات بحلول أكتوبر 2018. سابعاً: فى حال التوصل إلى كل تلك التفاهمات، ستبدأ فى نوفمبر على الأرجح مرحلة تصديق برلمانات دول الاتحاد الأوروبى ال27 عليها قبل حلول موعد خروج بريطانيا من الاتحاد فى مارس 2019. البريكست كما هو واضح عملية معقدة وطويلة و12 شهراً فى السياسة فترة طويلة جداً، وإلى أن تصوت البرلمانات الأوروبية والبرلمان البريطانى على الاتفاقيات والتفاهمات الأساسية، سيظل البريكست ومصير تيريزا ماى مفتوحين على كل الاحتمالات.