من المقرر أن يجتمع وزراء الخارجية العرب يوم الأحد لبحث «سبل التصدى للتدخلات الإيرانية فى الشئون العربية.» وضع إستراتيجية واقعية للتعامل مع إيران يتطلب أولا فهم طبيعة ودوافع السياسة الإيرانية. والمداخل التالية قد تساعدنا على هذا الفهم. المدخل الأول يرتبط بمفهوم «القوة المتوسطة» فى العلاقات الدولية. فإيران ليست دولة كبيرة بحجم الصين أو الولاياتالمتحدة وليست دولة صغيرة محدودة القدرات، ولكنها دولة متوسطة من حيث الإمكانات والدور. وأهم خصائص الدور الدولى للقوى المتوسطة هو سعيها لمد نفوذها خارج حدودها وهيمنتها على الإقليم الذى تنتمى اليه، وتكتسب مكانتها الدولية استنادا لحجم هذا النفوذ. وهنا نجد أن إيران سعت دائما لمد نفوذها لدول الجوار ولمنطقة الخليج والشرق الأوسط. هذا السلوك الإيرانى التوسعى كان موجودا فى عهدا الشاه واستمر فى عهد الثورة الإسلامية، وأسهم فى بلورته أيضا إحساس قوى بالقومية الإيرانية أو الفارسية، وأن هذا التميز القومى والحضارى يعطى لها مشروعية القيادة الإقليمية. المدخل الثانى يرتبط بمفهوم «الأيديولوجية» فإيران مابعد وصول الثورة الإسلامية للحكم عام 1979، هى بالأساس أيديولوجية استطاعت الاستحواذ على أدوات الدولة الخشنة والناعمة، وسخرتها لتحقيق أهداف أيديولوجية. إيران لاتزال تهيمن عليها الأيديولوجية الثورية الإسلامية القائمة على المذهب الشيعى وولاية الفقيه. والحديث عن أن إيران قد دخلت مرحلة مابعد الثورة وتخلت عن الأيديولوجية وأصبحت تتبنى البراجماتية فى سياستها الخارجية، يحتوى على قدر من المبالغة. فمازال آيات الله يحكمون البلاد، ومازال الدستور ينص على الالتزام بالمبادئ الإسلامية فى السياسة الخارجية، ولاتزال تساند القوى والميليشيات الشيعية خارج حدودها. صحيح أنها تخلت عن وصف الولاياتالمتحدة بأنها «الشيطان الكبير» ودخلت معها فى اتفاق بشأن برنامجها النووي، كما أنها تقيم علاقات قوية مع الدول الغربية وتصدر لها البترول والغاز، إلا أن كل ماسبق لا يعنى بالضرورة أن إيران قد تخلت عن أيديولوجيتها، بل الأقرب للدقة أنها غيرت فى «التكتيك» وليس فى «الإستراتيجية»، ودفعتها بعض الظروف لتبنى سياسة نفعية، ولكن إيران سوف تستمر كدولة أيديولوجية عقائدية، لأن شرعية النظام السياسى وأهل الحكم ما بعد الثورة الإسلامية لاتزال قائمة على هذه الإيديولوجية، والتخلى عنها قد يعنى فقدان النظام شرعيته. مدخل ثالث لفهم السياسة الإيرانية يرتبط بمفهوم «ثنائية الحكم» فهناك الجيش النظامى وهناك الحرس الثوري، وكذلك هناك ما يسمى بالتيار المعتدل وما يسمى بالتيار المتشدد داخل دوائر الحكم فى إيران. على سبيل المثال وزير الخارجية محمد جواد «ظريف» يمثل نموذجا للانفتاح الايرانى على الغرب، ويحظى بشعبية فى إيران بين الفئات المتعلمة والطبقة الوسطى التى تريد أن تخرج بلدها من أسر العزلة الدولية وتسعى للانفتاح على العالم. هذا الوجه المعتدل فى دوائر صنع القرار يقابله وجوه أكثر تشددا وأكبر تأثيرا فى الدولة الايرانية وعلى رأسهم المرشد الأعلى للثورة الاسلامية على خامنئي، والذى تتجمع فى يديه كل مفاتيح السلطة. خامنئى ذكر فى خطاب له عشية سقوط الرئيس القذافى فى ليبيا، أن الخطأ الرئيسى الذى اقترفه القذافى كان تخليه عن برنامجه النووي، وأن ذلك جعله أكثر ضعفا، وسهل التدخل الخارجى فى ليبيا والإطاحة بالقذافي. خامنئى يمثل الوجه المتشدد والثورى فى إيران، ويؤمن بالقوة و ليس الدبلوماسية، وقبوله بالتعاون مع الغرب هو أمر تكتيكى وليس توجها استراتيجيا. إيران إذن لها وجهان، وتتحدث بلغتين مختلفتين. هناك الوجه الناعم والمعتدل لوزير الخارجية ظريف ورئيس الجمهورية حسن روحاني، والوجه الخشن والمتشدد للمرشد الأعلى للثورة على خامنئى وقادة الحرس الثورى الإيراني. من يقرأ الكتاب المتميز لوزير الخارجية السابق أحمد أبو الغيط بعنوان «شهادتي» يجده يتحدث فى الفصل العاشر عن الصعوبات التى واجهتها مصر فى تنشيط العلاقات مع إيران «كلما اقتربنا من تحقيق انفراجة فى هذه العلاقات إفترقنا» ويشير الى أن أحد أسباب ذلك كان «تراجع الإيرانيين نتيجة لتصارع رؤاهم الداخلية» البعض قد ينظر لما سبق على أنه انقسام داخل دوائر صنع القرار يمكن استغلاله لمصلحة العرب، ولكن هناك وجهة نظر أخرى ترى أن هذا مجرد تقسيم للعمل يستهدف تعظيم المصالح الإيرانية، وأن كل الطرق تنتهى عند المرشد الأعلى للثورة الايرانية. هناك بالتأكيد مداخل أخرى لفهم السياسة الإيرانية لا يتسع لها المجال هنا، والهدف من التحليل السابق ليس تبرير السلوك الإيراني، فمما لا شك فيه أن التدخل الإيرانى فى شئون دول الخليج والعراق وسوريا ولبنان واليمن يعد مصدرا لتهديد الأمن القومى العربي. ولكن المهم هو التعامل مع هذا التهديد بحكمة ورشادة، وأتمنى أن يتبنى الاجتماع القادم لوزراء الخارجية العرب إستراتيجية واقعية للتعامل مع إيران تضع فى اعتبارها إيران التوسعية، وإيران الأيديولوجية، وإيران ثنائية الحكم والقرار، وأن تتضمن هذه الإستراتيجية مجموعة من المبادئ الحاكمة للتعامل العربى مع إيران، وأهمها احترام مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول، ورفض أى سياسات تؤدى الى عدم استقرار دول المنطقة، وتؤثر على الأمن القومى العربي، ووقف أى مساندة للجماعات الإرهابية والترويج للأفكار المذهبية والطائفية، والدعوة لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووى وجميع أسلحة الدمار الشامل. باختصار الاستراتيجية الناجحة هى التى تستطيع مواجهة التهديد الإيراني، ولكن فى نفس الوقت تحول دون اندلاع حرب جديدة فى المنطقة، أو صراع عربي- فارسي، أو فتنه طائفية بين السنة و الشيعة، وكلها ليست فى مصلحة الطرفين. لمزيد من مقالات د. محمد كمال