كان الملائكة قد عزفوا موسيقى بدء الخليقة ؛ فرأيت _ أول ما رأيت _ حبيبتى وهى تخرج من قوقعة مسحورة على شاطئ البحر تظللها سحابة تمطر رذاذا على هيئة دائرة ، لكن قطرات المطر لا تلمس جسد الحبيبة بل هى تحيط بها وكأنها تحميها من أى طارئ ، والطارئ الأساسى هو نزقى الكثير الوعود والمشغول عن تنفيذ الوعود بالإرتجاف شوقا إلى روية صورتى فى ننى عينيها ، ثم التنفس من الهواء الذى يحيط بها ........................ فهو هواء يستمد عطره من رائحة ارض خصبة لا تنبت سوى الورد البلدى ، فأشهق عطشا إلى ذلك الهواء الذى لا أجده حين تكون بعيدة عني . أصرخ داحل نفسى فلا يسمع صرخاتى أحد سواى . تنساب فى رأسى موسيقى شهر زاد ، فأجد راقصة البالية مايا بلسكيا عبقرية الباليه الروسية وهى الوحيدة التى تستطيع أن توحى لمن يراها بأن عظامها طرية تتلاعب بالموسيقى ؛ فأطلب منها أن تبتعد عن باليه شهر زاد لتكون بطلة أوبرا «تانهاوزر» لفاجنر ؛ تلك الأوبرا التى لم أمل سماعها وموسيقاها تتسلل من غرفة الفنان الرائع ممدوح عمار الذى كان يسكن فى حجرة تجاور حجرتى فى بنسيون مدام كيتى بشارع شريف ، ولم أكن أعلم أن من بين تلاميذه عبقريا موهوبا هو إيهاب شاكر الغارق فى بحر من موسيقى المتصوفين الباحثين عن مرفأ أمان ؛ ولم أكن أعرف أن إيهاب شاكر طالب الفنون الجميلة و إبن المطرية الجالس ظهيرة ذاك النهار فى كشك على أرض خلاء تجاور مبنى الفنون الجميلة بالزمالك ويقطم رغيفا حمله معه من جريدة الجمهورية ، رغيف بلدى محشو بالبسطرمه ، ناوله إياه الشاعر كامل الشناوى الذى إختاره ليكون رسام الكاريكاتير السياسى اليومى لجريدة الجمهورية ، ليقول له «موهبتك رقيقة دقيقة ، ستجلس كل يوم مع شقيقى مأمون الشناوى ليختار معك الفكرة التى سترسمها كل يوم . وكان ذلك بعد لقاء سريع مع أنور السادات الذى اختاره جمال عبد الناصر كرئيس لمجلس إدارة دار التحرير. سأل إيهاب نفسه « هل أستطيع أداء هذا العمل كل يوم »؟ وكانت إجابة كامل الشناوى «نعم أنت تستطيع .. موهبتك لا ضفاف لها ». كامل الشناوى الذى خرجت من رؤيته عشرات المواهب ، ويدين له أساتذة فى حجم محمد حسنين هيكل وإحسان عبد القدوس وصولا إلى محمود السعدنى الساخر بغير حد ؛ وأدين له بشكل شخصى حين دخل مساء يوم من ايام نوفمبر 1963 مقهى نايت أند داى بفندق سميراميس ، فوقف أمام المنضدة التى أجلس عليها ليقول لى : أنت الكاتب منير عامر لقد قرأت لك ما كتبته فى روز اليوسف عن تجربة حياتك فى البنسيون الذى تديره أرملة سائق سيارة تشرشل . أهنئك « . وكان الجرسون يهم بأن يضع أمامى طبق المكرونة إسباجتى وزجاجة الكوكاكولا وهو العشاء الذى طلبته فى حدود الخمسين قرشا التى اقترضتها من زميل لى طمعا في عشاء دافئ وزهيد ،و يأمره كامل بك الشناوى أن يكون حساب عشائي على نفقته . وكانت تلك عادته مع من تثير كلماته إعجابا . لاحظ كامل بك أنى حزين وعرف منى أنى ذهبت فى الصباح أطلب الإذن بالسفر إلى باريس من مكتب وزير الإرشاد لكن سكرتير الوزير طلب منى البحث عن واسطة . قال كامل بك مثلك لا يجب أن يتأجل له طلب . وأفقت فى الصباح على تيلفون فى البنسيون من مكتب الوزير يخبرنى بأن إذن السفر قد سبقنى إلى روز اليوسف. وفى المساء كان الشاعر صلاح عبد الصبور يدخل كافتريا سمير أميس ومن بعده عبد الحليم حافظ ليجلسا حول مائدة سيد الفنون جميعا كامل بك الشناوى . ثم تأتى سعاد حسنى ليحكى كامل بك الشناوى عن موسيقى رسوم إيهاب شاكر الذى لم يترك الكاريكاتير ولكنه أظهر ما كان مخفيا وسبق له التفوق فيه وهو الرسم بالألوان وكيفية إظهار مافى الأعماق على الملامح . وكان وحده من أخبرنا أن إيهاب لم يكتف بدراسة الفنون بالكلية ولكنه كان يعيش يوميا فى تدريب مستمر فى معهد ليناردو دافنشى ؛ فهو الذائب عشقا فى دراسة حركة المؤلف الموسيقى الأعظم خالق الكون . دراسة حركة الكائنات هى التى دفعته بعد شهادة إتمام الدراسة الثانوية إلى كلية الطب لعله يكشف سر انسيابية حركة الإنسان ؛ لكن دراسة الطب تبدأ من دراسة الجسد الذى انتهت حياته ، أما الرسم فهو يدرس تفاصيل ما تفعله الروح فى الجسد من حركة وانفعالات ؛ لذلك يتجه إلى الفنون الجميلة ليرحبوا به وليجد نفسه أمام الفنان بيكار معجزة البساطة والانسياب و ليجد فى صحبة المعيد ممدوح عمار صداقة وثيرة فكلاهما مفتون بالموسيقى التى تتأسس على ضوء الحركة ، فتقتحم الروح لتصبح أنغاما . يضحك إيهاب متذكرا كيف كان يرجو والدته أن تصحبه إلى بيت صديقاتها إن كان عند الصديقة آلة البيانوليعبث بأصابعه السوداء والبيضاء متسائلا عن مصدر الموسيقى . لكن أسئلته تذوب مع سنوات النضج وما بقى من الطفولة هو قدرة إقتحام العين للهواء كى تنفذ إلى أعماق من امامه ليصوره بالقلم الرصاص أو بالحبر الشينى أو بالألوان غير ناسى على الإطلاق رأى والد الكاتب الكبير راجى عنايات وزميلنا الراحل هبة عنايت ، كان الوالد يقول لإيهاب « موهبتك فى الرسم تستحق العناية « . ولم يكن إيهاب ملزما نفسه برعاية موهبته ، لأن الموهبة هى التى كانت تطارده حتى تتبلور. وهى الموهبة التى زف خبر نضجها الشاعر كامل الشناوى وأعجب بها إحسان عبد القدوس ، فقال له « ما تيجى معانا « وهى دعوة لها معنى بسيط هو أن يترك جريدة الجمهورية ويلتحق بروز اليوسف وصباح الخير . ولأن كامل بك الشناوي هو المؤمن بأن الموهبة عصفور تكره القيود؛ لذلك لا يعترض على إنتقال إيهاب من الجمهورية إلى روز اليوسف. ويتلقفه حنان الفنان حسن فؤاد ومودة إحسان عبد القدوس وتدفق نهر البساطة الذى لا يتوقف عن الفيضان وأعنى به أستاذنا أحمد بهاء الدين ، أما الذى يطالب كل من يعمل معه بأن يفتح بوابات الجنون بشرط إمتلاك القدرة على ترويضها فهو الرائع حقا وصدقا الروائى فتحى غانم لاعب الشطرنج الأشهر والذى رصد رواياته فى معظمها لتشريح العنف البشرى سواء أكان اسمه إرهاب قتل السياسيين المتعاملين مع الإنجليز فيما قبل 23 يوليو بعد القفز على ترهل الرجولة عند الملك فاروق والذى فضحته إحدى ضحاياه فى رواية « بنت من شبرا « ثم موجات تزييف التدين ليخدم حلم الخلافة الكاذب باسم التأسلم بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر ، وكان غلاف روز اليوسف قسمة بين ثلاثة جورج البهجورى وإيهاب شاكر والمسافر إلى توحد القلب مع الصفاء اليابانى رجائى ونيس ولياتى يوم لا يملك فيه إيهاب فكرة للغلاف فيحاول الاعتذار لإحسان عبد القدوس فيقول له كلمة واحدة « ستصدر روز اليوسف بغلاف ابيض مكتوب بان الرسام إيهاب اعتذر عن الرسم هذا الاسبوع ، ويبدو أن تلك جملة تناقلها قيادات روز اليوسف لأنى سمعتها حين حاولت الاعتذار لحسن فؤاد عن حلقة كان مفروض أن أكتبها من مذكرات صديق أيام دراستى السكندرية الفنان سيف وانلى فلم يكن هناك مفر من الكتابة . وما إن تخطو أقدامى إلى باريس حتى تفاجئنى شوارعها المرصعة بالقبلات فى كل زاوية أو باب منزل. ورغم برودة الجو إلى ما يقترب من درجة الصفر إلا أن القبلات تملأ شوارع باريس التى أندهش لها ، إلى أن يفاجئنى الصباح الباريسى بلافتة يسير خلفها مئات من الشبان والبنات إحتجاجا على القنابل الأمريكية على ريف فيتنام عام 1964 فأكتب تحقيقا عن تلك المظاهرة وأرسل التحقيق من باريس لأفاجأ به منشورا فى صباح الخير ومرسوم بريشة إيهاب ، فأندهش لأنى كنت وحدى بباريس فمن أين جاء إيهاب بهذا الفهم لشباب وبنات باريس . وهنا يبدأ عشق خاص بينى وبين ريشة إيهاب القادر على قراءة ما فى قلب الكاتب ومترجما لرأى فتحى غانم بأن الجنون هو غابة الفن ، لكن الفنان حقا وصدقا هو القادر على تنظيم جنونه فى إيقاع موسيقى . وحين تبدأ الصداقة بينى وبين عبد الحليم حافظ فى باريس 1964 تأتى سيرة إيهاب شاكر كفنان شديد الخصوصية ، ويحكى عبد الحليم أنه ومعه كمال الطويل يحرصان على سماع رأى شلة مكونة من كامل الشناوى وإحسان عبد القدوس والرسام الرقيق الأنيق جمال كامل ثم إيهاب شاكر ليضيف عبد الحليم « أذن إيهاب تلتقظ خفايا اللحن ،ويسألنى « هل درس إيهاب الموسيقى ؟ « فأحكى له ما سمعته من الفنان ممدوح عمار جارى فى بنسيون كيتى بشارع شريف كيف أن إيهاب هو واحد من قلة لاتغادره موسيقى الحركة فيما يرسم ، ومعبودته هى الموسقى بكل أشكالها ويؤمن أن حركة الكون كلها عبارة عن موسيقى أبدعها الخلاق الأعظم . ولكن لماذا لا نشاهد معارض للفنان إيهاب شاكر ؟ كان هذا هو سؤال عبد الحليم لى وكانت إجابتى أن ممدوح عمار الرسام المصور المدرس بكلية الفنون قال لى إن كل لوحة عبارة عن فكرة تغوص فى قلب الرسام المصور وتضبط إيقاع أصابعه على ألوانها وخطوطها . والرسم الصحفى يجعل الأفكار متلاحقة فلا يلحق العقل الباطن على إتمام الحمل بها لتكون ولادة للوحة مكتملة خالدة . وطبعا لا يوافقنى عبد الحليم على ذلك الرأى ونحن نرقب لوحات تولوز لوتريك الفرنسى الاعرج الذى رسم ما يشبه الرسوم الصحفية ورسم لوحات تضج بموسيقى الحركة واللون . فأندهش من قدرة عبد الحليم على الغوص فى أعماق قنان فرنسى ونحن نتحدث عن فنان مصرى . ويشرح لى عبد الحليم أن الكارثة الحقيقية عندنا أننا لا نعظى كل فنان حقه فى أن نفهمه . ولو أننا قدمنا الفهم دون تسرع لإمتلكنا اعتزازا بلا حدود للفنانين المصريين. وفى القاهرة أفأجئ إيهاب شاكر بسؤالى عن لوحاته التى رسمها ولوحاته التى لم يرسمها . فيضحك غير مندهش من علاقة المطرب بالفن واللوحات ليؤكد لى أن الأغنية هى لوحات من كلمات وموسيقى . ويتركنى لأنه كان غارقا فى بحر حب قرينة أيامه التى تزوجها سميرة شفيق الكاتبة التى وهبت علاقة الحب ابنتنين فنانة كسبتها كندا هى شهد وكان المفترض أن تكون معيدة لكن الاعيب الصغار منعتها من هذا الحق لتكسبها مونتريال كمعلمة رسم وياسمين التى درست إدارة الفنادق , وما إن يتعدى إيهاب الخمسين حتى يوجه لنا الدعوة إلى أول معارضه لنجد الطيور تتعانق ونجد أسماك التجارب الملونة على اللوحات ولنجد اعتذارا من أحمد بهاء الدين فى يومياته بالاهرام عن أن كتب عن إيهاب بعد نهاية معرضه الأول بيومين وكان المانع هو المرض وأكتب يومها عن رؤيتى فيما رأيت كالمسحور أن الدنيا صارت امرأة ترتدى الملاية اللف وتتمختر خطواتها بنداء صارخ الهمس وهى تنقل خطواتها على رمال الزمن ويطل منها بريق اشتياق يشد أن منا من عيونه غبيبلا خلفها ؛ لتفتح له خزائن أسرارها ، فمن دعت له أمه سيجد المرأة حنان صحبة طوال العمر ، ومن أغضب أمه سيجد المرأة وهى تهمس له : أنا أمك الغولة ولولا سلامك سبق كلامك لأكلت لحمك قبل عظامك. وفى كل الحالات لا يهتم العاشق بما تقوله الحبيبة ذات الملاءة اللف. ويحاول قهر عواصف النكد إن لاحت فى الأفق ويشدو لها من الاغنيات ما يهدئ روع التوحش الكامن فيها . لتستمر رحلة الحياة. ومنذ ذلك المعرض صرت أؤمن أن إيهاب قادر بموسيقى ألوانه وخطوطه على أن يحول كل ما نراه إلى صندوق الدنيا الذى كنا نتابعه فى الاحياء الشعبية قبل ظهور التليفزيون ليروى لنا عجوز تتراقص خطواته بين الاحياء الشعبية ليروى قصة السفيرة عزيزة والشاطر حسن. ويبقى لإيهاب تلك الوليفة الزوجة التى قال لى عنها جملة واحدة « هى إنسانة لا يفرغ ما بيننا من كلام ، فهناك فى كل لحظة ما احب ان أحكيه لها وهناك فى كل لحظة ما تحاول أن تحكيه لى « ولم يقل لى إن جمل كلماته تنبع من نهاية كلماتها تماما كما أن كلماتها تنبع من نهايات كلماتها . فأقول له : أحفظ سرك فهذا هو العشق الصافى . وتتوالى معارض إيهاب شاكر الذى حدثنى عنه شاب يريد لنا ان نعيد إحياء» وصف مصر من تانى « وهو النحات الشاب إيهاب اللبان الذى يملك من كنوز الأفكار ما تنوء به رأسه ، فيسألنى « هل بالإمكان أن تنظم قاعة أفق معرضا شاملا لإيهاب شاكر ؟ قال إيهاب اللبان ذلك لأنى فى كل صباح أحاور لوحات أصدقائى الفنانين بداية من الحبيب كمال خليفة ومرورا بسيف وانلى وتوقفا عن لوحات رسمها ابنى فى عمر السابعة ورآها حسن فؤاد كواحدة من أروع ما أبدع الرسم الطفولى . قلت لإيهاب اللبان « سأتصل بإيهاب الموجود فى رحلة علاج بكندا . وتواصل الإيهابان ليكون هناك معرض فى واحدة من أكبر دور عرض وزارة الثقافة هى قاعة «أفق»، ................ ومن يرغب فى تنقية أعماقه من شوائب ورذائل أيامنا فليذهب لغسيل أعماقه برؤية فن لا نظير له . وهى لوحات إيهاب شاكر المتجدد والموسيقى بالخط واللون وشطحات الصوفية وصلوات القديسين ونفحات أهل طريق النقاء من إخوان الصفاء . اللهم إنى أخبرتكم عن طب نفسى يغسل الأعماق عبر العيون .. اللهم فاشهد .