بعد مرور خمسة وعشرين عاما علي رحيل أحد أهم رموز الأدب العربي الحديث والنهضة الثقافية والفكرية العربية في القرن العشرين توفيق الحكيم,في26 من هذا الشهر. مازالت أعماله الأدبية والمسرحية القيمة تمثل مرجعا كلاسيكيا لأجيال عديدة متعاقبة من الأدباء والمبدعين والقراء و منارة للفن والإبداع. فهو من المبدعين القلائل الذين جمعوا بين متعة الفن ونور المعرفة, سواء في الرواية أو المسرح, فكان يسرديوميات نائب في الأرياف و يحكي قصة عصفور من الشرق ويجعلنا تارة نشتاق لمعرفة مصير صرصار, و تارة نتساءل هل سنختار الجنون لنحيا في سلام..؟ أم العقل لنحيا بكرامة..؟ وننتظر معه عودة الروح لجسد الشعب.... وغيرها من المسرحيات والروايات والقصص القصيرة والتأملات الفلسفية التي شكلت بجدارة وجدان ووعي شعب عريق. لقد انار راهب الفن والأدب توفيق الحكيم للأدب المصري والعربي شموعا من الروائع والإبداعات التي ترجمت إلي العديد من اللغات. ومن بينها عودة الروح التي صدرت طبعتها الأولي في الثلاثينيات, لكنها كتبت في العشرينيات من القرن الماضي بوحي من ثورة1919, حيث رصد فيها الحكيم ثورة الشعب من خلال أسرة صغيرة مكونة من الشاب محسن وأعمامه وعمته زنوبة والخادم مبروك. وفي هذه الرواية اعتمد الحكيم علي دمج تاريخ حياته في الطفولة والصبا بتاريخ مصر, فهو مثل بطل الرواية محسن ترك والده الثري ووالدته التي من أصل تركي بدمنهور ليعيش في المحروسة مع أعمامه لمواصلة الدراسة الثانوية, وفي هذه الفترة وقع هو وأعمامه الشعب الصغير في غرام سنية الجارة التي لم تبادل أيا منهم هذا الحب, ليتحول بعد ذلك حب سنية لحب أعظم يجمع الشعب الصغير ليصبحوا قلبا واحدا ويصهرهم في الشعب الكبير. لقد جمع الحكيم في هذه الرواية بين الواقعية والرمزية, وابتكر الشخصيات ووظف التاريخ علي نحو متقن وبارع مما أدي إلي خروج واحدة من أعظم الروايات العربية كان لها تأثير كبير علي قيام ثورة1952. فسنية كانت وسيلة رمزية للتعبير عن مصر,ذلك الحب الذي يوحد القلوب, لكنها كانت مصر مختلفة, امرأة لعبت بالقلوب ولم تمنح قلبها الا لغريب. وقامت الثورة فسما ذلك الحب إلي مقام الوطن. ويعد مفهوم القلب محورا أساسيا من محاور فكر الحكيم. كان ذلك واضحا في الحوار الذي دار بين مفتش الري البريطاني وعالم الآثار الفرنسي عندما قال الأخير:إن هذا الشعب الذي تحسبه جاهلا ليعلم أشياء كثيرة, لكنه يعلمها بقلبه لا بعقله! إن الحكمة العليا في دمه ولا يعلم!.. والقوة في نفسه ولا يعلم!.. هذا شعب قديم: جيء بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة, من تجارب ومعرفة رسب بعضها فوق بعض وهو لا يدري.نعم هو يجهل ذلك, ولكن هناك لحظات حرجة; تخرج فيها هذه المعرفة وهذه التجارب. فتسعفه وهو لا يعلم من أين جاءته, هذا ما يفسر لنا نحن الأوروبيين تلك اللحظات من التاريخ, التي نري فيها مصر تطفر طفرة مدهشة في قليل من الوقت!.. وتأتي بأعمال عجاب في طرفة عين...! لقد قال الحكيم هذا الكلام في الثلاثينيات وكأنه يعيش ثورات الشعب المصري قبل حدوثها. ومن بين الأعمال المسرحية التي أبرزت عبقرية المؤسس الحقيقي للمسرح التجريدي الذهني في القرن العشرين,,,بل مؤسس المسرح العربي الحديث, توفيق الحكيم مسرحية مصير صرصار, حيث أستخدم الحكيم الصرصار ليكون بطل مسرحيته, وحوله مصدرا لأمل من لا أمل له, فهو يكافح من أجل الحياة من دون كلل حتي وهو لا يمتلك الأمل, مثله مثل سيزيف البطل المأساوي الإغريقي الذي عاقبه الآلهة عقابا أبديا في جحيم الإغريق بان يحمل صخرة كبيرة إلي أعلي الجبل, وما أن يفعل تتدحرج الصخرة مرة أخري إلي أسفل ليعيد سيزيف المحاولة مرة أخري دون انقطاع... والي الأبد. لقد جمع الحكيم في هذه المسرحية بين الفكاهة والعمق ليضع أبعادا فلسفية ورمزية للمسرحية بشكل بارع, واستفاد من التجارب الحداثية الغربية التي سادت حول منتصف القرن العشرين من مسرح العبث واللامعقول, فأثري بذلك المسرح العربي والفكر الإنساني, لا في هذه المسرحية وحدها,بل في مجمل عطائه رائدا ومجددا, حريصا علي التمسك بالجذور واستلهام النيابيع الأصلية المتعددة لثقافتنا,وفي نفس الوقت, تخصيبها بمستحدثات الغرب. وهو, إذ نحتفل هذه الأيام بمرور ربع قرن علي رحيله, إنما يزداد مع الوقت حضورا بيننا.