اسمان لامعان فى تاريخ الثقافة الإنجليزية، يفصل بينهما نحو قرن ونصف القرن، وترك كل منهما أثرا عميقا فى السياسة الاقتصادية والاجتماعية، ليس فقط فى انجلترا بل فى العالم ككل. أولهما (جيريمى بنثام Jeremy Bentham) الذى نشر فى أواخر القرن الثامن عشر كتابا بعنوان (مبادئ الأخلاق والتشريع) وكان يعتقد أنه يقدم به فى علم الأخلاق والتشريع ما يقابل، ما قدمه اسحق نيوتن فى علم الطبيعة، مبدأ المنفعة فى حالة بنثام فى مقابل فكرة الجاذبية عند نيوتن كان طرح فكرة المنفعة أو تحقيق أكبر نفع لأكبر عدد ممكن من الناس، يمثل ثورة على الأفكار والمبادئ السائدة فى القرون السابقة التى تقوم على أفكار ميتافيزيقية مستقاة من الدين أو من غيبيات أرسطو وفلاسفة اليونان القدامي، إذ أصبح أساس الحكم الأخلاقى ومعيار تقييم القواعد القانونية هو ما يحققه السلوك أو القاعدة القانونية من نفع للناس، وليس مدى مطابقته لأحكام الدين أو لآراء شخصيات تاريخية مقدسة أو شبه مقدسة. أما الشخصية الثانية فهى (مينا رد كينيز Maynard Keynes) الذى يعتبر واحدا من أهم اقتصاديى القرن العشرين إن لم يكن أهمهم على الإطلاق الذى دعا إلى تدخل الدولة لإصلاح ما قد يفسده الأفراد المدفوعون بالرغبة فى تحقيق مصالحهم الخاصة. لكينيز قول مشهور يصف فيه مبدأ المنفعة الذى قدمه بنثام بأنه (كالدودة التى تنهش فى أحشاء الحضارة الغربية). وكان يقصد بذلك الحالات التى تتعارض فيها المنافع الخاصة مع المصلحة العامة. فهنا يجب فى رأيه أن يكون للدولة دور لتصحيح الأمر. لم يكن غريبا أن يكون لكلا المفكرين الإنجليزيين أثر كبير فى تطور الثقافة فى مصر، كما فى غيرها من البلاد. لقد صادفت مثلا كتابا كان يدرس فى المدارس فى مصر فى ثلاثينيات القرن الماضي، ويحمل عنوان (الأخلاق للمدارس الثانوية) وكانت أفكار بنثام عن مبدأ المنفعة تحتل فيه مكانا بارزا. كما ظهر فى مصر أكثر من كتاب يشرح بإسهاب أفكار كينيز عن دور الدولة فى الاقتصاد. كان من الاقتصاديين فى مصر من تحمس لهذا الموقف أو ذاك. ففى الاربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين تحمس للحرية الاقتصادية الأستاذ وهيب مسيحة مثلا (فى كلية التجارة) وسعيد النجار (فى كلية الحقوق)، وكان منهم من تحمس لتدخل الدولة ك (راشد البداوى وعبدالرزاق حسن). ثم جاءت الثورة المصرية فى 1952 وتبنت فى البداية مذهب الحرية الاقتصادية ثم عدلت عنه فى أواخر الخمسينيات وطبقت ما عرف ب (الاشتراكية العربية) فى الستينيات. كان المبدآن يتنافسان بشدة فى العالم كله، طوال الخمسينيات والسيتينيات، لكن بدأت حدة التنافس تضعف شيئا فشيئا منذ أواخر الستينيات لمصلحة مبدأ الحرية الاقتصادية، وخبا نجم الاشتراكية مع ازدياد نفوذ ما عرف بالشركات المتعددة الجنسيات ثم بتفكك دولة الاتحاد السوفيتى وتحول كل جزء منها إلى نظام أقرب إلى الرأسمالية منه إلى الاشتراكية، فلم يبق من الدول من يحمل لواء المبادئ الاشتراكية إلا دولة صغيرة هى كوريا الشمالي، أو دولة تطبق مزيجا من الاشتراكية والرأسمالية هى الصين. هل يعنى هذا التطور أن الصواب كان فى جانب دون الآخر، وأن الجانب المصيب هو الذى انتصر فى النهاية؟ لا أظن ذلك. كل ما فى الأمر فى رأيى أن الفكر الاقتصادى والسياسى السائد يستجيب دائما للظروف الاقتصادية السائدة. لقد ظهر مبدأ بنثام فى المنفعة فى بداية عنفوانه الرأسمالية الصناعية فى أواخر القرن الثامن عشر، وظهرت كتابات كينيز عندما أصيبت الرأسمالية بأزمة عنيفة فى ثلاثينيات القرن العشرين. ثم استعار مبدأ الحرية الاقتصادية قوته مع استعاد الرأسمالية نشاطها منذ الحرب العالمية الثانية. منذ سنوات قليلة ظهر كتاب لاقتصادى فرنسى هو (توماس بيكيتى Thomus Piketty) بعنوان (رأسمالية القرن الحادى والعشرين) أبرز فيه ما حدث من تدهور فى توزيع الدخل داخل الدول المتقدمة الصناعية، وكذلك بينها وبين الدول الأقل تقدما. وقد دعا هذا التطور بعض الاقتصاديين إلى القول بأننا على أبواب عصر جديد تعود فيه الدولة إلى ممارسة دور كبير فى الاقتصاد. وقد يكون هذا صحيحا، لكن من الصحيح أيضا أننا نعيش الآن عصر العولمة، مما قد يفرض على السياسة الاقتصادية فى مختلف بلاد العالم تطورات لم نعهدها من قبل، ويحتاج التنبؤ بها إلى أكثر من استقراء التطور التاريخى وبعض الخيال. لمزيد من مقالات د. جلال أمين;