ما أكثر ما كانت هاتان الكلمتان «بالرأسمالية والاشتراكية» تترددان على اسماعنا، ويتكرر ذكرهما فى الصحف ووسائل الإعلام طوال الخمسينيات والسيتينيات من القرن العشرين، بعد أن احتلتا مكان الصدارة خلال المائة عام السابقة، باعتبارهما موضوع الخلاف الرئيسى بين المذاهب والنظم السياسية والاقتصادية. من اللافت للنظر أنه خلال الأعوام الخمسين الماضية، أى منذ أواخر الستينيات لم يعد هذا الخلاف بينهما يثير الحماس أو يحفز على تكوين حزب أو القيام بنشاط سياسى وكأن الموضوع قد فقد بريقه والتفت الناس إلى موضوعات وخلافات اخرى يرونها أكثر ملاءمة للعصر الذى نعيش فيه. هذا التحول فى الاهتمام بموضوع الرأسمالية والاشتراكية لابد أن يذكرنا بحدثين تاريخيين، يعود أحدهما إلى نصف قرن مضي، والآخر إلى ربع قرن، يتعلق الأول بما سمى الجدل حول نهاية عصر الايديولوجيا، حيث ذهب بعض المثقفين من أبرزهم دانيل بيل Daniel Bell إلى أنه بعد أن سيطرت الخلافات الايديولوجية على الجدل السياسى لمدة تزيد على قرن من الزمان، يبدو أننا دخلنا عصرا جديدا تراجعت فيه أهمية الايديولوجية فى التفرقة بين نظام أو مذهب سياسى وآخر، وبدأت النظم يقترب بعضها من بعض على أرض الواقع، من حيث ما تطبقه بالفعل من إجراءات اقتصادية وسياسية، قيل وقتها إن ما يحدث فى الواقع فى داخل أى نظام قد يختلف كثيرا عما يرفعه النظام من شعارات إذ يستلهم القائمون على النظام السياسى المصالح العملية المباشرة حتى ولو تعارضت متطلباتها مع الشعارات المرفوعة. وهذا لابد أن يؤدى إلى أن يقترب ما يجرى داخل دولة ما مما يجرى داخل دول أخرى (Comversion) فيحل التقارب الفعلى محل الخلاف الايديولوجي. ظهرت صحة هذا الرأى بما حدث من تقارب بين المعسكرين الغربى والشرقى أو الرأسمالى والاشتراكى من حيث الإجراءات والمواقف التى يتخذانها فى داخل دولهما أو إزاء العالم الثالث، بل فى حدوث انفتاح كل منهما على الآخر اقتصاديا وسياسيا. أما الحدث التاريخى الآخر الذى يتعلق بتراجع حدة الجدل بين الرأسمالية والاشتراكية فهو ظهور كتاب الكاتب الأمريكى (فرانسيس فوكوياما) فى سنة 1992 نهاية التاريخ، الذى أثار ضجة كبرى وجدلا واسعا لعدة سنوات، بسبب زعمه أن مرحلة تاريخية طويلة قد انتهت بسقوط الاشتراكية فى الاتحاد السوفيتى والدول الدائرة فى فلكه، واعترافها جميعا بأفضلية نظام السوق الحرة، والحافز الفردى أى ب (أفضلية الرأسمالية على الاشتراكية)، مما استحق فى نظر المؤلف أن يوصف بنهاية التاريخ. يثير هذا التحول المهم فى الفكر السياسى أسئلة شيقة عما يمكن أن يكون قد حدث فى العالم بحيث ينهى جدلا استمر فترة طويلة من الزمن، لكن الحقيقة أن هذا التحول الذى أصبح واضحا منذ أواخر الستينيات كانت قد بدأت بوادر مهمة له قبل ذلك بوقت طويل. ففى أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين ظهر كتاب مهم من تأليف بيرل ومينز Berle and means بعنوان الشركة المساهمة الحديثة والملكية الخاصة تكلم عن ظاهرة الانفصال بين الملكية والإدارة. فمع نمو الشركات المساهمة التى تتسم باتساع نطاق الملكية فيها حتى يضم ملايين من المستثمرين الصغار الذين ليست لديهم القدرة ولا حتى الرغبة فى الانشغال بإدارة الشركات التى يملكونها إذ كل ما يطمحون إليه هو الحصول على عائد معقول على مداخراتهم، كان من المحتم أن تنتقل الإدارة من المالك الرأسمالى (الذى تعود أن يدير مشروعه الصغير ويملكه فى الوقت نفسه إلى مجموعة من المديرين الذين قد يملكون وقد لا يملكون نسبة مهمة من اجمالى رأس مال الشركة، لكن لديهم على أى حال الرغبة والقدرة على ممارسة وظيفة الإدارة. ظهر بعد ذلك كتاب مهم أثار بدوره جدلا واسعا من تأليف ج برنهام J.Burnham فى سنة 1941 واسم الكتاب الثورة الإدارية The Managerial REVolution وأكد أيضا حتمية الانفصال بين الملكية والإدارة بسبب تطور التكنولوجيا وازدياد حجم المشروع. لكن تطورا مشابها حدث ايضا فى الدول الاشتراكية كان الاشتراكيون الأوائل يدعون إلى ملكية الدولة للمشروعات الإنتاجية بديلا للملكية الفردية من أجل القضاء على استغلال المالك للعمال، واستئصال تلك الظاهرة التى اعتبروها قبيحة من الناحية الاخلاقية وهى «الربح» إذ يذهب هذا الربح (الذى اعيدت تسميته بالفائض أو كلمة مشابهة إلى أيدى مديرى المشروع الذين يعودون فيردونه إلى العمال فى الدول الاشتراكية بطريقة أو باخري، لكن المديرين فى الدول الاشتراكية أظهروا عزوفا بدورهم عن إعادة توزيع هذا الربح أو الفائض على العمال، وفضلوا توجيهه إلى استعمالات أخرى قد تفيد أو لا تفيد العمال فى نهاية الأمر. هل يمكن بهذا تفسير ما نراه من تراجع فى أهمية الجدل حول الرأسمالية والاشتراكية، بل حتى فى استخدام هذين المصطلحين فى الكتابات السياسية؟ ربما كان الأمر كذلك ان أهمية التمييز بين الرأسمالية والاشتراكية كانت تعود إلى حد كبير إلى أهمية التمييز بين من يملك رأس المال وبين من لا يملك إلا قوة العمل. فأثار هذا قضية الاستغلال من ناحية والرغبة فى التوحيد بينهما من ناحية أخري. أما وقد ظهر أن هناك عنصرا ثالثا يزداد قوة وسطوة وهو الإدارة، وأنه ينفصل أكثر فأكثر عن عنصر الملكية (مع نمو حجم المشروع) وأنه قد يأخذ فى الاعتبار مصالح أخرى كثيرة غير ما يعود على العمال من نفع كالقوة العسكرية مثلا أو حتى المصالح الخاصة للنخبة الحاكمة، فإن التسمية القديمة التى تعكس الفوارق القديمة بين ما يملكه الرأسماليون وما تملكه الدولة أى اصطلاحى (الرأسمالية والاشتراكية) لم تعد تثير من الحماس ما كانت تثيره منذ قرن أو قرن ونصف القرن. لمزيد من مقالات د. جلال أمين;