لم تهدأ بعد العاصفة التي أثارها كتاب المفكر الاقتصادي الفرنسي « توماس بيكيتي « « رأس المال في القرن الواحد والعشرين « ، وهو الكتاب الذي توصل فيه الباحث إلى نتيجة صادمة أثارت غضب المدافعين عن العولمة الرأسمالية التي وصفها « سمير أمين « بالفجة ، كما غضب منه ممثلو الاحتكارات الدولية والمؤسسات المالية التي تتحكم في اقتصاديات العالم . يقول بيكيتي ببساطة إن انعدام المساواة بين العمل ورأس المال وبين الطبقات داخل البلدان نفسها ، وفيما بين البلدان وبعضها البعض قد تزايد في القرن الواحد والعشرين وفاق ما كان عليه الحال في القرون الثلاثة السابقة .يضعنا « بيكيتي « أمام هذه الحقيقة الصادمة رغم أنه ينفي في مقدمته أن يكون معاديا للرأسمالية .. ولكن الحقيقة .. هي الحقيقة . وقد برهن « بيكيتي « على هذه الحقيقة بعمل بحثي وإحصائي جبار ، بذل فيه جهداً صبوراً متحليا بنزاهة العالم ، ومسلحا بمنهج علمي صارم وإن كان ناقصا كما سأبين فيما بعد ، وجمع مادة بالغة الثراء من عشرين بلدا مستفيدا من الإمكانيات الجديدة الهائلة التي وفرتها شبكة الانترنت للباحثين فأصبح جمع المعلومات أسهل كثيرا من ذي قبل.يرى « بيكيتي « أن الآمال التي علقها الناس على التقدم في اتجاه توزيع أقرب إلى المساواة في الثروة والدخل ، وقيام نظام اجتماعي عادل قد تحطمت في القرن الواحد والعشرين فما أن يتكون رأس المال إلا ويعيد إنتاج نفسه بأسرع كثيرا من زيادة الناتج القومي ، وهكذا يقوم الماضي بالتهام المستقبل . وهو يفرد مساحة كبيرة لمجتمع المديرين والأجور السوبر كأحد العوامل التي أدت إلى التركيز الهائل للثروة . وتوصل إلى استنتاجاته وهو يستدعى لنا وقائع تاريخية من القرن التاسع عشر في كل من فرنساوأمريكا حين قامت الشرطة خلالها بإطلاق الرصاص الحي على عمال مضربين كانوا يطالبون برفع أجورهم ويتساءل : هل يا ترى تنتمي مثل هذه الممارسات للماضي حينما كان يدور الصراع العنيف بين العمل ورأس المال ؟ أم أنها ستكون جزءًا عضويا من القرن الواحد والعشرين الذي يشهد تركيزا هائلا للثروة في أيدي أقلية ، وهو ما أدى إلى تزايد انعدام المساواة عن ما كان عليه الحال في القرون الثلاثة السابقة .
وقد بدأت محاولات قياس الدخل القومي ورأس المالي في نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر حين أنهت الثورة الفرنسية امتيازات النبلاء .
ويتوقف الباحث طويلا أمام الفجوة بين معدل النمو في بلد ما ، ومعدل ربح رأس المال الذي عادة ما يفوق الأول كثيرا إذ يؤدي الربح بكل أشكاله إلى التراكم وتنشأ فجوة أخرى بين عائد العمل وعائد رأس المال ، ويتزايد إنعدام المساواة في توزيع الثروة .
وهو يرى أن أفضل طريقة لتحليل انعدام المساواة تتم عبر الكتل الإقليمية لا القارية .
وعلى هذا الأساس يقدم لنا جدولا يبين مدى زيادة انعدام المساواة على الصعيد العالمي في عام 2012 .
لا مكان للعدالة
يصل تعداد السكان في العالم إلى حوالي سبعة مليارات من البشر ، بينما يصل الدخل السنوي العالمي إلى 70 تريليون يورو ( التريليون مليون مليون ) . وإذا ما خصمنا من هذا الدخل 10% نسبة إهلاك ، وقسمنا ما تبقى على سكان المعمورة يكون نصيب الفرد 760 يورو في الشهر . هذا بينما تتراوح دخول المواطنين في إفريقيا جنوب الصحراء والهند ما بين 150 إلى 250 يورو في الشعر وتصل إلى ما بين 2500 و3000 يورو في بلدان أوروبا الغربية ، وأمريكا الشمالية واليابان .
ويصل دخل الفرد في الصين كممثلة للدول متوسطة الدخل إلى ما بين 600 و800 يورو في الشهر .
أملاك الآخرين
ويزداد انعدام المساواة على الصعيد العالمي فيما يتعلق بتوزيع الدخل أكثر كثيرا من انعدامها فيما يخص توزيع الناتج ، ذلك لأن الدول الأغنى تملك رءوس أموال واستثمارات في بلدان أخرى ، وبذلك تكون الدول الغنية غنية مرتين ، فهي تنتج أكثر داخل بلدانها وتستثمر أكثر في الخارج ، وبذلك يصبح نصيب الفرد من دخلها القومي أكبر كثيرا من نصيب الفرد من الناتج القومي . والعكس بالعكس فيما يخص البلدان الفقيرة التي تستنتزف الدول الغنية ثرواتها ، ويتجلى هذا الواقع أوضح ما يكون في ما تملكه الدول الغنية في إفريقيا .
ففي بداية القرن العشرين تملكت أوروبا ما بين ثلث ونصف رأس المال في إفريقيا وآسيا مع أكثر من ثلاثة أرباع رأسمالهما الصناعي . ولم تجن أي من بلدان آسيا التي أصبحت أقرب إلى الدول المتقدمة فائدة تذكر من الإستثمارات الأجنبية الضخمة . وتاريخيا كانت المساواة الغائبة في تملك رأس المال تعود إلى نوع من الهيمنة السياسية الاستعمارية حيث دفعت الدول الفقيرة فاتورة الاستهلاك المتزايد للدول الغنية بينما اعتمد مشروع لحاق الدول الفقيرة بالدول الغنية على التقدم في إمتلاك المهارات والمعرفة والتعليم وليس بتمكين الدول الغنية من تملك بلدانهم . وتتضمن هذه الحقيقة تحذيرا للمطالبين بفتح الباب واسعا أمام الاستثمارت الأجنبية أيا كانت شروطها .
السنوات المجيدة
ولطالما شعر الفرنسيون بل والأوروبيون عامة بالحنين لما أسموه بالثلاثين المجيدة أي السنوات من 1940 حتى 1970 حين تسارع النمو بوتيرة عالية . وكان لتدخل الدول والتوسع في أدوارها الاقتصادية والاجتماعية أثر بالغ في إحداثه .
ثم بدأت سنوات التراجع مع نهاية السبعينات حين أخذت « مارجريت تاتشر « في إنجلترا و» رونالد ريجان « في أمريكا في هدم دولة الرعاية الاجتماعية ، وإطلاق سياسات الليبرالية الجديدة وهي سياسات أدت لنتائج مدمرة تعرفها جيدا البلدان الفقيرة وحتى البلدان الغنية .
ويستنتج « بيكيتي « من عمليات إحصائية معقدة يصل منها إلى توقعات أن الدول الفقيرة ومتوسطة النمو في سعيها للحاق بالدول الغنية سوف تصل إلى مستوى الدول الغنية من حيث معدل الدخل القومي مع حلول عام 2050 . وحينذاك سيكون توزيع الدخل بين البلدان عالميا مساويا لتوزيع السكان أي أن بلدا يضم 5% من سكان العالم سيحظى ب 5% من ثروة العالم أما التوزيع فيما بين سكان كل بلد فسيكون عملية أخرى تتوقف على السياسات التي تتبعها النظم وهو ما لم يقله الباحث .
الروايات
وفي دراسته لتحولات رأس المال تعامل مع روايات القرن التاسع عشر في كل من إنجترا وفرنسا كمصادر لرؤية اقتصادية واجتماعية وتكررت أسماء كل من « جين أوستن « و» بلزاك « مع وصف لشخصيات رواياتهما مقتبسا من ذلك أعمالهما فقرات مطولة ، وصل منها إلى دلالات عميقة حول العلاقات الاجتماعية في ذلك الزمان كما توقف أمام روايات « هنري جيمس « ليستخرج منها بنفس الآلية دلالات على تطور المجتمع الأمريكي وتعقيداته الخاصة .
كما يرصد الباحث ظاهرة تعاظم الملكية الخاصة في كل من إنجلتراوفرنسا في القرن الواحد والعشرين ويجد أنها تشكل ما يزيد على 90 % من الثروة القومية في البلدين مع زيادة متواصلة في الدين العام ، وهي الزيادة التي تعزز دور الملكية الخاصة . ودرجة تركز الثروة في قرننا .
حدث ذلك في ظل السياسات الليبرالية الجديدة بعد أن كانت الملكية العامة قد أصبحت تشكل ما يزيد على 50% من الثروة القومية في فرنسا في منتصف القرن العشرين من 1945 وحتى 1970 أي في السنوات المجيدة ووصف الاقتصاديون الوضع الذي اتسم بالتدخل الواسع للدولة حينذاك بالرأسمالية ، بدون رأسماليين أو برأسمالية الدولة التي كان « فريدريك إنجلز « قد عرفها في القرن التاسع عشر بأنها رأسمالية جرى دفعها إلى أقصى حدودها .
ويعد الفصل السادس في القسم الثاني من الكتاب المعنون ب انقسام رأس المال والعمل في القرن الواحد والعشرين من أهم فصول الكتاب ، ومن حسن حظ القارئ المصري والعربي أن الباحثين « سلمي حسين « و» ووائل جمال « يترجمان الكتاب إلى العربية ، وترجمه إلى الإنجليزية « أرثر جولدهامر « وأملي أن يثير هذا الفصل نقاشا واسعا بين الاقتصاديين المصريين والعرب .
عيون أوروبية
يصل « بيكيتي « إلى استخلاصات أساسية بعضها خاطئ تماما من مثل قوله « إن الشروط المادية للحياة قد تحسنت بصورة درامية منذ الثورة الصناعية إذ يتمكن الناس حول العالم من أن يأكلوا أحسن ، ويلبسوا أفضل ، ويسافروا ويتعلموا ويحصلوا على الرعاية الصحية « .
فهل هذا صحيح ؟
يرد عليه ضمنيا باحث أمريكي هو « جون بركنز « في كتابه « الاغتيال الاقتصادي للأمم « الذي يقول إن هناك أربعة وعشرين ألف إنسان يموتون كل يوم لأنهم لا يستطيعون الحصول على طعام يسد الرمق ، وفي بلادنا الغنية أمريكا هناك 12 مليون أسرة لا تعرف كيف تدبر وجبتها التالية«.
فرغم أن « بيكيتي « تعامل إحصائيا مع عشرين بلدا إلا أن نظرته لتطور مستوى معيشة سكان العالم لم تر سوى القارة الأوروبية بل والبلاد الغنية فيها على نحو خاص أي أنه رأي مستوى المعيشة بمنظار أوروبي .
كذلك هو لم ير جيدا مدى اتساع الاحتجاجات الشعبية وصولا إلى الانتفاضات والثورات الكبرى في كثير من البلدان بسبب تفاقم الاستغلال والاستبداد وتدهور مستوى المعيشة ولا رأي العنف الذي واجهت به السلطات بعض هذه الاحتجاجات وهو يتساءل ببراءة : هل ينتمي عنف السلطات ضد العمال للماضي ؟ .ويتحدث « بيكيتي « عن الاستعمار بصيغة الماضي وهو يسوق لنا إحصائيات مذهلة إذ وصلت الأصول الخارجية لليابان إلى ما يعادل 70% من دخلها القومي ، بينما وصلت في ألمانيا إلى 50% وهو ما يعود إلى الفائض في الميزان التجاري للبلدين .
ويتساءل هل نحن بصدد عودة الظاهرة الاستعمارية حيث امتلكت بلدان بلدانا أخرى ؟
ويضيف الباحث « إن الميزة المترتبة على التملك هي أن المرء يستطيع أن يواصل الاستهلاك ومراكمة المال عن طريق الربح دون أن يكون عليه أن يعمل . وهو يستهلك ويراكم بما يفوق قدرته على الإنتاج ، كان هذا هو الحال بالضبط على الصعيد العالمي في عصر الاستعمار.
وفي رصده للفروق بين أمريكا وأوروبا يسجل ان رأس المال الأجنبي في أمريكا كان ثانوياوهو ما يعود إلى ان أمريكا باعتبارها أول مستعمرة تحقق الاستغلال لم تتحول هي نفسها أبداً إلى قوة استعمارية هذا بينما يسوق لنا هذه الحقيقة وهي أن العبيد شكلوا 20% من سكان أمريكا سنة 1800 إذ وصل عددهم إلى مليون من خمسة ملايين نسمة هم سكان أمريكا آنذاك ، وكانت الثروة المستخلصة من تملك العبيد هي الأكثر تركيزاً في هذا الزمن وهذا شكل من أشكال الاستعمار إضافة إلى ان جلب الإفريقيين من بلدانهم ليعمروا القارة الجديدة تم بطريقة وحشية لم يضاهها في وحشيتها سوى عمليات إبادة السكان الأصليين حين استعمر المستوطنون البيض بلدهم.
ومن حقنا أن نتساءل ألا يزال هذا هو الحال في عصر الأمبريالية وتحالفها الثلاثي الذي تشكله أمريكا واليابان والاتحاد الأوروبي ، وحيث تتملك بلدان بلدنا أخرى على حد قول « بيكيتي « الذي استخدم تعبير الاستغلال فقط في وصف استنزاف البشر للموارد الطبيعية بينما تساءل إن كانت عودة الاستعمارة حقيقة .
لم يرد الباحث على السؤال الجوهري الذي شغل الاشتراكيين والشيوعيين بكل ظلالهم أي ما هو المصدر الرئيسي لفائض الثروة سواء في ظل نظم الإقطاع أو المجتمع الصناعي بكل أشكال تطوره التي نعيشها الآن .
لقد كان الرد الاولي لغالبية الباحثين والمناضلين التواقين لتجاوز نظم الاستغلال والباحثين عن نظام اجتماعي يلغي هذا الاستغلال كان هذا الرد هو فائض عمل الكادحين .
ورغم أن « بيكيتي « وجه انتقادا شديدا للماركسية إلا أنه لم يستطع أن يتحدى تحليل « ماركس « لفائض القيمة على النحو التالي :
(( إذا كان نصف يوم عمل فقط يكفي ليعيش العامل يوما كاملا ، فإنه يحتاج ليطيل حياته إلى العمل نصف يوم فقط . أما النصف الثاني فهو عمل إجباري ، عمل زائد فما يبدو بمثابة قيمة زائدة بالنسبة إلى رأس المال ، يبدو تماما بالنسبة للعامل بمثابة عمل زائد يفوق حاجته كعامل وهذه القيمة الزائدة هي التي تعكس علاقة الاستغلال القائم على تملك رأس المال لقيمة هذا العمل الزائد في شكل ربح يمثل درجة استغلال قوة العمل التي تنشأ على أساس منها طبقة مستغلة بكسر العين وينتج عن هذا الاستغلال كل من الفائدة والربح حيث يتقاسم الرأسماليون قيمة فائض العمل )).
استثنى الباحث من دراسته الموسعة كل بلدان المنظومة الاشتراكية التي سقطت رغم أن المقارنة بينها وبين البلدان التي اختارها كنماذج من حيث الموضوع الذي ترتكز عليه دراسته وهو انعدام المساواة سواء في الثروة أو الأجور كانت أي المقارنة ستقدم له مدخلا للبحث عن بديل للرأسمالية السائدة حتى في إطار الرأسمالية أيضا ذلك أن إنكار التجربة ككل هو عمل غير علمي رغم الإقرار الكامل بإدانته لهذه النظم ووصفه لها بالشمولية ومعاداة الديمقراطية ولكن النظم السياسية لم تكن موضوع كتابه .
رأسمالية دولة
ويرى كثير من الاقتصاديين الاشتراكيين أن ما كان قد تم إنجازه في الاتحاد السوفيتي بعد الثورة البلشفية هو رأسمالية دولة وليس اشتراكية حيث وضعت الدولة يدها على الفائض وأعادت توزيعه بين الطبقات المختلفة ، ولعل ذلك هو ما يحدث في الصين الآن التي يقول قادتها إنها في المرحلة الجنينية للاشتراكية.
وفي هذا الصدد تطرق « بيكيتي « بشكل هامشي لقضية السلطة السياسية والتي هي مفتاح بالغ الأهمية لمعرفة طريقة تطور المجتمعات خاصة إذا كانت تخوض تجربة جديدة تماما على البشرية وطرحت على نفسها مهمة تجاوز الاستغلال الذي صاحب كل النظم السابقة عليها .
ولذا قال المفكر الماركسي « شارل بيتلهايم « « اعتقد أن كل ما يمت للاتحاد السوفيتي ينطوي على معان ودلالات عالمية « .
و« بيتلهايم « هو واحد من الذين قالوا مبكرا جدا إن ما تم في الاتحاد السوفيتي ينتمي لرأسمالية الدولة وليس للاشتراكية .
وبذلك تجاهل « بيكيتي « البدائل الأكثر جذرية حتى لو فشلت إذ إنه لا يستطيع أن يقول إن الرأسمالية قد نجحت لأن كتابه هو أكبر شاهد إدانة ضد الرأسمالية وتناقضاتها الداخلية العميقة لأن الاعتراف بالتناقضات لا يعني حلها .
كانت الثورات الاشتراكية في كل من روسياوالصين قد اطلقت في ضمير البشرية قيما وأفكاراً ومبادئ بل وممارسات ومواقف سياسية نبيلة وجديدة لذا من الخطأ الفادح اختزالها في الشمولية والانتهاكات وقمع الديمقراطية التي يضع « بيكيتي « كل رهانه عليها .
ورغم أن أحدا لا ينكر حقيقة التطور الديموقراطي في الغرب في ظل الرأسمالية إلا أن هذا التطور أخذ يتقلص تحت ضغط نفوذ المال الذي يستبعد الجمهور العام والفقراء خاصة من المشاركة السياسية وهو ما يقرره في كتابه الجديد « فرانسيس فوكوياما « أحد أشد المدافعين عن النظام الرأسمالي والذي سبق أن قال بأن هذا النظام هو نهاية التاريخ وهو الآن يقول لا يوجد من الأحزاب السياسية من لديه الحافز لأن يعزل نفسه عن جماعات المصالح . في الوقت ذاته لا تربد هذه الجماعات القوية نظاما لا يمكن فيه شراء النفوذ بالمال « .
ويضيف « فوكوياما « « يحدث الاضمحلال السياسي عندما تفشل المؤسسات في التكيف مع الظروف الخارجية المتغيرة الناجمة عن الجمود الفكري ، أو بسبب قوة النخبة الحاكمة الساعية إلى حماية مناصبها والحيلولة دون أي تغيير « .
أما « جون بركنز « فيقول : « تنطوي كل الأنظمة الرأسمالية على ترتيب هرمي مزود بقيود صلبة وقاسية في السلطة والسيطرة تشمل حفنة من الأفراد يتربعون على أعلى قمة هذا الهرم ، وفي يدهم الأوامر المتسلسلة من أعلى لأسفل لتابعيهم ، وجيش ضخم من العمال في القاعدة الذين من الممكن حسب المصطلحات الاقتصادية أن يصنفوا كعبيد « .
رفض الباحث القول إن هناك ما يسمي علم الاقتصاد المجرد إذ أعتبر الاقتصاد جزءًا لا يتجزأ من العلوم الاجتماعية شأنه شأن الانثروبولوجيا والعلوم السياسية .
كذلك رفض فكرة الانكباب المتعالي على التخصص الدقيق في الاقتصاد داعيا الجميع إلى الاهتمام بالشأن العام على اعتبار أن كل إنسان هو سياسي بطريقته ، إلا أنه رغم ذلك كله همش دور السياسة والخيارات السياسية والكفاح السياسي في التطور الاقتصادي وبقى ملتزما بالديمقراطية كما هي قائمة في النظام الرأسمالي دون انتقاد لمحدوديتها ولآليات العزل والاستبعاد التي ينتجها انعدام المساواة .
برنامج للتجاوز
وأخيرا دعا « بيكيتي « إلى ما يمكن أن نسميه برنامجا لتجاوز الوضع القائم الذي أنتج عدم المساواة الهائلة هادفا إلى التخفيف منها سواء بفرض ضريبة كونية على رأس المال وتداول المعلومات اتوماتيكيا بين البنوك في إطار من الديمقراطية والشفافية المالية أو النظر مجدداً في آلية الضرائب التصاعدية مقترحا زيادتها .
ونتذكر في هذا الصدد ما كان قد دعا إليه « سمير أمين « مطالبا بإنشاء بنك مركزي عالمي.
وأيا ما كانت الملاحظات النقدية على هذا الكتاب المهم فهو لا غنى عنه لا للباحثين فقط وإنما أيضا لكل المكافحين من أجل عالم جديد ترفرف عليه رايات العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية .