لماذا يزداد الأغنياء ثراءً والفقراء فقرًا؟ قد يتساءل البعض، ماذا قدم بيكيتى إلى الفكر العالمى حتى الآن؟ إن بيكيتى قدَّم للمرة الأولى أساسا اقتصاديا ومعايير قابلة للقياس الكمى لتفسير الظلم الاجتماعى وانعدام العدالة فى مجتمع الرأسمالية المتوحشة. فانعدام التكافؤ لم يعد كما كان قبل بيكيتى مجرد ظاهرة أخلاقية غامضة أو نزعة أنانية يصعب قياسها. لقد انقسم الاقتصاديون المعاصرون قبل بيكيتى إلى جماعتين رئيسيتين، الأولى تهتم بعملية خلق الثروة (الإنتاج) والثانية تهتم بعملية توزيع الثروة (الاستهلاك والدخل). ورغم أن كثيرين قبل بيكيتى تقدموا فى دراسة ظاهرة التفاوت فى توزيع الدخل، بدءا من تقليديين مثل آدم سميث وديفيد ريكاردو وكارل ماركس إلى محدثين من أمثال سايمون كوزنتس، إلا أن أحدا من المعاصرين لم يتقدم، قبل بيكيتى، لاقتحام تفسير ظاهرة «التفاوت وانعدام العدالة»، ولم يتمكن عالم غيره من فك شفرة تركز الثروة فى أوساط الأغنياء، ووضع قانون محكم لقياس التفاوت. وكشف بيكيتى ظاهرة التزايد المتصاعد لنصيب رأس المال على حساب نصيب العمل من الدخل القومى فى النظام الرأسمالى المعاصر، وأثبت بما لا يدع مجالا للشك وباستخدام أسلوب التتبع التاريخى لتوزيع الثروة منذ القرن الثامن عشر أن المجتمع الرأسمالى يتيح الفرصة للفئة التى تتحكم فى نسبة كبيرة من الثروة ولا يتجاوز حجمها نسبة ال1% من السكان لكى تتحكم فى الثروة والسلطة عبر الزمن. ويعارض توماس بيكيتى بقوة نظرية اقتصاد جانب العرض التى قادها وروج لها الاقتصادى الأمريكى ميلتون فريدمان منذ منتصف سبعينات القرن الماضى، والتى طبق أفكارها كل من الرئيس الأمريكى رونالد ريجان ورئيسة وزراء بريطانيا مارجريت تاتشر. ويقول بيكيتى مستندا إلى بيانات توزيع عوائد رأس المال والعمل ومعدلات النمو الاقتصادى على مدى سلسلة زمنية طويلة (تعود إلى عام 1700 فى فرنساوبريطانيا وإلى عام 1913 فى الولاياتالمتحدة) إن نصيب ال1% الأكثر ثراء فى الدول الرأسمالية يزيد فى العادة (تاريخيا) بمعدل يفوق معدل النمو الاقتصادى، وإن هذه الظاهرة تؤدى إلى تركيز متزايد للثروة فى أيدى القلة، كما أنها تؤدى إلى تركيز النفوذ السياسى أيضا فى داخل هذه الفئة أو من يمثلونها. ففى الولاياتالمتحدة على سبيل المثال زاد متوسط الدخل الحقيقى لفئة ال1% الأكثر ثراء بنسبة تراكمية بلغت 11.2% فى سنوات التعافى الاقتصادى (2009-2011) التى أعقبت الأزمة الاقتصادية عام 2008، فى حين أن نسبة نمو الدخل الحقيقى لبقية فئات المجتمع ال99% سجلت فتاتا تقل نسبته عن نصف نقطة مئوية (0.4%) فقط! لقد زاد نصيب نسبة ال1% الأكثر ثراء فى الولاياتالمتحدة من 8% من الناتج عام 1970 إلى 17% عام 2010، وشهد العقد الأول من القرن الحالى استحواذ نسبة ال1% على ثلاثة أرباع الزيادة فى الدخل. ليس ذلك فقط، بل إن بيكيتى يوضح أن 95% من هذه الزيادة استحوذ عليها عُشر الواحد فى المئة (0.1%). ويقول بيكيتى إنه بينما تعانى دول الاتحاد الأوروبى من أزمة مديونية عامة فإن ثروات الأغنياء الأوروبيين المستثمرة فى كل أنحاء العالم تزيد إلى ما يعادل أضعاف قيمة الناتج المحلى لأوروبا أو ما يقرب من قيمة كل احتياطى النقد الأجنبى للصين صاحبة أكبر احتياطى فى العالم. ويوضح بيكيتى أن قانون نمو العائد على الأصول الرأسمالية بمعدل يتجاوز معدل النمو الاقتصادى يؤدى إلى تراكم النمو لمصلحة الأثرياء وتركيز الثروة بينهم. وعلى سبيل المثال فإن معدل النمو الاقتصادى خلال مرحلة إعادة البناء بعد الحرب العالمية الثانية ارتفع إلى ما يتراوح بين 5 إلى 6% سنويا، لكنه تراجع الآن إلى ما يتراوح بين 1 إلى 2%، فى حين أن العائد على استثمار الأصول الرأسمالية ارتفع إلى ما يتراوح بين 4 إلى 5%. ويشير بيكيتى إلى اتساع نطاق تأثير «وراثة الثروة»، حيث كانت قيمة الثروة الموروثة المملوكة للأثرياء فى فرنسا تعادل قيمة الناتج المحلى السنوى فى فرنسا فى الخمسينيات، لكن هذه الثروة زادت الآن لتصل إلى نحو 6 أمثال الناتج فى فرنسا! واستنتج بيكيتى أن الفئات الأكثر ثراء فى الدول الرأسمالية حاليا عادت لتملك النصيب من الثروة القومية الذى كانت تمتلكه فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهو ما يعكس رجوعا إلى الوراء إلى المجتمع الأوليجاركى، وليس تقدما للأمام إلى المجتمع الديمقراطى. إن العالم لن يتناول قضايا الثروة والتفاوت بعد بيكيتى كما كان يتناولها قبل كتابه «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين»، وذلك على حد تعبير عالم الاقتصاد الأمريكى بول كروجمان (نوبل عام 2008). وعلى الصعيد العملى فإن بيكيتى هو من فرض على العالم كله قضية النقاش الأساسية هذا العام بضرورة مراجعة قيم النظام الرأسمالى وأهداف السياسة الاقتصادية ومعايير العدالة الاجتماعية فى عالم بدا فيه للأغلبية الكاسحة من المواطنين (نسبة ال99%) أن المجتمعات الرأسمالية باتت ترزح تحت نفوذ وسيطرة ال1% الأكثر ثراء.