منذ إعلان أبوبكر البغدادى قيام «دولة الخلافة» المزعومة من جامع النورى بالموصل فى 29 يونيو 2014، وعلى مدى ثلاث سنوات حبست الشعوب العربية أنفاسها وتعلقت بأمل أن يأتى اليوم الذى يختفى فيه هذا السواد الفكرى والانسانى من وطننا العربى والعالم بأسره. وما إن أعلن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، رسميا الانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية وسقوط «داعش» فى الموصل يوم 10 يوليو، ومن قبلها سقوط «عاصمة» التنظيم فى الرقة السورية، ثم تأكيد مقتل زعيم التنظيم أبو بكر البغدادى حتى بدأ الجميع يتنفس الصعداء. إلا إن نشوة النصر كانت مجرد لحظة، برز بعدها المشهد معقداً، وتموج به تساؤلات وإشكاليات عدة. لعل أولها يتعلق بمستقبل التنظيم ذاته وهل حقاً انتهت داعش؟. ورغم أن الإجابة المأمولة هى «نعم»، إلا أن واقع الحال والخبرة السابقة لتنظيمات مماثلة تشير إلى إنها كالأفاعى تغير جلدها وجحرها ولكنها لا تموت. فالتنظيم يبحث عن «عاصمة جديدة» و«زعيم جديد»، ويكثف من عملياته النوعية الموجعة هنا وهناك ليثبت أنه رغم تراجعه فى العراقوسوريا فهو مازال صامداً وقوياً وقادرا على إسالة الدماء البريئة الطاهرة فى أنحاء العالم. فقد أسس التنظيم قاعدة إعلامية تضم قنوات ناطقة بلغات عدة، ووسائل اتصال اجتماعى خاص به، إلى جانب اختراقه تلك القائمة التى نستخدمها جميعا، والأخطر مواقع للألعاب الالكترونية للأطفال لتجديد دمائه وحتى لا تنضب منابعه البشرية، إلى جانب منابعه المالية التى تأبى الدول الإقليمية الداعمة له فى تجفيفها وإحكام الخناق عليه. فقد سقطت «دولة الخلافة» ولكن التنظيم مازل قائماً، ودعا الأخير مسلحيه إلى مواصلة ما سماه «الثبات فى المعاقل»، ومازال القتال دائراً فى مناطق عدة فى العراق وعلى نطاق أوسع فى سوريا، وتمكن التنظيم فى اليوم التالى لإعلان النصر عليه ورغم فقدانه السيطرة على معقله فى الموصل من فرض سيطرته على قرية الإمام غربي، التى تقع على الضفة الغربية لنهر دجلة على بعد نحو 70 كيلومترا جنوبى الموصل باستخدام أساليب حرب العصابات. ثانيها، إشكالية عناصر التنظيم الفارة من القتال والهزيمة فى العراقوسوريا بعد أن تلقت تدريباً نوعياً وخبرة قتالية وصلات قوية مع التنظيمات والشبكات الارهابية، الأمر الذى يجعل منها تهديداً مباشراً وآنياً على الأمن القومى للعديد من الدول، والأمن الإقليمى بل والعالمى. فتضييق الخناق على التنظيم فى البلدين دفع الآلاف من عناصره إلى العودة لبلدانهم أو التوجه لدول أخرى تجد فيها ملاذاً وحاضنة لها، لتنتشر الخلايا الارهابية وما يطلق عليه «الذئاب المنفردة» فى مختلف أنحاء العالم. وتعتبر دول الجوار، ومنها مصر، الأكثر تضررا من هذا النزوح الارهابى خاصة مع ما تقدمه حماس من تسهيلات ودعم لهذه العناصر للتسلل للأراضى المصرية. ثالثها، أن المشكلة ليست فى داعش وحدها ولكن فى عشرات الفصائل والجماعات الارهابية التى مازالت تقاتل باستماتة على الأرض فى سورياوالعراق تحت مسميات مختلفة، خالقة بيئة مضطربة داعمة للارهاب بصفة عامة. وعلى سبيل المثال، منطقة خفض التصعيد جنوب غرب سوريا التى تم التوافق بشأنها بين واشنطن وموسكو واعتبرت «اختراق» من وجهة النظر الروسية، بها مقاتلين من أبناء المنطقة ينتمون لجبهة النصرة، وما يسمى قوات خالد بن الوليد الداعشية (نحو 1200 ارهابى)، إلى جانب 53 فصيلاً مسلحاً تستهدف قوات النظام السورى والدولة السورية. وهناك عشرات الفصائل الأخرى التى تنهش الجسد السورى فى أنحاء سوريا. يضاف إلى ذلك غموض مستقبل الشمال السورى فى ضوء احتلال قوات «درع الفرات» التركية نحو 5000 كم2 من الأراضى السورية بعد ادعائها الحرب على الارهاب، والاعتداءات التى تشنها القوات التركية على تلك الكردية فى سوريا، الأمر الذى يجعل الاستقرار ليس بقريب فى سوريا. ولا يقل المشهد فى العراق تعقيداً عنه فى سوريا، فالأكراد بعد الدور القوى الذى لعبته القوات الكردية فى هزيمة داعش فى العراقوسوريا تتطلع لحصاد كفاحها. ويثير قرار رئاسة إقليم كردستان مطلع يونيو الخاص بتنظيم استفتاء حول استقلال الإقليم فى 25 سبتمبر المخاوف من أن يضيف الأمر مزيداً من التعقيدات للمنطقة التى تعتصرها الصراعات والاضطرابات. فالقضية الكردية ليست شأنا عراقياً فحسب ولكنها تمس وحدة وسلامة تركيا وإيران وسوريا حيث تحتضن الدول الأربع الغالبية العظمى من الأكراد رغم اختلاف وضعهم فيها. فهم إرهابيون فى تركيا، وشركاء فى الحكم فى العراق، وأقلية متمتعة بحقوقها إلى حد ما فى سوريا وإيران. ومن الواضح أن هناك إرادة سياسية لدى حكومة أربيل لتنظيم الاستفتاء الذى من المتوقع أن تأتى نتائجه لصالح الاستقلال وهنا يبرز التساؤل حول ما سيؤدى إليه ذلك فى ضوء معارضة تركيا وإيران والحكومة العراقية ذاتها لهذا الاستقلال، أخذا فى الاعتبار قوة القوات الكردية وقدراتها القتالية العالية التى برزت بوضوح فى حربها ضد داعش. إن ما حققه العراق إنجاز ونصر كبير على قوى الظلام، ولكنه مجرد بداية إذا أردنا القضاء التام عليها وأن يكون رحليها إلى غير رجعة. لمزيد من مقالات د. نورهان الشيخ