لم يعد خافيا ان سقوط معاقل تنظيم داعش الإرهابى فى العالم العربى أصبح وشيكا. فالموصل، "عاصمة" التنظيم فى العراق، توشك على السقوط رغم ضراوة المعارك التى راح ضحيتها الكثير من المدنيين الأبرياء. كما ان الخناق يضيق على مدينة الرقة فى شمال سوريا، وهى معقل داعش فى البلاد، وذلك منذ سقوط مدينة الطبقة الواقعة على بعد 55 كيلومترا غربى الرقة فى 10 مايو 2017. ولاشك ان الحرب الأهلية التى تمزق سوريا منذ 2011 مسئولة إلى حد كبير عن تأخر معركة الرقة، حيث ان التناحر بين الأطراف المتحاربة لا يسمح بتكوين جبهة صلبة فى مواجهة داعش بخلاف الأمر فى العراق، حيث ساعد إتفاق الأطراف وهى القوات الحكومية المدعومة من ميليشيات "الحشد الشعبى" الشيعية و"البشمركة" الكردية، بالإضافة للتحالف الدولى الذى تقوده الولاياتالمتحدة، على تحقيق نتائج أسرع وأفضل مما هو الحال فى سوريا. لاريب ان سقوط معاقل داعش فى العراقوسوريا سيشكل انتصارا حاسما على هذا التنظيم، المسئول عن غالبية الأعمال الإرهابية فى الفترة الأخيرة، وسيعد ضربة قوية لغيره من تنظيمات الفكر المتطرف والتكفيرى. إلا انه لن يعنى بالضرورة نهاية التنظيم، فمن المرجح أن يتحول إلى ما يشبه غيره من الجماعات الإرهابية كالقاعدة التى لا تسيطر على أراض فى الدول التى تتواجد بها وإنما تتخفى فى المناطق الجبلية والوعرة حيث تخطط لعملياتها الإرهابية وترسل مقاتليها للتنفيذ أو تتواصل معهم عبر وسائل الإتصال الحديثة. وهناك مؤشرات على ذلك منها المعلومات التى تفيد بانسحاب العديد من أجهزة داعش من مدينة الرقة تحسبا للمعركة القادمة ولسقوطها. وهناك معلومات أخرى تفيد بفرار مقاتلين من داعش والتحاقهم بجماعات متطرفة أخرى فى سوريا، مثل جبهة فتح الشام المرتبطة بتنظيم القاعدة والتى كانت تدعى "جبهة النصرة" حتى يوليو 2016، ثم غيرت إسمها مرة أخرى فى يناير الماضى لكى يصبح "هيئة تحرير الشام" بعد إندماجها مع أربع جماعات دينية متطرفة. يعنى ما سبق ان سقوط معاقل داعش سيضعف التنظيم بشدة لأنه سيفقده السيطرة على الأرض وعلى الموارد، وهى ضرورية للتدريب والتسليح والقيام بالعمليات الإرهابية، بل انه سيفقده قيمة رمزية ومعنوية كبيرة تتمثل فى إنهيار ما أعلنه زعيمها أبوبكر البغدادى فى 2014 من قيام ما أسماه دولة الخلافة الإسلامية، إنطلاقا من سيطرته على أراض شاسعة وعدة مدن هامة فى العراقوسوريا. لكن خطر التنظيم، وإن تراجع، سيظل قائما وسيتخذ أشكالا جديدة. وهو ما يعنى ضرورة مواصلة الجهود على كافة الأصعدة الأمنية والسياسية والفكرية وإستمرار التحالف الدولى ضده وضد غيره من الجماعات المتطرفة والتكفيرية. ولاريب ان ماتمخضت عنه القمة الإسلامية العربية الأمريكية فى 21 مايو وتدشين مركز اعتدال لمجابهة الفكر المتطرف يصبان فى هذا الإتجاه. أحد النتائج الهامة الأخرى لسقوط معاقل داعش وإنحسار سيطرته على الأرض فى العراقوسوريا هى تصاعد نفوذ الأكراد فى كلا الدولتين والذى يمهد لإستقلالهم فى العراق ولإعلان إقليم كردى يتمتع بالحكم الذاتى فى سوريا. فقد استغل إقليم كردستان العراق المتمتع بالحكم الذاتى تراجع تنظيم داعش فى الأشهر الأخيرة وقامت ميليشياته المعروفة باسم البشمركة بضم العديد من الأراضى التى إنسحب منها وذلك خلال مشاركتها فى المعارك ضد التنظيم. ولا ينوى الأكراد الإنسحاب من تلك الأراضى وتسليمها للجيش العراقى كما تطالب بذلك بغداد، وإنما ينوون ضمها لإقليم كردستان، الذى يعتزمون فى وقت لاحق إعلان إستقلاله بعد إجراء إستفتاء لهذا الغرض لم يحدد موعده بعد. ولايخفى قادة الأكراد نيتهم الإستقلال بعد إنتهاء تحرير الموصل من قبضة داعش ولا ينفون نيتهم ضم المناطق التى إستولوا عليها فى الشمال العراقى والتى تنازعهم فيها حكومة بغداد. وتضم تلك المناطق مدينة كركوك الغنية بالنفط والتى دخلتها قوات البشمركة عقب إنسحاب الجيش العراقى منها فى يونيو 2014 أمام تقدم قوات داعش. وقد تم رفع علم كردستان عليها فى أوائل أبريل الماضى توطئة لضمها للمناطق المشمولة باستفتاء الإستقلال. وينطبق نفس الأمر على بعض أحياء مدينة الموصل وبعض المناطق المحيطة بها فى الشمال والغرب التى يريد الأكراد ضمها لكردستان العراق. ويتمتع الأكراد فى ذلك بدعم واضح من الولاياتالمتحدة التى تقدم لهم السلاح والمساندة السياسية. وينطبق نفس الأمر على أكراد سوريا المنضوين تحت لواء "وحدات حماية الشعب"، وهى المكون الأساسى لقوات سوريا الديمقراطية التى تعول عليها واشنطن لدحر تنظيم داعش وإسقاط معقله فى الرقة. وقد أعلن الأكراد فى نوفمبر 2013 إقامة "منطقة الإدارة الكردية فى شمال سوريا"وهى منطقة تتمتع واقعيا بالحكم الذاتى، وتضم ثلاث مقاطعات هى الجزيرة وعين العرب (كوبانى) وعفرين، وذلك منذ انسحاب الجيش السورى من تلك المناطق التى تقطنها غالبية كردية وتقع على طول الحدود مع تركيا. وتعتقد الولاياتالمتحدة ان قوات سوريا الديمقراطية هى الأقدر على هزيمة داعش بحكم العداء المستحكم بين الطرفين، ولذلك فهى تدعم الأكراد بقوة بالسلاح والتدريب والقوات الأمريكية التى زادت فى شمال سوريا منذ تولى الرئيس دونالد ترامب السلطة من 500 لنحو ألف جندى. كما ان القوات الأمريكية قامت بحماية القوات الكردية من الهجمات التركية برفع الأعلام الأمريكية على مدرعاتها التى أخذت تجوب المنطقة فى دوريات مشتركة مع قوات سوريا الديمقراطية. ومن المعروف ان تركيا تناصب العداء لأكراد سوريا الذين تعتبرهم مجرد إمتداد لحزب العمال الكردستانى التركى الذى يسعى لإنفصال كردستان تركيا ويخوض حربا مع أنقرة منذ 1984. كما انها تخشى من سعيهم لإنشاء إقليم حكم ذاتى على حدودها الجنوبية يكون ملاذا آمنا لمقاتلى حزب العمال الكردستانى ويشجع أكراد تركيا على المطالبة بالمثل وربما بالإستقلال. ولذلك قررت تركيا التدخل عسكريا فى شمال سوريا فى أغسطس الماضى لضرب مخططات الأكراد ومنع التواصل الجغرافى بين المناطق التى يسيطرون عليها. وقد نجحت جزئيا فى ذلك باحتلالها مدينة الباب فى فبراير الماضى. إلا الحماية التى توفرها القوات الأمريكية للأكراد منعتها من إستكمال مخططها. ويثير ذلك تساؤلات حول الأهداف الحقيقية للسياسة الأمريكية. فهل ينحصر الأمر فى مساندة القوات الكردية باعتبارها الأقدر على هزيمة داعش؟ أم ان الهدف يتخطى ذلك نحو تشجيع قيام دويلات على أسس عرقية ومذهبية وتفكيك وإضعاف الدول العربية؟ وهو ما يحيلنا إلى أهداف نظرية "الفوضى الخلاقة" التى روجت لها إدارة الرئيس جورج بوش الإبن. وقد يكون من المفيد فى هذا المقام ان نذكر بتأييد رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو الذى أعلنه فى 2014 لقيام دولة كردية فى شمال العراق. وهو الموقف الذى أكدته وزيرة العدل الإسرائيلية إيليت شاكيد فى يناير 2016، قائلة ان من شأنه إضعاف أعداء إسرائيل. لمزيد من مقالات د. هشام مراد;