صورة مصر الشعبية الحقيقية، خاصة تلك التي ترابط مسيحييها ومسلميها، تبدو أكثر جمالا وصدقا من الأحضان والمصافحات الرسمية التي تظهر على شاشات «التليفزيون» وصفحات الجرائد كلما وقع حادث طائفي. والغوص فى تاريخ مصر القبطية فى القرن الأول الميلادى يضعنا أمام مكونات هويتنا، ويوضح أن علاقة المسلمين والمسيحيين عظيمة عظم التاريخ. وكلمة قبطي مأخوذة من العبارة المصرية القديمة «حت كا بتاح»، أو «ها كا بتاح»، أو «بيت - كا (روح) - بتاح)، وهو اسم لمعبد مصري قديم في مدينة «منف»، أو «ممفيس»، التى كانت أول عاصمة لمصر القديمة. وقد حور الإغريق والبيزنطيون نطْق العبارة إلى «هي جي بتو»، وأضافوا حرف السين الذي يساوي الضَّمة في لغتهم، ويُضاف دائما إلى نهاية الأسماء، وبمرور الوقت أطلقوا إسم «هيجبتس»، أو «إيجيبتوس»، واشتقت منها كلمة EGYPT في اللغة الإنجليزية. يٌقال أن الكلمة العربية «قبط» ترجع ل «قبط بن مصرايم بن حام بن نوح»، وكان قبط أول من سكن مصر وينطق بالعربية قبط، وبالعبرية فتنطق «قفطايم»، وكان العرب يسمون مصر قديما بلاد القبط، فأصبحت كلمة قبط إشارة الي المصريين ، وتعبر عن المصريين القدماء. وكلمة «قبط» تدل على «شعب مصر» من دون النظر للانتماء الديني. ونجد فى الأثر أن العرب اشتقوا منها قبل الإسلام كلمة قَباطي إشارة إلى نسيج فاخر كان يصنع في مصر، تكسى به الكعبة في مكة قبل الإسلام. وبالعودة للتاريخ نجد أن السلطة فى ذاك الوقت كانت في أيدى أصحاب الديانة المسيحية، فأصبحت كلمة قبط تعبر عن أصحاب الديانة المسيحية، وتٌشير إليهم فى الخطاب الرسمى للدولة. وفى سنة 284م تغيرت اللغة الرسمية فى مصر إلى اللغة القبطية، وأصبحت الديانة الرسمية هى المسيحية مما كان له أكبر الأثر على الحياة الفكرية والثقافية والحضارية والفنية حيث أصبحت مصر موطنًا لحضارة من نوع جديد. لذا تجمع مصر القبطية بحكم التاريخ كل المصريين إلى الآن، والثقافة الشعبية القبطية هى ثقافة شعبية مصرية ولا تعنى بحال ثقافة دينية ولا مسيحية، لأنها جزء مهم من تاريخ المصريين وحياتهم اليومية، فكل منا يحمل فى تكوينه حضارات متراكمة من عصور مصر القديمة والعصرين القبطى والإسلامي، وأثرت فى تفكيرنا ووعينا وعاداتنا، ويتضح هذا فى كثير من مناحى الحياة، فقد ظل المصريون يستخدمون لغتهم القبطية لعدة قرون بعد دخول العرب، واللغة القبطية آخر مرحلة في تطور اللغة المصرية القديمة التى كان المصريون يكتبون ويقرأون بها خلال 5000 سنة، وما زالت تٌستخدم فى طقوس الكنيسة القبطية المصرية، والكنيسة القبطية مبنية على تعاليم القديس مارمرقس، الذي بشَّر بالمسيحية في مصر، خلال فترة حكم الحاكم الروماني «» في القرن الأول وانتشرت المسيحية في كل أنحاء مصر خلال نصف قرن من وصول مارمرقس إلى الإسكندرية. ويرجع الفضل فى المحافظة علي اللغه القبطية حتى الآن للكنيسة القبطية إذ تُتلى بها بعض القراءات والصلوات. وكثير من كلمات اللغة القبطية يستخدمها المسيحيين والمسلمين وما زالت تجرى على ألسنتنا دون أن ندرى أنها قبطية، مثل: «كانى وماني» أي «سمن وعسل»، وكان السمن والعسل أفضل هدية يقدمها الفلاح الفقير للكاهن، وايضا كلمات مثل «نهنه ونقش وننى العين وحوسة ووحوى يا وحوى وأوطه وطماطم ووخم وبهارات وبرجلات وبتاو وبلاش وبس وبرطم ورعرع ورنه ورغى وسك أي أغلق، وكذلك «ليلي يا عيني» أي «إفرحي يا عيني» دلالة علي شدة الفرح والطرب، وصهد بمعني النار الشديدة، ومن الطرائف أن كلمة «حالُّو» قبطية ومعناها «شيخ»، ومنها جاءت الأغنية الشعبية الرمضانية «حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو»، والأطفال يستجدون بها العيدية من الشيخ. ومن أسماء المحافظات نلاحظ أن المدن والمحافاظات مازالت تحتفظ بأسمائها القبطية: فنجد مدينة «أبو قير» نسبة الي الشهيد «أباكير» شقيق الشهيد «يوحنا» اللذين يُعرفا في التاريخ باسم «الشهيدين أباكير ويوحنا» وكانت لهما كنيسة ضخمة في تلك المدينة، وسُميت أبو قير تخليدا لاسم الشهيد. ومدينة «أبنوب» بمحافظة أسيوط ومعناها «الذهب»، و«الفيوم» تعني «البحر» في القبطية، و«المطرية» أصلها «با تي ري» ومعناها «بيت رع» أو «مدينة الشمس»، وكانت مركزا ضخما لعبادة الإله «رع»، ومدينة «باجور» تعني «ذات القوة»، و«دمنهور» مدينة الإله حورس، و«بلبيس» مدينة الإله بس، و«شبرا» معناها «عزبة»، ومنها «شبرا خيت» العزبة الشمالية، و«شبرا منت» العزبة الغربية، و«قنا» معناها «الحضن» لأن النيل يحضن الأرض هناك، و«ملوي» هي «مخزن الأشياء»، و«نقادة» أصلها «ني كاتي» بالقبطية معناها بلد «الفهماء» أو «أهل الفهم»، وكلمة «مِيت» (بكسر الميم تعني طريق مثل ميت غمر، وميت رهينة.. إلخ. والفلاح المصرى ما زال إلى الآن يستخدم «التقويم القبطي» فى الزراعة والحصاد، والدورة الزراعية، وأوقات البرد والحر والرياح، ويعتمد في تقويمه الشهور القبطية مثل «توتو بابه وهاتور وكيهك وطوب، وأمشير..وغيرها». وكثيرة هي الأمثال الشعبية المرتبطة بهذه الشهور مث «بابه ادخل واقفل البوابة»، و«كياك صباحك مساك»، و«طوبة تخلِّى الصبية كركوبة»، و«برمهات روح الغيط وهات»، و«أمشير أبو الزعابيب كتير». وهذا يوضح أن الثقافة الشعبية المصرية قبطية في جزء كبير منها، ومخطئ من يظنها ثقافة دينية أو مسيحية، لأنهاجزء صميم من تاريخنا وحياتنا اليومية. والحديث عن الثقافة الشعبية القبطية هنا لا يقصد به الشعائر والطقوس الدينية، بل نتحدث عن الاحتفال الشعبى والأعراف، والعادات الشعبية التى تصاحب هذة الطقوس، والشعائر حيث يتدخل الطابع المصرى فى طريقة التعبير، لذا نرى أنشطة شعبية مصاحبة عادة للاحتفال الدينى الرسمى لا يختلف فيها المسيحيون عن المسلمين، ففى الموالد القبطية تقام الاحتفالات بذكرى قديس معين، نفس القديس الذي تمجده الكنيسة، لكن في الاحتفال نجده فى موكب أيقونة القديس، الذى يتزاحم فيه الألوف لنيل البركة من الأيقونة، وتٌقدم النذور والأضاحى، وتتواجد وتنتعش الأنشطة التجارية والترفيهية، ويبيت الزوار حول الدير، ويستمتع كثير من الزوار برسم الوشم، وكل ذلك مظاهر شعبية تواكب هذة الاحتفالات الدينية وكل هذة المظاهر الاحتفالية هى بالظبط نفس المظاهر الاحتفالية فى موالد أولياء الله عند المسلمين فالاحتفال بمولد القديس لا يختلف عن الاحتفال بمولد الولى، فكلها تتخللها التراتيل والمدائح والإنشاد الدينى والأغانى. والإحتفال بالأعياد المسيحية خارج الكنائس يعتمد على العادات الشعبية أكثر منها دينية، مثل عيد الغطاس وهوالاحتفال بذكرى عماد «السيد المسيح» فى نهر الأردن، ويكون باحتفال كنسى تقام فيه الصلوات، وبجانبه احتفال شعبى بالقصب والقلقاس واليوسفي، وهذه الطريقة فى الاحتفال بتفضيل أكلات معينة مصرية شعبية للتعبير عن الاحتفالات عموما. واهتم المسلمون خاصة في العصر الفاطمي بالاحتفال بأعياد الأقباط خاصة رأس السنة الميلادية، فكانت أعياد الأقباط في مصر الفاطمية بمثابة أعياد قومية رسمية للدولة، وتحتسبها عطلة رسمية للشعب، ويتم فيها غلق المصالح الرسمية والأسواق والمحال التجارية، وتوزع الدولة الكساء على الشعب دون تفرقه بين مسلم أومسيحي، فالبيئة المصرية الواحدة صنعت موروثًا شعبيًا واحدًا، والأغنية الفلكلورية المصرية مفعمة بالحياة وتملك القدرة على التغير والتطور، فنجدها في الحج تُطوع نفسها بما يلائم الحاج المسيحى أو المسلم، فالأغانى تقال للحاج المسلم أثناء زيارته النبى (صلى الله علية وسلم) هى نفسها التى تقال للحاج المسيحى أثناء زيارة القدس ومنها: حج مسيحى: على فين يا مقدسة بتوبك القطيفة رايحة أزور المسيح وأعول الضعيفة حج إسلامى: رايحه فين يا حاجة يا أم الشال قطيفة رايحه أزور النبى والكعبة الشريفة حج مسيحى: إن نويت يا مقدس خد أبيض وشيله عند بحر الشريعة يا محلى غسيله حج إسلامى: لما نويت يا حاج خد الأبيض وشيله على جبل عرفات يا محلى غسيله وتمثل الخطبة عند المسيحيين مرحلة مهمة، لعدم وجود طلاق، لذا فهم يدققون كثيرا عند اتمام الخطبة وقبل إتمام الزواج، وفي اختيار الشريك يوجد اتفاق بين المسيحيين والمسلمين، من حيث التمسك بالقيم والأخلاق والعادات، والأهم شبة الاتفاق فى الطقوس المتبعة فحينما يتفق أهل الخطيب والخطيبة على كل الأمور يقرءون «جبنيوت.. أبانا الذى..»، وهو يشبه الفاتحة عند المسلمين، ويحددون موعد الخطبة الرسمى إما فى الكنيسة أو فى البيت، ويتم شراء الذهب وتسمى الشبكة، وتكاليف الخطبة كلها على أهل العروس، ويمتلئ بيت العروسة بالأغانى والزغاريد، وتلبس العروس الدبلة فى اليد اليمنى ولكى يجرى الكاهن الخطبة لابد أن يعرف بعض البيانات مثل أن يكون الاثنان مؤمنين متفقين فى الدين والعقيدة، بالغين الحد الأدنى لسن الزواج ويكتب الكاهن محضرا رسميا بحضور الخطيبين ويوقع عليه كلا من الخطيبين والوكيلين والشهود. ويجوز فك الخطبة إذا لم يشعر العروسين بالارتياح. ونجد أن الفن القبطى استمد الكثير من الرموز والعناصر والأشكال المصرية القديمة، وتأثر بها كثيرا إلا أنه أصبح للفن القبطى شخصيته الواضحهة نهاية القرن الرابع وبداية الخامس الميلادى، واستخدمت الكتابة القبطية في الزخرفة مثلما كانت الكتابة الهيروغليفية. واستمر الفن القبطي مزدهرا بعد الفتح العربي عام (640م) قرابة قرنين من الزمان، ولما دخل الإسلام مصر اشتغل كثير من رجال المعمار الأقباط فى إنشاء المساجد والعمائر، ومن الفن القبطى أخذ الفن الإسلامى المحراب والمئذنة والقباب. فالتراث القبطى جوهر الوعى المصرى الإنسانى «الاسلامى والمسيحى»، لذا نجد خصوصية شديدة فى علاقة المسلم بالمسيحى فى مصر، فلا تقتصر على التآخى والترابط، بل هى خيط قوى ومتين وتاريخ يمتد لقرون طويلة وعقود من الفرح والحزن والصبر والانهزام والانتصار يربط هذا الشعب ببعضه .. انها رابطة لن يفهمها الا المصريين.