ان اى كتابة باللغة العربية او بغيرها من اللغات وعبر مختلف المنابر تتجاهل ما حدث فى مصر أخيرا وبتعاقب دراماتيكى من عمليات ارهابية ضد الاقباط، لا تستطيع ان تزعم أن كل هذا الدم سقط سهوا ، كما انها لا تستطيع تبرئة نفسها من التواطؤ لأن الصمت فى مثل هذه المواقف يتخطى التواطؤ الى المشاركة ولو على نحو افتراضى . مِن تفجير كنائس الى الاجهاز الوحشى على حافلة تنقل مدنيين لممارسة طقس دينى مسافة مأهولة بالكمائن المتربصة، ليس بالاقباط فقط، بل بمصر لأن الارهاب يستهدف وحدتها بعد ان فشل مرارا فى تفكيك الدولة ومَلْشنتها، وهناك قرائن عديدة بمتناول اى باحث فى هذا الشجن المزمن، يجزم حاصل جمعها بأن استراتيجية قضم الاحشاء كانت الخطة باء قدر تعلق الامر بمصر، بعد ان فشلت الخطة الف، وهذا يعيدنا اربعة عقود الى الوراء حين كانت تقارير بول فولفويتس نائب وزير الدفاع الامريكى تحدد المقاربات الناجعة لبعض الدول العربية، وقال ان منها ما يمكن اسقاطه وتفكيكه من الخارج، ومن المعروف ان فولفويتس كوفئ برئاسة البنك الدولى مثلما كوفئ ماكنمارا من قبل، وكان العراق هو النموذج، لأن من سميّ زورا الحاكم المدنى للعراق بريمر زعم فى مذكراته ان الطوائف هى التى حدّدت له اتجاه البوصلة، وكان حلّ الجيش العراقى وهو من اعرق الجيوش العربية واكثرها عددا بمثابة التمهيد لتشطير العراق وفق خطوط طول وعرض طائفية ومذهبية وعرقية، والارجح ان ما فى خزائن الاستشراق الامريكى بالتحديد من ملفات وتقارير دفع امراء الحرب وتجار السلاح الى الاعتقاد الراسخ أن مصر عصية على هذه الوصفة، فهى منذ اقدم العصور كانت امثولة فى الالتئام الوطنى ازاء الغزو الخارجي، وفى التاريخ الحديث بدءا من حادثة دنشواى الشهيرة عام 1906 مرورا بثورة 1919 نجت من القاعدة الانجلوساكسونية الذهبية التى تأسست على نظريّة فرّق تسُد، لهذا لم يستطع الاحتلال التفريق وبذلك فقد سيادته وبدأ يجرّب اساليب اخرى للاحتواء، اما الرهان على نمذجة التجربة العراقية السوداء التى كان من نتائجها المأساوية والعديدة تهجير ملايين المسيحيين، فهو خاسر بالضرورة وبشواهد الواقع وليس بالتمنى ، ولعل ما يصدر تباعا عن الاقباط فى مصر بمختلف المستويات والمواقع، يقدم الضمانة المُدججة بالوعى لبقاء الاقباط على قيد الوطن، لأنهم كما قال البابا شنودة ذات يوم وطن الوطن، لأن الوطن يسكن فى داخلهم، وهذا ما تكرر على لسان البابا تواضروس الذى تحولت مقولته عن مصر بلا كنائس خير من كنائس بلا مصر الى ايقونة وقول مأثور فى اوساط المسيحيين العرب على امتداد هذا الوطن . والارجح ان الاقباط والمسلمين كلهم قد تلقحوا ضد الاصابة بالتشظى بأمصال باهظة الثمن، لهذا شحذ الارهاب عبر عملياته المتزامنة احيانا والمتعاقبة احيانا اخرى مناعتهم فكان الخيار الوحيد هو البقاء جزءا اصيلا ومكونا تاريخيا وقوميا من النسيج المصري، فلا هجرة ولا استقواء بالخارج، وبذلك سقط الرهان المزدوج، وذات يوم ستكون لمصطلح العبور فى مستقبل مصر دلالتان احداهما عسكرية هى حرب اكتوبر عام 1973، والثانية سياسية ووطنية ومدنية تتلخص فى عبور مصر ليس لقناة من الماء بل لقنوات من الدم، الذى يوحّد المنبع والمصّب معا ! وما ينبغى التذكير به وبإلحاح اذا تطلّب الامر هو ان مصر تدفع ثمنا لافشال مشروع تفكيكها وتحويلها الى ميليشيات لأنها ابطلت مفاعيل التقسيم وتداركت حربا أهلية، وحين نقارن بين الوصفة التى اقترحت لتدمير العراق وتفكيكه وبين الوصفة التى اقترحت لمصر، نجد ان هناك حلقة مفقودة، نادرا ما يشير اليها او حتى يفطن لها المحللون وهى ان مصر منذ اواسط القرن التاسع عشر تبلورت فيها الوطنية المحلية، فهى مصرية بقدر ما هى عربية ومسلمة وافريقية ايضا، بخلاف العراق الذى قفز من الاحتلال العثمانى الى الاطروحة القومية ، ولو اتيح لأحزاب وشخصيات عراقية من طراز كامل الجادرحى ان تستكمل دورها لكانت المرادف العراقى لمصر سعد زغلول وثورة عام 1919 ومن هنا تتضح بعض الفروق المحلية بين ثورة 1919 فى مصر وثورة 1920فى العراق، رغم ان القاسم المشترك انسانيا وتاريخيا ووطنيا هو التحرر من الاحتلال البريطانى . وقد يكون شعار مصر للمصريين، الذى رفع ضد الاحتلال الانجليزى فى مصر تعرّض لإساءة فهم من بعض المؤرخين، وهناك من الخصوم التقليديين لمصر لمختلف الاسباب ومعظمها بات معروفا، يقرأون هذا الشعار كما لو انه يعزل مصر عن العالم العربي، متجاهلين ان الشعار رُفع فى ظل الاحتلال ونهب الثروات الوطنية . ان معظم ما تتداوله الميديا والجنرالات العاطلون عن الحروب ممن يطلق عليهم لقب خبراء حول مصر الان، يُذكّرنا باسطورة هندية عن ستة عميان سقطوا معا على جسد الفيل، فوصف كل واحد منهم العضو الذى ارتطم به من الفيل . فمن تخصصوا فى رصد الازمات الاقتصادية فى مصر من فقهاء اقتصاد السوق او اسلام السوق كما يسميه باتريك هاينى لا يرون غير تلك الازمات ويعزلونها عن مقدماتها، والحقيقة ان كل ما يوصف بانه سلبى الان فى مصر وعلى مختلف الصُّعُد يعتبر بمقياس موضوعى وبانورامى ثمنا زهيدا لبقاء الدولة ومؤسساتها وعدم السقوط فى فوضى غير خلاقة على الاطلاق. ولو شئنا تبسيط المسألة، فإن من ينجو من حادث سير مروّع يهنأ على نجاته رغم ما نزفه من دم او تسبب به الحادث من رضوض وكسور قابلة للشفاء، لكن ما حدث فى عالمنا العربى وفى خريفه ذى القناع الاخضر الزائف ليس فقط حادث سير، بل هو أعسر اختبار فى العصر الحديث لما تبقى على قيد التاريخ من مقومات ولم يفقد صلاحيته . اما القول، الذى اصبح موسميا حول الفراغ الذى تركته مصر وملأته قوى اخرى فى الاقليم، فهو يقترف خطأ مزدوجا يحوله الى خطيئة، لأن مصر لم تنسحب ولم تغِب رغم محاولات التّغييب، وهى بتعدادها الديموغرافى ثلث الوطن العربي، وبما لها من استحقاقات ريادية وتاريخية لا تمارس دورا موروثا فقط بل تجترحه، لأن هذا قدرها، كما قال العالم الراحل د . جمال حمدان، والذى لو بقى حياً ورأى ما نرى الان لأضاف الى كتابه عبقرية المكان جزءا آخر بعنوان عبقرية الزمان لأن القدر حين يكون تاريخيا وجغرافيا معا يتعذر الفكاك منه . لمزيد من مقالات خيرى منصور;